إن ما نقرأه عند طارق إمام هو حكاية ” سالم ” .. ذلك الذي لا يعدو موظفا للتعداد السكاني مسئولا عن حي الأزهر .. و هي مهمة تكفي ــ أو تكاد ــ لدفع صاحبها إلى درجة من الوهم لا يحسد عليها ، فلديه يد تكتب الشعر مبعدة و متفرجة .. و لديه يد أخرى غارقة في الخبرة الإنسانية وصولا إلى حدها الأقصى ــ القتل ــ ز. لكن و حتى تكتمل أسطورة السرد ، لا يكون هذا مانراه بوضوح عبر تراتب مقاطع النص .
ولعل تلك القدرات الفانتازية التي يمنحها الكاتب لبطله تطرح نوعاً من المفارقة الدالة .. مع كون البطل نفسه ــ على أرضية الواقع ــ شخصا يكاد لا يرى بالعين المجردة .. بل و يستطيع حتى سائق التاكسي أن يضعه تحت وطأة قهر يدفعه ليحكي فصلا كاملا من الرواية.هذه المفارقة هي ما تنقل حدود الفانتازيا هنا إلى درجة من بناء الأسطورة التي يؤكد ” بارت ” على أنها يمكن أن تكون أي شيء .
المفارقة نفسها هي نقطة الارتكاز التي يتحلل عندها السرد في هذا النص بين الوهم و المجاز و الواقع عبر العلاقة الأسطورية بين يدي “سالم ” . إن المنطق الذي يدفع القاتل لفعلته التي لا تلقى بالا للأخلاق هو فقط أن شاعرا ما يسكن جانبه الأيسر، و يريد أن يكمل ديوان خلاصه.. لكن انتصار السارد على هذه المفارقة يتبدى من أن الحاكي هو القاتل / المتخيل أصلا بالمناسبة .. بقدر ماهو الإحصائي .. و ليس على أي حال الشاعر ، و ” الأمارة ” أننا لم نقرأ له سطرا شعريا واحدا في الرواية .. بل نسمع القاتل يملي عليه ما قد يكتب أو لا يكتب .
و بقدر ما يشي هذا بانحياز الراوي لصف القتلة و الذين يبشر بهم من العنوان الى مشهد الختام .. فإنه يعكس لعبة أصبحت مطروقة في السرد الراهن هي انتقال لسان الراوي إلى المتخيل الذي أصبح حضوره طاغيا على حضور الواقع بل و مسربا له . ولذلك .. فبدءا من البطل يبدو كل شيء في هذه الرواية مجهلا .. فنحن لا نكاد نتعرف على سالم الإحصائي الا من ثقب باب السرد ، و يكون الأمر أعنف ، بالنظر إلى ” سلمى ” .. وجه العملة الآخر ، هو يعيش ثلاث حيوات ، بينما تموت هي موتات ثلاث على يديه .
تموت مرة عندما نتعرف على هناء بعد زواج سلمى ، و مرة عندما يذهب سالم إلى بيتها ليدخله ليس كما يدخل القتلة ، و إنما كما يدخل العشاق .. و الثالثة عندما كان في لقائه بالزوج / ضابط المباحث ، و قبل لقائه بهناء و نهاية الرواية .عندها حضرت هي ، سلمى ، لتقف وفي المنتصف تماما بين الرجلين ، سالم و زوجها ، لتموت مرة ثالثة ، لكنه الآن ــ و فيما يبدو ــ كان موتا مؤكدا ، نهاية ” نهائية ” لسلمى ، ذلك الشوط من رحلة سالم ، و التي فجر غيابها كل هذا البحث عن الهوية .. الذي بدأ بمواراتها التراب لتظهر ” هناء ” التي تعكس جزءا آخر من شخصية سالم .. هناء تنتمي إلى صف القتلة ــ اختلافا عن سلمى ــ انها اليد القاتلة باستعارته هو في مقابل سلمى ــ اليد الشاعرة .
