عبـير الـبراهيــم
عند شواطئ الإسكندرية لمحته رجلا في مقتبل الحزن، يمد يده إلى تراب الساحل ليدس به الحكايات، سمعته يكتب ويقول (مر عام، ومازلت أقف على باب غرفتك ليلاً كعاشق قديم، أسترق السمع، لأنفاس متعثرة، أغنيتي صامتة، حتى لاتستيقظي، وتضبطيني متلبساً بالحب).. يسرد في تلك العزلة مع حورية البحر أحزانه فيما أقترب منه قليلاً.. أجلس بجوار الألم، أحضن ركبتي إلى صدري.. أسند مقدمة رأسي عليهما وأنظر إليه فيما هو مشغول بالهذيان والتوحد في عالمه.. أسمعه يقول (أنا الأب الكبير لأسرارك، بانتظام كنت تعلقين على مشجب قلبي، سراً جديداً، حتى يخيل لي أن السر هو الابن البار لحياتك، مقدار غيابك الذي خلف في حلقي مذاقات، لم أكن أعرفها من قبل، مذاقات اليتم).
أسمعه بكل ذلك الوجع الكبير الذي يلفه في قصاصات من الحبر ليفضي به إلى هناك.. بعيداً.. عند موج البحر.. يمد يديه إلى عمق البحر، يخرج من جيوبه ذاكرته القديمة والغياب وبعضا من الأحلام.. يسلمها لزورقه الورقي ثم يدفعه بأصابعه نحو الموج ليرحل.. بعد أن يتمتم “أرغب أن أموت وأنا ألهو هناك“..
الشاعر والروائي المصري “علاء خالد” يدخل المكشوف.. ليقول لي (الذاكرة ضمير أو آخر محايد لاتميز بين ماهو جميل أو مؤلم.. يأتي هنا ليتعرف بأنه قال للحياة “نعم” وبأنه نحو الاتجاه المعاكس كان دائماً يسير.. لأن المجازفة الحقيقية لاتحدث إلا مرة واحدة فقط”.. أسأله عن التخلي فيقول بأنه نوع من إعادة ملء مختلفة وتلك هي الصوفية الاجتماعية.. ثم أسأله “من هي تلك الحورية التي تأتيك من البحر بتعاويذها” فيقول “حورية البحر هي الخيال الجمعي الذي نلتقيه عند انتظارنا واندهاشاتنا أمام البحر“..
مازال هناك متسع من الحياة
كي أخدم روحي كما تريد
ينهض.. ينفض عن روحه تلك العزلة.. يمشي نحو الحياة.. أناديه ” ألن تكمل بقية الأسئلة؟؟ يلتفت نحوي.. يقول ” كلما زاد السؤال عمقا كلما فقد طرفه الآخر وصار جزءاً من النفس والذات “.. ثم يمضي.. بعد أن أسأل نفسي ” أكنت أهذي؟ أم أنني – حقا – التقيت رجلاً هنا ” يلاعب المفاجآت ويسطو على المجازفات!!
علاء خالد.. يدخل المكشوف.. ليكتب، يبوح، يحزن، ويعد بأن يعيش الحياة دائماً وهو على موعد مع الحب وبأن يدخل إليها من منطقة الخطر.. ولكنه بعد كل ذلك يقسم بأن أسراره ” صديقته ” ولن يكون – يوما – عبدا لها..
