د. نعيمة عبد الجواد
آلية الدفاع عن النفس غريزة يشترك فيها مختلف أنواع الكائنات الحية، وعلى رأسهم الآدميين. عند الخوف أو الظلم أو الإحساس باليأس، يبدأ الكائن الحي بالقيام بأفعال أقل ما توصف بأنها غير مألوفة، محاولا قدر الإمكان الحفاظ على صورته أمام نفسه أو التنفيث عن غضبه. لكن، على النقيض، تتدهور أمام الآخرين صورة وحال من ينتهج تلك الآلية. فعلى سبيل المثال، هناك بعض الطيور حال وقوعها في شِرك الصياد، تبدأ في نتف ريشها من شدَّة الغضب. وبعض الحيوانات والزواحف تهاجم البشر اعتقادًا منها أنها لسوف تتعرَّض، في حين أن في أغلب الأحوال، يكون البشر هم من يخشون ويهابون تلك الكائنات، التي لربما لو تغلبت على مخاوفها واستجمعت رباطة جأشها لما آذت البشر.
وبالنظر لعالم الإنسان، فإن أنواع الهجوم المختلفة التي قد يشنّها البعض هو آلية دفاعية مبدأها العقل الباطن وتستخدمها “الأنا” Ego كحيلة لتقليل حدَّة ما تعانيه من توتُّر. وآلية الهجوم ليست قاصرة على المرضى؛ حيث أن الكثير من الأفراد في الحياة اليومية الذين يعانون من سقطات نفسية يبتكرون حيلًا لخفض حدَّة الصراع داخل أنفسهم، وخاصة ذاك المحتدم بين “الأنا العليا” Superego والهو Id، ودون شك يظهر هذا في صورة هجوم على الآخرين. وحتى يفهم المرء سلوكه، يحاول المعالجين النفسيين توجيه مرضاهم لتحسين الوعي الذاتي من خلال مراقبة العمليات التي يقومون بها بطريقة غير واعية. ومن أهم آليات الدفاع عن النفس التي يقوم بها اللاوعي وأشهرها على الإطلاق هي الهجوم على ما يخاف منه المرء والتصرُّف بصورة تؤذي من حوله. وكلما تأذَّى من حوله، يزيد لديه الشعور بالأمان، حتى ولوأفضى ذلك إلى إلحاق أذى جسيم بالآخرين على المدى البعيد أو حتى المتوسّط.
وفي الحياة السياسية، يلاحظ أن الدفاع عن النفس يتَّخذ مسلكًا عنيفًا، ويكون الردّ عليه أعنف. فمثلًا في عصور الدولة الإسلامية، كان الشعراء والقبائل يلجؤون للهجاء للتنديد بالآخرين؛ للدفاع عن أنفسهم ضد أي معتدٍ أو للاقتصاص من عزيمة الغريم. وشِعر الهجاء هو عادة جاهلية نهى عنها الإسلام، ولكنها تأججت خلال الدولة الإسلامية بداية من العصر الأموي، الذي احتدمت فيه شدَّة الصراع بين فرق شتَّى في الحجاز والعراق والشام؛ فلكل منهم أهواءه ومآربه التي تجعله يناصب الأمويين العداء. وعلى هذا ازدهر فن الهجاء، إما لنصرة الأمويين أو للتعبير عن السخط عليهم.
وكان على رأس المعارضة أهل الحجاز، لكن ظهر الدهاء الأموي في إخماد جذوتها من خلال طمس الوجه الإسلامي الملتزم لبيئة الحجاز، وتحويلها إلى مرتعٍ للمجون. يذكر جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدُّن الإسلامي: ” فلما أفضت الدولة إلى بني أمية وانتقلت عاصمتها من المدينة إلى دمشق وكثر الاختلاط بالأعاجم، وأخذ العرب بأسباب الحضارة …. هان عليهم التشبيب، فأكثروا منه، ولاسيما في المدينة لأن أهلها أغرقهم معاوية بالعطايا والرواتب يشغلهم باللهو عن الملك فكانوا ينفقون الأموال على المغنين ونحوهم؛ فكثر اللهو بالمدينة.”
