أحـمد عبد الرحـيم
منذ أن اُقتبس الفيلم الفرنسى Card Game أو لعبة ورق (1896) فى الفيلم الفرنسى الآخر Playing Cards أو لعب الورق، المُنتَج بعده فى العام نفسه، واقتباس الأفلام القديمة فى أفلام جديدة لا يزال مستمرًّا فى السينما العالمية إلى اليوم. وحتى السينما الأمريكية، بـ”جلالة قدرها”، لا تتوقف عن اقتباس أفلام أوروبية، وآسيوية، بل أفلام أمريكية سابقة. لذا فإن الاقتباس فى ذاته ليس هو القضية. لكن القضية هى كيف يكون هذا الاقتباس؟ وما نتيجته؟
فى السينما المصرية، انحصر الاقتباس فى 3 أنواع: الأول هو الاقتباس الردىء، الذى يشوِّه أصله، هابطًا بنفسه إلى الحضيض، مثل فيلم آخر جنان (1965) إخراج عيسى كرامة، المأخوذ عن الفيلم الأمريكى Arsenic and Old Lace أو الزرنيخ والدانتيلا القديمة (1944) للمخرج فرانك كابرا، الذى قَلَب كوميديا سوداء ثمينة إلى تهريج رخيص. الثانى هو الاقتباس الحَرفىُّ، الذى ينسخ الأصل كربونيًّا، ولا يغيِّر فيه إلا تفاصيل هامشية قد يفرضها الزمان أو المكان المنقول إليه؛ ولا أدلَّ على ذلك من أفلام المخرج شريف شعبان، التى تعترف صراحة بنقلها أفلامًا أمريكية مشهدًا مشهدًا، حرفًا حرفًا، فى غياب للإبداع، وتَقدُّم للتنفيذ الذى ينتهى دومًا على نحو أقل جودة، مثل: فيلم الچينز (1994) المأخوذ عن فيلم Pretty Woman أو امرأة جميلة (1990) للمخرج جارى مارشال، وفيلم طأطأ وريكا وكاظم بيه (1995) المأخوذ عن فيلمBedtime Story أو حدوتة قبل النوم (1964) للمخرج رالف ليڤى، وفيلم فرقة بنات وبس (2000) المأخوذ عن فيلم Some Like it Hot أو البعض يفضلونها ساخنة (1959) للمخرج بيلى وايلدر؛ حيث يشبه الأمر غش تلميذ لم يذاكر، لإجابة تلميذ مجتهد، بخط ركيك لم ينف صحة الإجابة. أما الثالث، وهو الأندر، فهو الاقتباس المبدع؛ وفيه يتفوّق العمل المقتبس على أصله، وهو ما حقّقته السينما المصرية فى أحيان فريدة، نستعرض منها الأمثلة الثلاثة التالية:
**
الأصل: الفيلم البريطانى Adam and Evalyn أو آدم وإيفيلين (1949). عن قصة من تأليف: نويل لانجلى. سيناريو: چورچ باراد، نيكولاس فيبس، ليزلى ستورم. بطولة: ستيوارت جرنجر، چين سيمونز، هيلين تشيرى، رايموند يانج. إخراج: هارولد فرينش.
الصورة: الفيلم المصرى قلوب الناس (1954). القصة مقتبسة بتصرُّف عن “الأب المزيف” للكاتب الفرنسى چول مارى. أعدّها للسينما: محمد الإمام. سيناريو وحوار: السيد بدير. بطولة: أنور وجدى، فاتن حمامة، حسين رياض، زوزو نبيل. إخراج: حسن الإمام.