لكن طارق إمام لايسمح لنا بأن نصدق شيئا في هذه الرواية ، فيتركنا قبل أن نعرف من قتل الآخر : هناء أم سالم ؟ و لنظل بعدد من الأسئلة تجاه الشخوص قد لا تجد لها إجابة .. فرغم حضور هناء و سلمى بهذه القوة ، فإنهما لا يمثلان أكثر من قصيدتين في ديوان سالم ..أعني إذا نظرنا إلى شخصيات القتلى الآخرين ” المصور ــ بائعة الورد ــ سوسن “ و هي شخصيات متحققة عيانا ، و مختلفة جذريا عن تكوين سلمى و هناء .. فأي منطق كان يحكم فعل القتل / الكتابة / الخبرة هنا ؟! .. يدعم هذا السؤال أن ننظر إلى سائق التاكسي الذي يكسر قاعدة القتلى في لعبة تجهيل أخرى .. قد تكون نوعا ما مكشوفة .. ثم ماذا عن ” جابر ” و ” ليل ” اللذين يتمتعان بقدرة فائقة على اختراق عوالم سالم .. الإحصائي و القاتل لأول مرة .. هل هما إذن وجودان متعينان ؟ .. أم محض أشباح تقف في صف القتلة الهادئين : سالم و هناء و جابر و ليل ؟! .. ليبدو القتل فعل هروب و تحرر ” جابر / ليل ” بقدر ما هو فعل رغبة و كشف ” هناء / سالم ” ، بل ــ و عبر امتزاجه بالشعر ــ فهو فعل بحث عن الشق الآخر من الهوية .. تلك التي يؤذيها كثيراً أن تُهجر .
إننا أمام سرد من نوع محير ، و ذلك فقط بقدرته الملحة على لعبة ” التجهيل و التعمية ” إن في نقطة انفجاره .. أو في منطق توتره و تناميه ..بما يجعل هذه الرواية حلقة في سلسلة المزاج الروائي ذائع الصيت ــ فهو قد يبدو لعبة تجهيل .. تتهرب ما وسعها من رواية السيرة الذاتية ، تلك التي تتسرب إليها العين عبر ثقب الباب ــ إن مزجاً بين دواخل الشخصيات و خارجها ” تعينها ووهمها “ هنا ، هو مزج مبني على مفارقة لا يمكن حلها أبداً .. على الأقل لأن الكاتب حين يعرضها علينا يكون قد انتهى لتوه من الكتابة .. و رغم ان هذا شأن القراءة الثانية ، إلا ان كم التفاصيل التي يغرقنا فيها الراوي لابد سيصرف أعيننا كثيراً عن مفارقته الأولى .. ان كان ثمة ما يدعي ذلك .
و تبدأ هذه الفاصيل منذ أن يرمي لنا الكاتب طُعماً شهياً عن القاهرة .. لكنه بعد سطر واحد يقرر ان يورطنا في حكاية اخرى .. لا نكاد نفيق لها حتى نغرق في ثالثة .. و هكذا ..فالقاهرة تختفي ثم تتسرب من حين لآخر .. و لا غرابة ، فهي حكاية مركزية يريد لها ان تكون مظلة السرد الضبابية المغطاة بملايين الطيور النافقة ، كما يليق بالمدينة العجوز .
لكننا قبل أن نعرف كل هذا نكون انزلقنا بالفعل في حكاية الناسك ، الذي يعثر سالم على مخطوطه و يبدأ في كشفه لنا .. و كشف نفسه عبره .. في نوع من الكشف أشبه بالتعري قطعة .. قطعة .
و في الطريق أيضاً ستمر بجابر و ليل و سوسن و المصور و بائعة الورد و الذين يسكنون هامشاً أبعد من هامش التسعينيات .. هو هامش الحياة و الوجود أصلاً ، ثم الضابط و سلمى و هناء .. لكننا سنمر أيضاً بحكايات متتابعة تشبه حالات من الطرق المتوتر على الرأس .