لكن من هؤلاء اللاهين الماجنين، كان يوجد من ينحدر من أنساب قرشية شريفة ويرون لأنفسهم الحق في الإمارة والسلطان. فما كان من الأمويين إلا وأن قرَّبوا الأقارب والموالين ومن جُبِلوا على الخسَّة، ومنعوا الامتيازات عن الشرفاء. ومن ضمن هؤلاء الذين طالهم ظلم الأمويين كان حفيد الخليفة عثمان بن عفَّان الشاعر “عبد االله بن عمر بن عمرو بن عثمان ابن عفان” الملقَّب ب”العرجي” (694-738م) نسبة إلى “العرج” محل إقامته، وهو موضع بين مكة والمدينة على بعد أربعة أميال من المدينة. ويعتقد أن العرجي فقد أبويه وهو طفلًا، لكنه نعم في ثرائهما الذي جعله يعيش في بحبوخة ورغد. وقد نشأ لاهيًا عابثًا بسبب بعده عن مكة من جانب، ولغناه وثروته من جانب آخر . واستمتع كغيره من شباب الحجاز بحياة اللهو والغناء التي انتشرت في مكة والمدينة في عصر بني أمية؛ ولكنه ربما صار أكثر عبثاً من غيره من الفتيان. ويُذكر أن أحد أشهر المغنيَّات وتدعى “جميلة” منعته من دخول منزلها لكثرة عبثه وسفهه وحداثة سنه، ولما أحدثه من عربدة جعلتها غير قادرة على أن تغفر له.
ونشأ العرجي فارسًا عنيفًا ثريًا، وإلى جانب ذلك كان يتمتع بالحسن الشديد؛ حيث كان أبيضًا أشقرًا، مما أغوى النساء على الالتفاف حوله، وأغراه على نظم أشعار الغزل لكثرة أخدانه من النساء. ويذكر أنه في ذلك المنحى كان مثل عمر بن أبي ربيعة في مجونه والتحرُّش بالنساء حتى في أوقات الحج. لكن على عكس عمر بن أبي ربيعة الذي نشأ لاهيًا ماجنًا، وانتهى فارسًا رصينًا ملتزمًا، مرَّ العرجي بنفس هذا التطور، ولكن بصورة معكوسة. فلقد نشأ العرجي مجبولًا على فعل الخير ومحافظًا على دينه وفارسًا رحيمًا يبذل الإحسان حتى ولو لقوم قام بغزوهم. لكن تبدَّلت حياته الشريفة النبيلة للنقيض بعد أن عمد الأمويون تحطيم طموحاته السياسية ومنعوا عنه الإمارة والنفوذ السياسي الذي رغب فيه ليكون درَّة تاج نسبه ومكانته. وعلى هذا تحوَّل لفاحش الخلق والفعل. ويذكر عن ابن قتيبة: “قال رجل للعرجي: جئت أخطب إليك مودتك. فقال: لا حاجة بك إلى الخطبة؛ قد جاءتك زناً فهو ألذ وأحلى”، مما يدُل على أنه قد اتَّخذ من المجون والفُحش آلية للدفاع عن النفس.
وحتى ينتقم لنفسه ممن ظلموه، حينما ولى الأمويون أخوالهم على مكة والمدينة، حاك العرجي أشعار يتغزَّل فيها حسِّيا من زوجة وأخت وأم من تولوا زمام الحكم. والطريف أن غزله لم يكن بالفاحش أو الماجن، بل شديد الرقَّة لدرجة تخيَّل للسامع أن العرجي لا يقصد التشبيب بتلك النساء للاقتصاص من سمعتهن وإذلال ذويهم بالتبعية. فمن شدة رقته وحافظته على من يتغزَّل بها، يعتقد السامع أنها تجربة حقيقية، وخاصة أن العرجي صار سيء السمعة. ولهذا، أخذ والي المدينة يجمع له التهم، وقبص عليه، وصب الزيت على رأسه، وأنزله على البلس أمام العامة، ثم أودعه بالسجن. فمات العرجي بعد تسع سنوات من السجن مقهورًا في ريعان شبابه، وإن كان من وقت لآخر ينفِّث عن غضبه بقول المزيد من أشعار الغزل الصريح في نساء الحكَّام مما يزيد من سطوة ورطته.
آلية الدفاع عن النفس تصير هوجاء إذا لم يتنبَّه صاحبها لعواقبها على نفسه، فقد تصير السبب في تدميره والاقتصاص منه وليس من ظالميه.