على الرغم من أن الفيلم البريطانى مأخوذ عن قصة لنويل لانجلى، وأن الفيلم المصرى يقطع بوضوح أنه مأخوذ بتصرف عن قصة أخرى لچول مارى، فإن التشابه بين القصتين يصل إلى حد التطابق. ففى الفيلمين، هناك فتاة فى مطلع الشباب، ماتت أمها، وتعيش فى ملجأ أيتام (“مدرسة داخلية” فى النسخة المصرية)، حيث تتراسل مع أبيها الذى لم تره من قبل. يغيب الأب عن مقابلته الأولى مع ابنته، ليذهب صديقه إليها بدلًا منه، فتتوهم أنه الأب. يعجز الصديق عن مصارحة الفتاة بالحقيقة، وهو ما يسمح بدخولها إلى حياته، وتغييرها لطباعه. هذا الصديق يدير ناديًا للقمار، ويخفى ذلك عن الفتاة، مُدعيًا أنه يتكسب أمواله كـ”رجل أعمال”. ترتبط الفتاة بعلاقة مع شاب مستهتر، وحينما يرفض البطل علاقتهما، يفشى لها الشاب انخراط البطل فى القمار. يدب شقاق بين البطلة والبطل، ثم تحدث مصالحة، وبعد انكشاف أنه ليس والدها، يجمعهما الحب فى نهاية سعيدة، رغم الفارق النسبى فى عمريهما. بل إن هناك نقاطًا مكرَّرة بحذافيرها: مثل محبة البطل لسباقات الخيل، مدير طيّب لمنزل البطل تربطه علاقة قديمة به ويفشل فى إخبار البطلة أنها ليست ابنته (“مديرة” فى النسخة المصرية)، إيقاظ البطلة للبطل من النوم مبكرًا فى اليوم التالى للقائهما، شراء البطل فساتين جديدة للبطلة، ودعوته الآخرين إلى منزله كى تختلط بهم اجتماعيًّا. عجز أحد المقامرين عن سداد ديونه للبطل، مُستبدلًا إياها بقطعة مجوهرات يهديها البطل للبطلة، تآمر صديقة البطل القديمة لتدمير مستقبله انتقامًا من رفضه الزواج بها ووقوعه فى حب غيرها. نعم، صدق أو لا تصدق، كل هذه الشخصيات والأحداث والتفاصيل مشتركة بين قصة لانجلى فى الفيلم البريطانى، وقصة مارى فى الفيلم المصرى. لذا إما أن يكون الأمر توارد خواطر، نادرًا من نوعه، بين الكاتبين الأصليين، وإما أن يكون الفيلم المصرى قد تأثر كلَّ التأثر بالعمل البريطانى المُنتَج قبله بخمس سنوات، وإن – فى الحالتين – تجاوز النص المصرى جودة نظيره البريطانى بمراحل.
بينما يجىء النص البريطانى كوميديا رومانسية هادئة الإيقاع، شحيحة المفارقات، باردة الصورة، يبرع النص المصرى فى نسج القصة بخيوط من نوعية فيلم الجريمة، وصناعة عمل أكثر سخونة سينمائيًّا من حيث الإيقاع أو الصورة، وكان أساس التعديلات فى النص المصرى هو تحويله البطل البريطانى من مقامر وديع “من منازلهم”، إلى صاحب ملهى مادى للنخاع، يدير شبكة قمار وتسليف، ويتعامل كمُرابٍ قاسٍ، فى عالمه ظلال واسعة من التسلّط والشر، مما قوّى شخصيته، وجعل مفاجأة البطلة فيه – لاحقًا – فاجعة بدرجة أكبر، وأزمة تغييره أصعب.
كذا حوّل النص المصرى غياب الأب فى النص الأصلى من حادث فى سباق خيل أدى إلى موته، إلى نتيجة محاولة إنقاذ صديقه من الاغتيال، حيث تلقى الرصاصة الغادرة بدلًا منه، وهو ما وفّر أكثر من نقطة إيجابية تصب فى صالح الدراما؛ فهذا كان جَمِيلًا فى عنق الصديق تجاه الأب، ألزمه بطاعة رغبته فى العناية بالابنة، فضلًا عن أن الفيلم المصرى – بذكاء شديد – لم يقتل الأب، وإنما احتفظ به مُصابًا فى مستشفى، وسجين قضية سرقة ملفَّقة يقضى وقت عقوبته هناك؛ وهو ما أدى للقاء متوهج عاطفيًّا بينه وبين الابنة لاحقًا، حيث عجز عن التعبير عن مشاعر أبوته أمامها، كما صاغ حالة من التشويق تجعل حياة الصديق مُهدَّدة بالقتل من قِبل أعداء مختلفين.
