خالد النجار
ولكن من يذكر الخيام دون أن تتوارد إلى ذهنه أشعار الخمر و المجون و التّهتّك و الخلاعة و عبث الوجود و ظلم الأقدار و التحسّر كما تقول العرب على مرور الزّمان و تقلّب الحدثان و كلّ ما طفح به شعر النّواسي في عبثه و مجونه وأبي العلاء المعرّي في في تأمّله الفلسفي وفي لا أدريّته وتشاؤمه من أغراض و معاني فعمر الخيام لم يقل شيئا في رباعياته التي وصلتنا لم يسبقاه إليه وينشداه في أروع صياغة و هذا لا يغمط الرّجل حقّه أو ينزل من قدره فهو من سنن تلك الأزمنة و الأحقاب حيث الأفكار مشاعة و المعاني كما يقول الجاحظ مطّرحة على الطريق و لكلّ أن يأخذ ما يشاء.
و من يذكر الخيّام دون أن يرد إلى ذهنه بيت له من الترجمات و النقول العربية المعاصرة التي ناهزت الستين ترجمة بدءا من ترجمة البستاني أوائل القرن العشرين إلى ترجمة أحمد رامي إلى ترجمة أحمد الصافي النّجفي إلى ترجمة الشاعر عرار إلى ترجمة ابراهيم العريض و غيرهم من ناقلي الرّباعيات المجهولين حتى أن هناك ترجمة في العامية المصرية :
ينشد الخيام بترجمة أحمد الصافي النجفي
إلهي قل لي من خـلا من خطيئـة
و كيف ترى عاش البريء من الذّنب
إذا كنت تجـزي الذّنب منّي بمثلـه
فما الفـرق مابيني و بينك ياربـّي
بيد أن كل هذه الترجمات و النقول الحديثة للرباعيّات و إن كانت عن الانكليزية أو الفارسية لم تخرج جميعها عن رؤية فيتزجيرالد لما يظنّ أنّه شعر الرجل فقد وضع صورة للخيام قلّ من أفلت من اسرها من المعاصرين
لقد جعل فيتزجيرالد من الخيام شاعرا غربيا حمله روحية ذاك الجيل و رؤيته للعالم جعل منه شاعرا ذا ملمح رومانسي خيّاما شكاكا حسيّا يدين بمذهب اللاّأدريّة AGNOSTICISME التي شاعت في أوساط الكتاب الانكليز في تلك الحقبة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين أولئك الذين يقولون بعجر العقل البشري عن اثبات و نفي الوجود الالهي، شاعر ا شبيها بمن اصطلح عليهم بالشعراء الملعونين على صورة رامبو و فرلين فهو في نص فيتزجرالد سكير لا يكاد يصحو عدمي إلى أقصى حدود العدمية هرطقيا مشككا في العقائد
نص فيتزجيرالد عكس حساسية العصر الفيكتوري المتزمّت و ذاك النّزوع الآبيقوري و الحسّي الرومانسي الذي عم مبدعي و شعراء ذاك العصر كما جعل من الرباعيات نصا فردوسيا باختصار جعل فيتزجيرالد من الخيام شاعرا غربيا ينتمي إلى حساسية القرن التاسع عشر شاعرا في أساس الحداثة
و الحال أن فيتزجيرالد على ما يورد مؤرخوه لم يتكلم اللغة الفارسيّة على الإطلاق أي تعلم الفارسية لغة ولم يمارسها كلاما عرف هذه اللغة حبرا على ورق عرفها نظريا عرفها فيلولوجيا و قاموسا ونحوا وصرفا ولم يعرفها ممارسة لم يتكلمها في حياته مطلقا
