تحت عنوان «فانتازيا ناقصة» في عدد 26 ديسمبر 2010 من أسبوعية أخبار الأدب، كنت قد عبرت عن انسجامي مع الفكره القائله إن تاريخنا الأدبي الحديث، على عكس ما تذهب اليه نظريه المجايلة في تحديدها لأجيال تتعاقب كل عقد، من الأفضل له، حلا للعديد من المشاكل، أن يُرى كمرحلتين كبيرتين فقط (السبعينيات وما قبلها والتسعينيات وما بعدها) على أساس أن السبعينيات مثلت نهاية مرحلة تميزت عموما بالأحادية الجمالية. بينما يمثل جيل التسعينيات الخروج على هذه الأحادية والبداية الأولى لما تم تكريسه في السنوات العشر الأخيرة من تعددية وتنوع في الأشكال والأجناس الأدبية. ورصدت في ذلك المقال بزوغ الفانتازيا كشكل من تلك الأشكال الجديدة، وضربت مثلا بالعديد من النماذج التي يمكن أن تنضوي تحت ذلك الشكل، حتى حينها، احتوت جميعها على عامل مشترك، فالعمل الروائي هنا لم يعد انعكاسا مخلصا للواقع بل تم حقن هذا الواقع بعنصر لامنطقي يتعايش مع العناصر الواقعية كمحاولة لتسليط الضوء على تلك العناصر، وحيث يحدث التفاعل في ما بينهما ينشأ عالم روائي خلاب.في الحقيقة، يمكن القول إن محمد خير قد وقف على مشارف الفانتازيا في بعض من القصص القصيرة في مجموعته القصصية التي سبقت ظهور رواية سماء أقرب، ففي «عفاريت الراديو» التي تحمل اسم المجموعة (ملامح، 2008 وميريت، 2011)، عثر الراوي في طفولته على ميكروفون صغير بين حطام الراديو، وفي «عصبية ككل العجائز» تيقن الراوي أن صوت الطرقات على باب الغرفة التي ماتت فيها أم صاحبة الشقة حقيقي تماما. هنا لم يفترض السرد تواطؤ القارئ وإنما كشف عن إصرار الراوي على أن يصدق القارئ أن تلك أمور قد حدثت بالفعل وهذا الميل هو بالذات ما يجعلنا نشعر اننا بصدد حكي أقرب إلى التقليدي وهذا ما تم تجاوزه تماما، كما سأوضح حالا، في «سماء أقرب».
في «سماء أقرب»، وفي محاولة لخلق السياق المناسب لانقلاب السحر على الساحر، يساوي المؤلف تماما بين الراوي الرئيسي «أكرم» وبين بطل الرواية التي يقوم هذا الراوي بمحاولة كتابتها «مازن»، وكأننا أصبحنا بصدد نصين كاملين نص أساسا ونص مواز، فجاءت عناوين فصول الرواية الخمسة عشر موزعة بينهما بانتظام تام، مرة أكرم ومرة مازن وهكذا، وحبكا للعبة سوف يتكلم أكرم في الفصول الخاصة به بضمير الأنا وكروائي سيستخدم تعبيرات مثل: يمكن القول عبر فلاش باك تقليدي، ولنمد خيال السينما على استقامته فنقول كذا وكذا، وغيرها. بل إنه سوف يطلعنا على خبرات خاضها كي تفيده في استكمال الرواية، ومثل أي روائي سيعاني من صعوبة السيطرة على مصائر أشخاصه حتى أنه يتشاور بخصوص ذلك مع حبيبته التي تعود إليه مؤقتا بعد فراق طويل انتظمت في أثنائه في حياة عادية، وسوف يحذرك من المقارنة بينه كروائي وبين بطل روايته مازن حتى لو اعترف أحيانا بالسيولة في ما بينهما كان يقول مثلا: ولم يكن غريبا أن وجدت تفكيري في السفر يتسرب إلى حياة مازن، في الحقيقة سوف تأتي سيرة مازن في أكثر من سياق وكل تلك الأمور منطقية تماما. أما الفصول التي حملت عنوان «مازن» فجاء السرد بتقنية الراوي العليم، وطبعا نحن نعرف من هو هذا الراوي، إنه أكرم بكل تأكيد. تتطور حياه مازن كما ألفها أكرم في إطار محاولة الخروج من آثار حادثة فقد فيها احدى عينيه ثم صديقته ليتعرف في احدى رحلاته على فتاه ستحاول أن تساعده فتقترح عليه، على سبيل العلاج، أن يكتب سيرته الذاتية كأنها لأشخاص لا يمتون له بصلة، حتى إذا كان الفصل قبل الأخير – وكان جديرا بالعمل الانتهاء هنا – سوف تتضح لنا خطوط المؤامرة كاملة، فمازن وفتاته قد طاب لهما أن يتخيل نفسه كشخصية في رواية شخص آخر على أن يتكون العمل من فصول متبادلة بين ما يكتبه هذا الشخص عن نفسه وفصول يكون بطلها مازن، وكأنهما قد حلا محل محمد خير نفسه.
هنا سيعاد الاحترام لتقاليد القراءة، تحت هذا العنوان الكبير لا تقف «سماء أقرب» وحدها بل هناك الكثير من الأعمال الأدبية على سبيل المثال لا الحصر، قصة ياسر عبد اللطيف التي تحمل اسم نفس المجموعة القصصية «يونس في بطن الحوت» وكذلك «عام التنين» لمحمد ربيع (وإن تشككت قليلا في جدوى الأجزاء شبه التسجيلية في العمل الأخير) كلتاهما صادرة عن الكتب خان، 2011 – ما أقصده بإعادة الاحترام لتقاليد القراءة هو قبول تحدي أن يصبح فعل القراءة تجربة مدهشة في حد ذاتها، لقد أصبح الاستحواذ على وقت القارئ مهمة صعبة في هذه الأيام فمعظم أشكال التشويق قد تم استنفادها ولا بد للفن الروائي من أن يجدد نفسه وأن يكف عن اجترار أشكال وأنماط قديمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لقد تطورت في القرن الأخير علوم وفنون شتى وشقت لنفسها دروباً ودروباً مثل علم النفس وعلم الاجتماع وفن المقال وبرامج التوك شو، وبات واضحا أن الفن الراوئي سيتخفف في مقبل الأيام من معظم ما أثقل كاهله من نقد اجتماعي وتحليل نفسي وتحريض وخطابة، لقد آن الأوان لهذا الفن للعودة للتعامل مع أكثر المستويات قاعدية بين كل البشر، أقصد حب اللعب والسعي وراء الدهشة والرغبة في المغامرة بما هي اختبار حافة المنطق والمقبول والمعقول، لتصبح له زاويته الخاصة في تأمل الوجود.