علاوة على ذلك، حوّل الاقتباس كلًّا من العشيقة القديمة للبطل إلى صاحبة ملهاه الأصلية، وشقيقه الأصغر المستهتر إلى صديقها المجرم، وبينما اتحدت الشخصيتان فى الأصل، قرب نهايته فقط، للقضاء على حب البطلين، ونادى البطل، يجمع النص المصرى بينهما من البداية، كمحور شر أذكى الصراع، بالسعى للتفريق بين البطل والبطلة بأكثر من وسيلة، قائدًا إلى ذروة يُحرَق فيها ملهى البطل؛ وهو ما منح الفيلم تتابعًا مثيرًا بصريًّا، وشيّقًا دراميًّا، يحاول فيه البطل والبطلة الهرب من الحريق فى آخر لحظة، وهذا جزء من توابل سينمائية مبهرة تميّز بها النص المصرى عن نظيره البريطانى؛ الذى قدّم ذروة هزيلة بالمقارنة، عبارة عن تتابع تدَاهِم فيه الشرطة نادى القمار غير القانونى، ثم مشهد حوارى تعترف فيه البطلة بحبها للبطل.
بخصوص التوابل، فى الأصل تكتشف البطلة أن البطل مقامر عندما تدخل ناديه، وتراقبه خلال تحصيله دَيْن قمار من مقامر عجوز، لكن الاقتباس المصرى يحوِّل ذلك الحدث إلى تتابع لقطات مشتعل، تشاهد فيه البطلة ألوان فساد البطل، مع شخصيات متعددة، سواء كانوا موظفين عنده، أو زبائن له. وبينما البطلة فى الأصل تشهد للشرطة على نشاط البطل، رغبةً فى تطهيره، يحوِّل الاقتباس تلك الشهادة العابرة، التى تستغرق ثوانى على الشاشة، إلى حدث متصاعد تسرق فيه البطلة أرباح البطل من خزانته، كى ترجعها إلى أصحابها، وهو ما يدفعه للثورة، واتهام خدمه بالخطأ، ثم يعقِّد الأمور أكثر حينما تسلِّم البطلة تلك الأرباح إلى صديقها المجرم، ظانة بسذاجة أنه سيخلِّص والدها من “المال الحرام”، بينما هو سيتقاسمها مع شريكته. وفى الوقت الذى ينال فيه البطل قطعة مجوهرات، مُهْدِيًا إياها للبطلة، فى مشهدين حواريين بالأصل، يضع الاقتباس بينهما لحظة صامتة للبطل وهو يتطلع إلى القطعة وسط غنيمته، مُبتسمًا إليها فى عذوبة، ومُقبِّلًا إياها بمحبة، فى استعراض بصرى خالص لمشاعره، وإرهاصة بفعله التالى. أظن أنه صار الآن واضحًا كيف شفى النص المصرى النص الأجنبى من برودة حرارته، وحالته الإذاعية، ليضج حيوية وسينمائية، وبالمناسبة، النص البريطانى تحوّل إلى سهرة إذاعية بالفعل، أُنتجت بعد 3 سنوات من الفيلم، بأداء ثنائى بطولته ستيوارت جرنجر وچين سيمونز!
يصلِح الاقتباس أمورًا مثل مبرِّر عدم رؤية الابنة لأبيها لسنوات طوال، واضعًا قصة لأم البطلة التى كانت راقصة فى الملاهى الليلية، لذا رفض أهل حبيبها زواجه بها، مُجبِرين إياه على تطليقها، لتضطر إلى هجرته بصحبة طفلتهما، زاعمة لهذه الطفلة أن والدها توفى، لكنها تصارحها بالحقيقة متأخرًا على فراش الموت، مُخبِرة الأب بمكان ابنته عبر خطاب. كما يصلِح الاقتباس سبب سوء التفاهم الذى يؤدى بالبطلة إلى اعتقاد أن البطل والدها؛ ففى النص الأجنبى، رجع هذا إلى تعوًّد والدها الأصلى بعث الرسائل إليها باسم صديقه، بل مصحوبة بصورته (!)، لكن فى النص المصرى، فالحل أكثر بساطة، وإقناعًا؛ فوالدها وصديقه لهما الاسم نفسه، وقبيل مقابلتها الأب، تطالع معلِّمتها خبرًا بإحدى الجرائد يحمل اسم الصديق وصورته، ولتطابق اسمه مع اسم أبيها، بل مجيئه للقائها فى اليوم ذاته، يظن الجميع أنه الأب المُنتظَر!