التاكسي و سائقه العجوز ، البائعة و الفاترينة و المانيكان و الطفل ذي الحضور الخاص .. حكاية هيئة التعداد و الشارع و شكاوى الجرائد و المولد الشيطاني هذا .. و الكراسي المتحركة .
هي عناصر أسطورة بامتياز ..اذ هي بقدر حضورها من عوالم متنافية تماماً .. يملك السرد بسحريته أن يجمعها في شخص واحد هو بطل كل مشاهد الرواية .. ومع ذلك تظل لكل حكاية منها أهلية أن تصبح مفتتحاً لقراءة النص .. غير أن النص لا يصرح بهذا حتى فصله التاسع ــ عندما تبدأ لعبة التصفية .. و حيث لا يملك الحضور ، من بعد إلا من له القدرة عليه .. سواء من الحكايات التي ستبدو أكثر مركزية بتمددها عبر النص .. أو الأخرى التي قد تتوارى تماماً كحكايات القتلة مثلاً .. أو حتى تلك التي تعيش في لزمات يخلقها النص كالمانيكان ــ أو الطيور النافقة ــ و هذا التجهيل الذي يتم عبر لعبة الهدم و البناء ، قد يتجاوز حدود اللعب القصوى .. و ذلك بسخريته البالغة من لغة الوصف التي تلتقط مالا تلتقطه الأعين غير المدربة .. كأن يعد سالم فتحات ” الدوش ” الذي يستحم تحته .. أي فراغ ؟! .
وهي ــ دقة الوصف أحياناً ــ تأكيد لفعل التجهيل بسخريتها حيناً .. و بتغاضيها عن سد فراغات السرد بصورة تبدو مقصودة حيناً آخر .. لنُترك نحن دون أن نعرف أي صورة علينا أن نتخيل هنا ..هل الشاعر الذي يتخيل قصيدة عن جسد مغطى بالوشم .. أو قاتل متسلسل يتباهى أمام المرآة بجسمه الموشى عارياً .. أم الموظف الصغير الذي يرتدي قميصاً باهت اللون .. محكم الأزرار كما يتساءل جابر ؟! .
وعلى اللغة أن تستجيب لذلك التعقد السردي ، فهي تنتج توصيفات مجهرية لكنها من النوع الذي يُبدي الأشياء أكبر من حجمها بحيث تبدو ضبابية سريالية لا تكاد معالمها تتحدد .. أنظر إلى مشهد الطيور النافقة على وجه القاهرة أو التاكسي أو حتى أصحاب الكراسي المتحركة . إن مفردات الوصف هنا من ذلك النوع الذي لا يمكنك الإمساك به إلا مجهلاً .
ثم إن اللغة في تعدد مستوياتها عبر جنبات الرواية تلعب ألعاباً من التكثيف و الإزاحة عندما تخطف العين و الأذن في نص المخطوط ، إلى تلك التي تستعمل أذن القاريء فقط في الحوار ــ مثلاً ــ مع جابر و ليل .. و لعل هذا التعدداللغوي هو المسئول الأول عن أن السرد هنا لا يسمح لنا بالوقوف على أرض صلبة .. فعبر العلاقة بين هذه المستويات اللغوية نتوزع نحن على العوالم المختلفة التي دفعت بمستوى لغوي ما إلى النص ” حقوله الدلالية ” .. و بالقدر نفسه في التجهيل يشارك اعتماد الكتابة على فعل المستقبل ، الذي يشي بإلهية الراوي، بقدر ما هو يفتح ” باب جحا ” على مصراعيه أمام القاريء .. فيقف ذلك المسكين حائراً في الزمان ، كما في المكان .
ان هدوء القتلة يبدو ــ بالنسبة لي ــ نصاً مفعماً و شديد الدلالة على اللحظة السردية التي يظهر فيها ، سواء بالنسبة لكاتبه ، أو بالنسبة لحركة الرواية الراهنة .