الأيام المؤلمة:
* تبقى أجسادنا حرة لاقيود عليها فيما نخبئ أثقالنا بداخل قلب يحمل أيامه، سنواته، أزمنة اختارته قبل أن يختارها.. نتعثر بكل ذلك القدر من القيود دون ذنب.. كيف هي شكل الأيام التي حملتها بداخلك ومازلت تتألم منها ومن أجلها؟ من الذي يختار الآخر أولا. نحن من نختار طريقنا في الحياة أم أن الطريق هو من يختار مصائرنا؟
– ليس هناك من يختار الآخر، لا، نحن نختار الطريق ولا الطريق هو الذي يختارنا. هناك اختيار يحدث ويتأكد خلال الرحلة، وحسب نوع الحياة التي سنختارها لأنفسنا. أعتقد أن هناك احتمالات عديدة لحياة كل منا، وأعتقد أيضا أن كل منا بقصد أو بدون قصد، يرشح إحدى هذه الحيوات أو الاحتمالات لتكون حياته الشخصية. أي كانت نوعية هذه الحياة. جميعنا نحاول أن نهرب من الألم، أو الحياة التي يتضمن داخلها الألم، وربما لهذا السبب نختار أو ننحاز للاختيارات التي تقلل هذا الألم، إذا كان موجوداً، أو نقلل مانراه أنه ليس مناسباً لنا. ولكن بالرغم من كل هذا هناك صدفة، أو تواطؤ يحدث ليدعم طريق ما ويرشحه عن طريق آخر. أعتقد أن الأيام التي فارقناها هي بشكل عام الأيام المؤلمة، ليس بسبب ماتحتويه ولكن بسبب أنها أصبحت بعيدة أو في طريقها للزوال، ولم يعد لها مكان سوى الذاكرة، أعتقد أن الذاكرة ضمير، أو آخر محايد، لاتميز بين ماهو جميل أو مؤلم، ولكن كلما أضيف لها ذكرى كلما زادت عدد فراغاتها، فالذكرى عبارة عن فراغ داخل هذه الذاكرة، وهنا مقياس الألم بالنسبة لها وبالنسبة لحاملها، إنه يعيد تمثل الذكرى عبر هذا الفراغ، أو الزوال، أو الخوف من الموت.
قلت للحياة «نعم» ودخلت المجازفة الكبرى.. في ذلك البيت وجدت الحزن حاضراً عند كل باب
قوة الخذلان:
* نهرب من إنسان واحد يسكننا، نهرب منه بداخل فراغات المدينة وبداخل الأيام المشغولة، لكننا نسمعه يخرج بعد أن يطل علينا من نافذة الروح، يسرق منا ضحكاتنا ويرحل.. لماذا يصعب علينا مقاومة الالتصاق بمن كان موجودا بالقلب ثم خذلنا ورحل؟ أيمكن أن نكون قلوب لاتشبع من أوجاعها وحماقاتها؟
– ليس إنسان واحد فقط هو من يخذلنا برحيله، الحياة هي التي تخذلنا متجسدة في هذا الإنسان. لولا صورة الحياة التي تقوم على الالتصاق أو الحماية أو التبادل، وهو مايجمعنا بمن نحب بشكل عام؛ لما أحسسنا بقوة الخذلان. بالنسبة لي لم أشعر بأن أبي أو أمي قد خذلاني بموتهما، ربما كنت في عمر يتيح لي استقبال الصدمة، وعدم إرجاعها أوتعليق السبب عليهما، أو إدانتهما، فمن يقوم بإدانة من مات لأنه تركه وحيدا مثلا، أعتقد أنه في هذه الحالة مازال لايعرف الموت أو يعرف الحب. المعرفة للحب والموت لها وجه غير مشروط لأنه قدري. عند مواجهتي لموت أبي أو أمي، أحسست بأنني أتقدم خطوة في طريق الحياة عبر هذا الموت المادي والمجازي، موت كل منهما، كل بحسب موقعه من نفسي؛ كان خطوة للأمام. وهذا “الأمام” ليس تقدما، ولكن كشف للموقع الذي أشغله في الحياة وتحديد لمساحة هذا الجسد والنفس عبر هذا الغياب، الغياب أحيانا يطرح إضاءة كاشفة على الأشياء الحاضرة ومنها النفس.
* كتبت (تفرقت ملابسك على عائلات كثيرة، أصبح في كل بيت طالته ملابسك قبر صغير، أتعامل مع الموت، كجريمة يجب أن أخفي آثارها حتى أستأثر بالفقد.. الشيء الوحيد الذي لاأقدر على إخفائه، الشيء الذي يمكن أن أحمله معي أينما ذهبت).. تحب أن تستأثر بالفقد حينما تعيش ألم الفقد.. ولكننا دائما نعيش الألم الأكبر كلما مرت الأيام على ذاك الفقد.. وكأن الحزن كالأشجار ينمو ليتشعب بالروح.. ما السر خلف رغبتك الجامحة في أن تستأثر بالفقد لوحدك؟ هل حينما نعيش حالة التوحد بذلك الفقد نمكن قلوبنا أن تشفي من حرمانها؟
– الفقد شيء غير متعين ولامرئي وليس كالحزن، فالحزن بالرغم من كونه سحابة تصيب النفس وتغيم وتغير عليها، فالفقد شيء أكثر تساميا من الحزن، هو الحزن بدون ظواهر، أو علامات عليه. هو المكان الأخير الذي يذهب إليه الحزن بعد أن يتكرر ويصفي ويتشكل بصورة معاناتنا. الفقد هو بيت الحزن الفارغ، داخل هذا المكان يعيش من مات، ولكن بصورة أخرى، بصورتنا نحن، كأننا نحفر قبرا له بداخلنا، ليعيش بجوارنا بعد أن يتم “تمصيره”، أن يعيش بجوارنا بعد أن يتحول لسؤال كبير يخص وجود “الآخر”، ومن هنا تبدأ حياته مرة أخرى، بدون أن ندري نمنح الموتى حياة جديدة، بعد نسيانهم كمادة وكصورة، وحضورهم كعنصر من عناصر الذات السائلة.