يستغل سيناريست الفيلم المصرى، المؤلف والممثل الكوميدى الرائع السيد بدير، مناطق لإثارة الكوميديا فيما يخص اختلاط الأمر على البطلة فى أن مبعوث أبيها هو أبوها، أو افتتان مدرستها بهذا الرجل الوسيم، أو تدخُّل الفتاة فى نظام حياته بعدها، فى حالة من البهجة تتضاءل أمامها مجهودات النص البريطانى فى هذا الجانب. ينزع الفيلم المصرى للغناء والرقص أحيانًا، وإن كان فى أضيق الحدود، تعبيرًا عن جو الملهى من ناحية، وعن السعادة التى أضفتها البطلة على حياة البطل من ناحية أخرى؛ وهى مسألة شرقية بالأساس، حيث الأغنية والرقصة جزء من معادلة العمل السينمائى الممتع، وهو ما تجده دومًا فى سينمات شرق العالم، كاللبنانية والتركية والهندية.
وأخيرًا، فى الفيلم البريطانى، تكتشف البطلة حقيقة كون البطل ليس والدها فى الدقيقة 38، لكن تأخير هذا الحدث فى الفيلم المصرى، إلى مشهد النهاية، أفرد مساحة أكبر للمفارقات المضحكة، وعقّد حالة الحب بين البطل وهذه التى تظنه أباها، وأعلى درجة التشويق إلى لحظة انكشاف الحقيقة؛ مما عمّق البعد الكوميدى، وزاد من حمية الصراع، ووفّى الإثارة كامل حقها.
..وعليه، يصل (قلوب الناس) إلى مستوى جودة لم يطاوله (آدم وإيفيلين)، مُبدعًا عملًا سينمائيًّا أكثر تشبعًا، وإمتاعًا، من الأصل المستمد منه، أو المتأثر به.
***
الأصل: الفيلم الأمريكى Cactus Flower أو زهرة الصبار (1969). سيناريو: أى. إيه. إل. دايومند، عن مسرحية قُدمت فى برودواى بالعنوان ذاته، للمؤلف آبى بيروز، مأخوذة بدورها عن المسرحية الفرنسية Fleur de cactus أو زهرة الصبار، للمؤلفين چين بيير جريدى، وبيير بارليه. بطولة: إنجريد برجمان، والتر ماثاو، جولدى هون، ريك لينز. إخراج: چين ساكس.
الصورة: الفيلم المصرى نص ساعة جواز (1969). سيناريو وحوار: أحمد رجب عن المسرحية الفرنسية “زهرة الصبار” للكاتبين الفرنسيين جريدى وبارييه. بطولة: رشدى أباظة، شادية، ماجدة الخطيب، عادل إمام. إخراج: فطين عبد الوهاب.
ثمة مفارقة طريفة فى اقتباس هذا العمل، فـ(زهرة الصبار) أساسًا مسرحية فرنسية نُقلت للسينما المصرية والسينما الأمريكية فى عام واحد؛ فالفيلم المصرى بعنوان (نص ساعة جواز) أُطلق فى سبتمبر 1969، والفيلم الأمريكى – بعنوان المسرحية نفسها – أُطلق فى ديسمبر 1969، وهو أمر نادر أن يُصنع عملان من بلدين مختلفين عن الأصل ذاته فى توقيت مقارب، دون أن يسبق العمل الغربى العمل الشرقى كالمعتاد، ورغم أن الفيلم الأمريكى نال جائزة الأوسكار والجولدن جلوب، فإن الفيلم المصرى، الذى لم يعرف الفوز بالأوسكار والجولدن جلوب، قدّم اقتباسًا بديعًا للمسرحية الفرنسية، سما بها عن الفيلم الأمريكى إلى ما هو أفضل.
