سامح قاسم
في حقلٍ صعيديٍ بكرٍ، على أطراف مدينة المنيا، كان طفلٌ صغير يتعلّم الإصغاء. لا إلى الناس، بل إلى الأرض. كانت النخلة تقول له: “لا تكبر بسرعة”. وكانت الحقول تهمس كل صباح: “هناك جمالٌ في الصبر، في التكرار، في التواضع”. وكانت العتمة، في ليالي الريف، تربي فيه شيئًا يشبه الضوء.
ذلك الطفل، الذي سيكبر اسمه ليصير “عمار علي حسن”، لم يأتِ من مدرسة الكُتّاب وحدها، ولا من جامعة العاصمة، ولا من سهرات المثقفين في مقاهي القاهرة. لقد أتى من عمقٍ لا يراه كثيرون: من النقطة التي تلتقي فيها الحكمة الشعبية بالحدس الصوفي، ومن الحدّ الفاصل بين الفقر والإباء، ومن الحلم الصامت الذي يرافق الغريب حين يحاول أن يصير شاهدًا على العالم، لا جزءًا منه.
عمار علي حسن ليس مجرد باحث سياسي ولا مجرد روائي، بل هو واحدٌ من الكتّاب الذين نسجوا خيوطهم من مادة غير مرئية: من الوجدان الجمعي، من الحكاية التي لم تُروَ بعد، من ذاكرة القرى، من أرواح الأمهات اللائي لا يكتبن ولا يقرأن، لكنهن يعرفن الله معرفة لا تنقصها اللغة.
تتلو كتبه كأنك تمشي في أرضٍ رُويت بالأساطير، لكنها لا تبتعد كثيرًا عن حفيف الواقع. في كتاباته السياسية، يقدّم لك خرائط لفهم السلطة، لا بالأرقام والنظريات الجاهزة، بل بتشريح الروح التي تدير السلطة وتغري بها. أما في رواياته، فأنت أمام عوالم تسير فيها الأشباح جنبًا إلى جنب مع الفلاحين، وتحضر فيها النبوءات كأنها تقارير صحفية.
لقد أعاد في رواياته تعريف “الواقعية السحرية” من زاوية مصرية صافية. فالسحر في رواياته ليس غريبًا، بل جزءٌ من النسيج الطبيعي للواقع الشعبي. شجرة تتكلم، وليّ صالح يظهر في الحلم، مئذنة تتنفس، لا تبدو عناصر دخيلة، بل تبدو مألوفة كصوت المؤذن في الفجر.
في كل كتاب من كتبه، هنالك نغمة عميقة لا يقرأها إلا من يصغي جيدًا. نغمة فيها البكاء الصامت للذين طُردوا من التاريخ، وهم لا يزالون على قيد الحياة. القرى التي جف ماؤها، النساء اللواتي ينتظرن أزواجًا لن يعودوا، الأحلام التي تصير عبئًا لأنها لا تتحقق. كل أولئك يتكلمون من خلاله.
هو لا ينطق باسم النخبة، بل باسم الأرض. كأن لغته نفسها خرجت من جوف نخلة، لا من حنجرة كاتب. وهذا ما يجعله كاتبًا مختلفًا؛ كاتبًا لا يشرح الواقع فقط، بل يحنو عليه، ويمسح عنه غباره، ويمنحه فرصةً جديدة لأن يُروى بكرامة.
لا يمكن قراءة عمار علي حسن دون المرور بتصوفه الخاص. ليس تصوف الزهد وحده، بل تصوف النظر. عينٌ ترى ما لا يُرى، وأذن تسمع ما لم يُكتب بعد. في كتاباته عن الأولياء، وعن المعرفة، وعن الروح، أنت تقرأ عقلًا يتأمل العالم من شرفةٍ عالية، لكن قدمه لا تزال غارقة في الطمي.
يتعامل مع المقدس لا كواعظ، بل كحكّاء قديم يروي لك حكايةً حدثت في الليل، وظلّ صداها عالقًا في الصباح. لهذا فإن معرفته ليست نظرية، بل مجرّبة. وليست ثقيلة، بل رقيقة كنسمة.
ربما كان عمار، في جوهره، كاتبًا يكتب ليُشفى. لا ليعلّم الناس أو يُبهرهم، بل لينجو. كأن الكتابة عنده ليست اختيارًا، بل ضرورة. وكل كتاب جديد له، هو خطوة أخرى على درب التحرر من ألمٍ ما، من فجيعة ما، من سؤال لا إجابة له.
ومع ذلك، لا تشعر بالحزن في لغته، بل بالشفقة. لا باليأس، بل بالنظر العميق في المعنى. هو لا يغضب من العالم، بل يفهمه، ويعرف أن الطريق إلى تغييره يبدأ بأن نراه بعيونٍ مختلفة. لا عيون الساسة، ولا عيون المثقفين، بل عيون الجدّات اللواتي يعرفن أن خبز الطابون أهم من مئة شعار.
إن عمار علي حسن يشبه كلماته. بسيطٌ، وارفٌ، عميقٌ، مُصرٌّ على أن المعرفة يمكن أن تكون جميلة، وأن الجمال يمكن أن يكون معرفة. لا ينتمي إلى جيل أدبي واحد، بل إلى سلالةٍ قديمة من الحكائين الذين يعرفون أن الحقيقة لا تُقال دفعة واحدة، بل تُقطّر في الحكايات، وتُروى على مهل، مثل دعاء الصباح.
إنه ليس كاتب سلطة، ولا كاتب نخبة، بل كاتب شجرة. لا يجلس في المكاتب الوثيرة، بل على عتبة التاريخ، يرصد ما لم يُكتب بعد، ويشير إليه بإصبع من ضوء.