ـ أهم الأسئلة هي التي لاتحمل إدانة ولا تنتظر إجابة
ـ هذا القبر الذي صنعته ملابس أمي في كل بيوت الأقارب التي تفرقت عليها، هو إحياء للموت وللأم، عبر رمز القبر. القبر علامة من علامات الخلود المؤقت.
اندهاشات:
* ليس هناك أصعب من أسئلة تستعصي علينا أجوبتها، نعيش بذلك القدر من الشتات والحزن لأننا لم نصل إلى حقيقتها.. أي الأسئلة التي لطالما حالت الإخفاقات بينك وبين أجوبتها؟ ألا تكفي تجاربنا في الحياة كي نبدد حيرة الإستفهامات ولنضع نحن الإجابات؟
– بالتأكيد هناك أسئلة كثيرة لم نصل لإجاباتها، وكلما تقدم العمر صارت الأسئلة تأتي في شكل ممتع، كأنك باكتشاف السؤال وصياغته في وجدانك أو في عقلك ووقوفك أمامه وإحاطتك به، هو في حد ذاته إجابة وحل، أو تقدير لهذه النفس المتسائلة التي أصبحت قادرة على نسج أسئلة لها عدة طبقات، أسئلة متراكبة وليست من قبيل أسئلة الطفولة والمراهقة تلك الأسئلة التي لاتعتبر أسئلة بل إدانات أو اندهاشات مباشرة وبريئة. السؤال الهام في رأيي هو الذي لايحمل إدانة ولا ينتظر إجابة، فكلما زاد السؤال عمقا كلما فقد طرفه الآخر أو محاوره. وصار جزءا من النفس أو الذات.
* البحر هو إنسان له صوت ووجه ويدان وقدمان.. أنه كائن نشعر بقلبه ينبض كلما اقتربنا منه، يسمع منا ويعطينا، من يجاور البحر يتحول إلى إنسان بحر. بقلب مفتوح وذراعين تتلقيان السماء لتحضنها.. وأنت يا “علاء” ابن البحر، من الإسكندرية أتيت، في قميصك رائحة ضحكات البحر وفي وجهك حكاية “زورق “.. أخبرني عن أحلامك التي بنيتها لدى سواحل بحر الإسكندرية ولم يستطع الموج أن يسرقها كيف كانت؟ أألتقيت يوما بحورية البحر فقرأت عليك تعاويذها وتركت لديك ضحكاتها ثم رحلت؟ ماذا قالت لك؟
– لقد بنت الإسكندرية أحلامي، أو كانت سبباً في تكوينها وشكلها وملمسها ورائحتها. سنوات لم أفارق فيها البحر كآخر صامت يتم تبادل حوارات مختلفة معه. لقد أمضيت سنوات كنت أجلس فيها على البحر، أقرأ كل شيء، شعرا، وروايات، وفلسفة. بين كل صفحة وأخرى تستوقفني عبارة، عندها أرد الجملة الجميلة أو الملغزة أو الصادمة أو الغامضة أو المركبة إلى البحر. أردها إلى صورتها الأولى، وهو سيقوم بالباقي، سيضعها في مكانها لتعود إلى من جديد وقد زال بعض غموضها، أو حدتها. البحر كتاب واسع أو قاموس كوني للمعاني. أمام البحر يعود كل معنى أو سؤال إلى كونيته، إلى الخيال الجمعي الذي نلتقى عنده جميعا. ربما حورية البحر هي بشكل ما الرمز المادي أو البحري لهذا القاموس الكوني أو الخيال الجمعي الذي نلتقيه عند حوارنا أو انتظارنا أو حيرتنا أو اندهاشنا أمام البحر. البحر آخر متعدد ومنفتح أيضا.