فى العملين، تدور الأحداث حول الفتاة الرومانسية الساذجة التى تقع فى حب طبيب أسنان أكبر منها سنًّا، وتحاول الانتحار ليأسها بسبب انشغاله بزوجته، بينما هو – فى الواقع – أعزب، ومنشغل بغراميات أخرى، وبعدما ينقذها جارها الشاب من الموت، يقرِّر الطبيب الزواج منها، مع إيهامها أنه سيترك زوجته، لكنها تشترط رؤية هذه الزوجة، وهو ما يدفعه لإقناع ممرضته الرزينة، التى تحبه فى صمت، أن تلعب دور الزوجة المزعومة، وفى النهاية تنكشف الكذبة، وتهجر الفتاة الطبيب، الذى وقع فى حب ممرضته. بينما يعالج النص الأمريكى هذه الأحداث على نحو روتينى جامد يبتعد عن الكوميديا، ويقترب من الدراما الرومانسية، يحتفى النص المصرى بالإمكانيات المتعددة للفكرة، مُعتنيًا بكل ما تستطيع حمله من كوميديا، ورومانسية، بل مضمون جاد أيضًا.
جاءت الإضافة الأهم للنص المصرى حينما حوّل محبوبة الطبيب من فتاة حالمة تعمل فى مكتبة أسطوانات موسيقية، إلى صاحبة محل زهور معقدة نفسيًّا من الكذب، وحوّل جارها من مؤلف طموح يظهر فى بضع مشاهد قصيرة، إلى بديل بائس لأبطال الأفلام يعانى الأمرّين ككيس ملاكمة بشرى، خادعًا جارته أنه نجم سينمائى. بهذا الشكل، صار النص كوميديا واضحة عن رذيلة الكذب؛ مع تضخم المفارقة بين فتاة ترفض الكذب شر الرفض، وسيول من الكذب تنهمر عليها؛ سواء من الطبيب، أو ممرضته التى تتورط فى تمثيليته، أو الجار الذى يزيّف هويته، زاعمًا أنه بطل فيلم (أمسك أنفى من فضلك)!
فى الوقت الذى لا تخرج فيه كوميديا النص الأمريكى، البخيلة للغاية، عن حدود أكاذيب الطبيب، وبعض الجمل الحوارية، ولمسات فى مشهد الملهى الأخير خاصة بشخصية الممرضة التى تخرج عن وقارها، ينجح السيناريست المصرى، وهو الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب، فى توليد مواقف كوميدية لا حصر لها، واعتصار أحداث وشخصيات القصة لآخرها، مع تطعيم كل ذلك بحوار خفيف الظل؛ فبينما صديق الطبيب ومريضه المزمن مُغازِل لزج فى الأصل، يحتفظ به النص المصرى لكن مع توريطه فى مواقف مختلفة؛ منها هجرة الطبيب له فى العيادة مع نسيان أدوات العلاج فى فمه، وبينما أطفال أخت الممرضة يظهرون فى لقطة عابرة فى الأصل، يستثمرهم النص المصرى على أكمل وجه، عارضًا إياهم كعصابة عفاريت أشقياء يقلّدون خالتهم، ويسخرون من حبها، ثم يصل لأقصى درجات الذكاء حينما يفرد لهم مشهدًا كأطفال الطبيب من زوجته، ليمارسوا سلسلة مقالب ساخنة، وبينما مهنة الجار ملقاة ضمن حوار الأصل، عاطلة عن العمل، يوظِّفها النص المصرى فى مشاهد ظريفة تستعرض انسحاق الجار فى مهنة الدوبلير، وتستضيف عددًا من نجوم السينما المصرية حينذاك، وبينما محاولة كشف حقيقة الزوجة غير مطروقة فى الأصل، يبتكر النص المصرى حدثًا تزور فيه حبيبة الطبيب عيادته على حين غرة، لتضطر الممرضة للاختباء، كى لا تراها الفتاة فى زى التمريض، وتنكشف الخدعة برمتها، مما صنع مشهدًا يفيض بالإثارة، ويحفل بالمفارقة، وبينما مشهد الملهى فى الأصل يفتقر للكوميديا، ولا يمثِّل ذروة كبرى، ويليه مشهد حوارى طويل بين الطبيب وممرضته لتحديد المواقف الجديدة للشخصيات، وإنهاء الفيلم—يطوِّره النص المصرى، جامعًا فيه كل الشخصيات، واضعًا نهاية عادلة لكل خط، وكشفًا لمختلف الحقائق، فى ذروة لائقة ومشبعة. وبينما ينتهى الفيلم الأمريكى بوقوع الفتاة الساذجة فى حب جارها الشاب، يصوغ النص المصرى نهاية أكثر لذوعة، حينما تختار الفتاة رفض هذا الجار بعد اكتشاف كذبه؛ مما يجعل خطاب الفيلم ضد الكذب أشد وقعًا، وأكثر جدية، ويُثرى العمل بجمعه للكوميديا مع الرسالة الاجتماعية.