***
و من المفارقات أن عمر الخيام الشاعر هو الأكثر ذيوعا و شهرة و هو في الآن نفسه الأكثر غموضا و تعتيما و اختلافا حوله لم يذكره أي من معاصريه كشاعر مكرس لم يذكره البيهقي الذي زاره في يفاعته صحبة أبيه و لا العروضي السّمرقندي الذي لقيه في بلخ و أوّل ذكر لنظمه أورده الشهرزوري في كتابه نزهة الأرواح و روضة الأفراح في تاريخ الحكمة قال الشهرزوري : للخيام شعر بالفارسيّة و بالعربية… انتهى. و لكن لم يذكر له ديوانا مفردا و أوّل مجموع شعري عرف له يعود إلى سنة 1460 للميلاد هذا ما أجمع عليه دارسو الخيام كما أورد الباحث الفرنسي جيلبرت لازار في دراسته التي بعنوان عمر الخيام شاعرا وقد اختلف الباحثون و المؤرخون حول كل شئ اختلفوا حول الرجل قالوا هناك شاعر آخر اسمه الخيام
كما اختلفوا في نسخ الرباعيات الأصليّة و في عدد الرباعيات المنسوبة للخيام و تراوح العدد من ستين إلى أربعمائة رباعية حتى أن المستشرق و الفيلولوجي الألماني شيدر ذهب مشطا إلى أنّ الخيام لم يكتب و لا رباعية واحدة و أن اسمه يجب أن يمحى و يفسخ من تاريخ الأدب الفارسي ؛ و أن الرباعيات ما هي إلاّ تعبير عن الروح الجماعي الايراني تنسب للخيام بيد أنها لشعراء مجهولين كانوا ينشدونها في المجالس الصوفية
أما صورة الخيام السّائدة اليوم فهي تلك التي شكلها كما ذكرت إدوارد فيتز جرالد للرباعيات و لعل أهم دراسة حول أسطورة الخيام كما صنعتها ترجمة فيتزجيرالد في العصر الحديث هي تلك التي وضعتها الأستاذة شندروف آنفار و التي تتبعت و عبر دراسة فيلولوجيّة معمقة كل الأخطاء و التحريفات المتعمّدة التي أجراها فيتزجيرالد على نص الخيام ففتجزرالد كما تقول الباحثة لم يعش في ايران كما أن معرفته باللغة الفارسية معرفة قاموسية تجريدية من خلال الكتب
تتبعت هذه الباحثة كل التغييرات و التحويرات التي أدخلها فيتزجيرالد في الترجمة الانكليزي فوجدته يكثر من ذكر الخمر و الفردوس حتى انه كان يغير لغة الرباعية اذا اقتضى السياق و مرّة اخرى يختفي الخيام بل يضيع وراء اسطورته وكما هو الحال دائما فإنّ الأسطورة هي التي تنتصر، و تذيع هذه إلى اليوم و رغم تعدد الترجمات فقد ظلت ترجمة فيتزجيرالد هي الأساس الذي اعتمده العرب وهي التي شكلت صورة الخيام في المخيال الغربي المعاصر و الغريب في الأمر أن الشرقيين انفسهم استبطنوا خيام فيجزرالد و كل ترجمات الرباعيات إنما انجزت في القرن العشرين و رباعيات الخيام في ايران نفسها لم تعد تلك التي تردد في حلقات الذكر الصوفي كما هو الشأن في القرون الخوالي و إنّما هي أيضا رباعيات ماديّة و ثنية فردوسيّة
***
و لكن الغريب أن الإمام الدستور حجّة الحق كما كان يلقب على لسان معاصريه عمر الخيّام الرياضي والفيلسوف و المنظّر الموسيقي و الفلكي في مرصد ملك شاه عمر بن ابراهيم الخيام كما عرفته كتب التراث اختفى بالكامل وراء ترجمة فيتزجيرالد
يقول البيهقي الذي عرف الخيام عن كثب فقد التقى به في يفاعته :
و لم يصنف ( الخيام) إلا مختصراً في الطبيعيات ورسالة في الوجود ورسالة في الكون والتكليف وكان عالماً باللغة والفقه والتواريخ
ولم يقل أن الخيام كان شاعرا
كان الحكيم عمر الخيام صديقا لأبيه و كان البهيقي طفلا يافعا عندما أخذه أبوه في زيارة إلى عمر الخيام الذي يلقبه بالإمام و وصف البيهقي هذه الزيارة وهذا اللقاء في مصنّفه تتمة صوان الحكمة قال:
وقد دخلت على الإمام في خدمة والدي رحمه الله في سنة سبع وخمسمائة فسألني عن بيت في الحماسة و هو:
ولا يرعون أكناف الهوينا إذا حلوا ولا أرض الهدون
فقلت الهوينا تصغير لا تكبير له كالثريا و الحميا والشاعر يشير إلى عز هؤلاء ومنعتهم يعني لا يسفون إذا حلوا مكاناً إلى التقصير ولا إلى الأمر الحقير بل يقصدون الأسد فالأسد من معالي الأمور ثم سألني عن أنواع الخطوط القوسية … إخ
هذه هي صورة الخيام الغالبة في المصادر و المراجع التاريخية من معاصري الخيام وهم قلما يشيرون إلى شعره إلا بشكل هامشي فهو الحكيم في فهرست النديم و هو الدستور الفيلسوف و حجة الحق والإمام في تتمة صوان الحكمة للبيهقي و هو إمام خراسان و علامة الزمان في إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي
و اليوم لا نجد أيّ أثر لهذه الصورة التراثية الجادّة
البورترييه الذي رسمه له فيتزجيرالد هو البورتريه الذي شاع في عالمنا المعاصر بل حتّى العرب انفسهم تبنّوا هذه الصّورة وأشاعوها بدءا من ترجمة البستاني إلى آخر الترجمات في حين لا نجد أي إشارة في كتب التراث إلى ديوان مفرد للخيام و صورة الخيام في التراث الأعلى في التراجم الأولى تبدو جادّة لم يكن فيها حديث عن الشعر سوى عرضا لم يذكر شعره أي ممن ترجم له إلا بشكل هامشي اذ ينهون مناقبه بقولهم و كان له شعر بالعربية كما كان لكثير من فلاسفة تلك الأحقاب شعر كابن سينا و غيره تجد أشعارهم مبثوثة في كتب التراجم و الطبقات مثل طبقات الحكماء لابن أبي أصيبعة و القفطي و ابن الأثير و البيهقي و غيرهم و لم يقع في الأزمنة الأولى التي تلت وفاته الحديث عن الشاعر في قران مع الرياضي و الفلكي و الفيلسوف بل إن الرّباعيات نفسها لم يأت ذكرها إلاّ بعد حوالي قرن على غيابه كل هذا جعل العالم المصري رشدي راشد الذي حقق أعمال الخيام الرياضية و الفلسفية لا يجزم هو أيضا بشاعريّة الرجل.
ولكن التاريخ كأنه يسخر من موضوعية الأساتذة والباحثين فهو لم يحتفظ سوى بقراءة فيتجرالد لأن القراءة هي الخلق الثاني للنص أي أن القراءة إبداع مما يهمش دور المؤلف و الترجمة الأدبية هي أيضا قراءة فهي إعادة خلق للنص وبما أنها كذلك ترى المترجم يحل محل المؤلف الأصلي بل يعيد صياغة المؤلف
وهنا تحضر شخصية بيير مينار مؤلف الدون كيخوتي والذي حل محل سرفنتيس. بيير مينار الذي ابتدعه خورخي لويس بوخيس ليدلل أن النص لا وجود له خارج قارئ
والترجمة كقراءة و خلق ثان تهدم المقولة اللاتينية القديمة و التي تتردد باستمرار و القائلة بأن الترجمة خيانة بل إن هذه الخيانة في الترجمة الأدبية هي الوفاء نفسه وإلا ما كنا لنحصل على نص ابداعي ممتع مثل رباعيات فيتزجرالد أو ترجمة بودلير لأشعار إدغار آلان بو
كان برخس يفضل نظرية المتعة مقابل الحقيقة الموضوعية
مما يحيلنا إلى فكرة أن الكاتب يخلق أيضا أسلافه وهي قريبة من نظرية اختيار الشاعر لسلالته الأدبية كما بلورها الشاعر الانكليزي توماس سبندرز اليوت في نصوصه التنظيرية حول الشعر.