يطوّع الفيلم المصرى موهبة بطلته شادية فى الغناء، لتؤدى أغنيتين، الأولى (قالى كلام) التى تصف أحلامها العاطفية المكبوتة تجاه طبيبها، ورغبتها العارمة فى نيل بعض مشاعره، والثانية هى (سكر، حلوة الدنيا سكر) التى تُظهِر للطبيب جمال ممرضته لأول مرة، وتشهِر شيئًا من شخصيتها الطروب للعلن. صحيح أن مسألة مزج الدراما بالغناء، فى عمل غير غنائى بالأساس، أمر خاص بالسينمات الشرقية، حيث تتوقف الدراما لعرض أغنية قد تفيد العمل أو تعطِّله، وصحيح أنها جزء من “تمصير” العمل الأجنبى هنا، وتقريبه لطبيعة ومزاج مُشاهِده الجديد، لكنى – من باب الإنصاف – أرى أن الأغنية الثانية ساهمت فى تقديم ذروة أقوى من مشهد الملهى فى الفيلم الأمريكى، لكونها أبلغ تعبيرًا عن فتنة البطلة الساطعة، وتحوّلها من نقيض إلى نقيض، وختامها الفيلم بما يتواءم مع مرحه المنطلق، فى تتويج مبهر لحيويته. أضف هذا إلى كل ما سبق، وستعرف لماذا جاء الفيلم الأمريكى أقل بهجة، وأغلظ إيقاعًا، من نظيره المصرى الذى سبقه فى موعد الإطلاق، وتعداه فى درجة التمكُّن.
**
الأصل: الفيلم الأمريكىBarefoot in the Park أو حفاة فى الحديقة (1967)، سيناريو: نيل سايمون، عن مسرحيته بالعنوان ذاته. بطولة: روبرت ريدفورد، چين فوندا، مليدريد ناتويك، تشارلز بوير. إخراج: چين ساكس.
الصورة: الفيلم المصرى خلى بالك من جيرانك (1979)، سيناريو وحوار: فاروق صبرى. بطولة: عادل إمام، لبلبة، مديحة يسرى، فؤاد المهندس. إخراج: محمد عبد العزيز.
يروى النص الأمريكى قصة المحامى المتزوج حديثًا، الذى يعيش وعروسه فى بناية فقيرة من 6 أدوار، ليعانيا شظف العيش فى شقة متهالكة، وخلافات بسبب اختلاف شخصيتيهما؛ فهو جاد، متحفظ، وهى مرحة، منفتحة على الآخرين؛ تطالبه بأن يسيرا حفاة فى الحديقة العامة، وهو يعتبر ذلك محض حماقة. بعدها يأتى الاقتباس المصرى، ويتناول الحدوتة نفسها، مع الشخصيات ذاتها، لكن بعد أن يصنع طيفًا ذكيًّا من الشخصيات المتنوعة، ويضيف مواقف عديدة تُغنِى الجانب الكوميدى، ويستغل مساحات غير مطروقة فى النص الأصلى، ليتميز بمفارقات أكثر إضحاكًا، وتعليق اجتماعى أكثر شمولًا، مُجوِّدًا أصله على نحو لابد أن يثير إعجاب، أو حقد، مؤلفه الأمريكى!
يلتزم النص المصرى بشخصية عامل التليفونات الذى يزور البطلة فى البداية، والجار البوهيمى الذى يتسلّل إلى شقة البطلين كى يصل إلى شقته بعيدًا عن عين صاحب البناية، وعلاقته العاطفية مع والدة البطلة، ووظيفة البطل، وعدم عمل زوجته، ومشهد جريها وراءه على السلالم بملابس النوم، ومشهد المطعم الذى يجمع الشخصيات الرئيسية. لكنه – على غير أصله الأمريكى – يستغل شخصيات الجيران؛ فبينما لم يقدم ذلك الأصل إلا زوجين من الهيبز الغامضين على نحو عارض، يتفنّن النص المصرى فى التعامل مع هذا العنصر، مُبتكرًا نماذج تؤثر – بشكل أو بآخر – على حياة البطلين، وتكشف تناقضات اجتماعية مريرة، لنطالع: المرأة التى تعذِّب خادمتها الطفلة، الزوج الذى ينجب طابورًا من الأطفال الجوعى، الزوج ضعيف الشخصية الذى يختلق حكايات عن شدته مع زوجته، راقصة الملهى الليلى التى تكسب فى ليلة ما يجنيه المحامى فى عام، الجارة اللحوحة التى لا تكف عن الطلبات، حشد أقارب ريفيين للجار البوهيمى يعشقون الإزعاج، والتدخل السافر فى حياة البطلين، وتجىء أفضل الشخصيات إطلاقًا فى صورة الزوجين العجوزين اللذين لا يتدخلان فى حياة الغير، ويصفهما الزوج بالأكثر احترامًا، إلى أن يكتشف فى ضربة سخرية لامعة أنهما أصمان وأبكمان؛ وهو ما يبدو الحل الوحيد لنيل جيران طيّبين فى هذا الزمان!
نجح الحوار فى أن يكون ساخنًا، مفعمًا بالطرافة؛ مثلًا عند السخرية من غموض أعمال الفنانين السورياليين، بعد جعل الجار البوهيمى واحدًا منهم، أو حين اللعب على كلمة “الجماعة” التى تقصد الزوجة فى اللغة العامية، وتقصد – أيضًا – التنظيم السياسى المُعارِض، كما استخدم الحوار تقنية الحديث الداخلى interior monologue لتعزيز الكوميديا؛ عندما يسمعنا تعليقات الزوج الساخرة، الدائرة بينه وبين نفسه، ثم يقفز بالتقنية قفزة واسعة حينما يقول الزوج الجملة داخله، لترد عليها الزوجة خارجه، كأنها تسمع صوت عقله، والجميل أن هذه التقنية لم تنفصل عن البناء الصحيح للشخصية، بل عبّرت عنه؛ باعتبار أن هذا الزوج يحذر من الآخرين، ويلجم عقله لسانه، ويكبت بعض انفعالاته.. على عكس زوجته تمامًا.
فى الوقت الذى يتجاهل فيه النص الأمريكى وظيفة الزوج، لتصير مجرد لقب يلى اسمه أحيانًا، ينتفع النص المصرى بها، لإثارة المزيد من المفارقات المضحكة؛ فالويل الذى يراه الزوج بسبب غياب الأثاث عن شقته، أو متاعب جيرانه، يحرمه من النوم والتركيز، وهو ما يؤثر على ممارسة عمله بالمحكمة؛ ففى مرّة، يصيبه البرد من النوم على الأرض، فينقل الإنفلونزا لكل الموجودين فى الجلسة، لينقلب المكان إلى كرنفال عطس لا ينقطع، وفى مرّة أخرى، ينسى مراجعة القضية، ليستغرق فى مرافعة تخريفية طويلة لا معنى لها. يدعم ذلك إضافة شخصية فكاهية – غير موجودة فى الأصل – لوكيل محامٍ طيّب قام نوعًا ما بدور صديق البطل، وشخصية مُوكِّل يترافع عنه الزوج فى البداية؛ حيث تتجلى قدرة النص، مجددًا، على صياغة كوميديا لا تنفصل عن الدراما، بل تعبِّر عنها خير تعبير؛ فهذا المُوكِّل متهم بقتل أحد جيرانه، كإرهاصة مبكرة بأن هناك جيران قد يدفعون الآخرين للجريمة! ثم مع مدّ خط هذه القضية، وخسارة الزوج لها لانشغاله بمشاكله، بل اعتداء أهل المتهم عليه انتقامًا من فشله، يكون الدافع الذى يصل به إلى آخر درجات غضبه ضد زوجته وجيرانه، قائدًا الفيلم إلى ذروته.
يبلغ النص المصرى قمة إبداعه، وتميّزه عن الأصل، فى هذه الذروة، ففى (حفاة..) يُغرِق النص الأمريكى بطله فى السُّكْر، لما يقاسيه من متاعب، حتى يمشى حافيًا فى ساحة متنزه “واشنطن”، ثم يلفِّق ذروة ما تجعله وزوجته يتعلقان بسقف البناية، ويكادان يسقطان من فوقها، فى موقف مثير لا يخلو من الافتعال، ولا يضع حلًّا حقيقيًّا بانتهائه بسلام، أما فى (خلى بالك..)، فيضع النص المصرى – فى حنكة وحكمة أكبر – البطل فى موقف السُّكْر ذاته، لكن ليدفعه إلى وصلة انتقامية طويلة، ينطلق فيها مُعربدًا فى جميع شقق البناية التى يسكنها؛ ليؤدِّب الجارة العنيفة، ويؤنِّب الجار الذى ينجب بلا حساب، ويكشف الجار الكذوب، ويعاقب الجارة اللحوحة، فى تتابع صارخ يعرّى تناقضات جيرانه، ويفرغ انفعالاته المكبوتة تجاه تدخلهم فى حياته، ويضع حدًّا مُنظِّمًا بينه وبينهم. وعندما تشهد زوجته هذه الغضبة الاستثنائية، تتيقن أنها كانت على خطأ فى انصياعها الدائم للآخرين، وتأثرها السلبى بأفكارهم، لتكتمل الرسالة الاجتماعية للفيلم من خلال تتابع كوميدى فعَّال، بعيدًا عن ذروة متعجلة منقوصة فى الأصل، لم تعمّق أزمة البطل، أو تقدِّم رسالة ما غير تأكيد أهمية الحب بين الزوجين، أو حتى تعبأ بصنع ضحكات. باختصار، اقتبس الفيلم المصرى الفيلم الأمريكى كى يوسِّع بؤرته الهجائية، ومداراته الكوميدية، وليس أكثر من ذلك إبداع.
**
وهكذا، استطاعت “الصورة” المصرية أن تكون أفضل من “الأصل” الأجنبى، عندما عالجت سلبياته، وضاعفت إيجابياته، وحلّقت به فى آفاق لم يصل إليها فى حالته الأوليّة. هذا هو الاقتباس المبدع، وهو النوع المُفتَقد عالميًّا، وشبه المفقود محليًّا؛ حيث – للأسف – يغيب عن سينمانا أغلب الوقت. لكن ربما يحتاج الأمر إلى رؤية مخلصة من فنان فطين فى اقتباسه، يزن العمل الأصلى بشكل موضوعى، ولا ينبهر به سطحيًّا، ليعيد إنتاجه على نحو لا يحقّق فيه المحلية فحسب، وإنما يجعله أكثر اقتدارًا مما هو عليه، ففى جميع الحالات، التحدى تحدى إبداع، والاختيار واضح من البداية؛ فإما أن تكون ناقلًا، رديئًا أو جيدًا، وإما أن تكون مُبدعًا، سواء مع فكرة أصلية أو عمل مقتبَس.
…………………..
*نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة / العدد 269 / فبراير 2013.