أصبحنا نستجلب الشتاء في كلامنا وملابسنا لنشعر بالدفء
مفاجآت الروح:
* كتب بسام حجار(أعدك أن أنام، أن انتظر الصباح المقبل ومايليه، لكني مجبر على الرحيل الآن، لاعمل أو موعدا أو نزهة أو أي شيئاً من هذا القبيل. فأنا متعب وقد خدمت روحي ما استطعت).. أتنتظر صباحا يأتي إليك ليدس بقلبك الدهشة ويمضي؟ ماذا تتمنى أن يقول لك؟ ومتى تقول لنفسك.. لقد تعبت؟
– كان بيني وبين بسام حجار إعجاب متبادل في بداية التسعينيات. وأحببت جدا هذه الأبيات المختارة من شعره، خصوصا وهو يقول ” فأنا متعب وقد خدمت روحي مااستطعت”. جملة مؤثرة بالفعل ربما هي الجملة التي تحمل بين طياتها المسؤولية عن النفس، وليس التنصل، أو الاستقالة من الحياة، والرحيل. شرط الرحيل هو أن تكون خدمت روحك مااستطعت. ولكن أحيانا هناك زمن عالق بين الرغبة في الرحيل وخدمتك لروحك مااستطعت. هذا الزمن العالق وملله أو انطفائه؛ بلا شك هو الزمن الذي يتم الشعور به من داخل هذه المسؤولية عن الروح، ومحاولة وضعها في المكان الذي يليق بها كروح. هكذا تعلمنا. بالنسبة لي تطفو لحظات التعب، ومن داخلها تطفو أيضا أسباب الاستمرار، فحتى الآن لم أخدم روحي كما أريد، مازال هناك وقت آخر ليس فقط لكي اخدم روحي، ولكن لتخدمني هي، وتؤجل هذه الرغبة في الرحيل، بل تخفيها عني، وأموت وأنا ألهو وسط مفاجآت هذه الروح وألاعيبها. مازلت انتظر مفاجآت من روحي.
* ندخل اللعبة الحياتية.. نحاول أن نصل وأن نقول كل مايمكن أن نحكيه دون وخزة ضمير.. فالأهم في الحياة أن نتظاهر بأننا عشنا حتى إن لم نعش كالأحياء.. أخبرني هل أنت حي تعيش؟ متى تخشى أن تموت وأنت حي؟
– ربما هي لعبة حياتية عند البعض، وربما هي لعبة حقيقية عند البعض الآخر. في نظري الأهم أنها غير كافية وقصيرة لاكتشافها، أو التعليق عليها أو اتخاذ موقف منها. فأي تعليق أو تظاهر أو موقف يظل ناقصا، وربما الحكاية والكتابة والبوح كلها تعوض هذا النقصان في أدوات الحياة وفي طرقها، وفي درجة إشباعها. بالنسبة لي أعتقد أن الكتابة هي الحياة الثانية داخل الحياة الأولى، الظل الذي يلازمك، ويوسع لك وجودك، وهي أيضا مكان اختبار ومعاينة الحياة والأفكار داخل مقياس زمني محدد. هذا الزمن المتسع، يتحول داخل الكتابة إلى شكل معين وطريقة، هذا الشكل يمنح الإحساس باحتواء زمن أكبر، أو تعويض هذا النقص المزمن في احتواء أو تحرير الكون الذي يحتوينا.
* كتب باولوكويلو (تحدثني نفسي أنني على وشك اتخاذ قرار سيئ، لكن الأخطاء شكل من أشكال التقدم في الحياة ماذا يريد العالم مني؟ هل أجازف أم أعود من حيث أتيت دون أن أمتلك الشجاعة لأقول ” نعم ” للحياة).. أتحب أن تدخل المسالك الوعرة في الحياة؟ أيمكن أن تكون أخطاءنا نوعا من أنواع المجازفة؟ متى اضطررت أن تقول للحياة “نعم”؟
– بالتأكيد أحب المجازفة ولكن بحجم تحملي، أو قدرتي على التحمل. المجازفة بحق لاتحدث إلا مرات أو مرة واحدة في العمر بحيث تكون جديرة بكلمة مجازفة وتكون جديرة بأن تغير نمط الحياة التي من أجل تجاوزه كانت هذه المجازفة. المجازفة نوع من الخطر يجب ألا تُستهلك بحيث لا تكون تجربة مكررة أو تدخل في نطاق الأفعال أو الممارسات النمطية. كل هذا يعتمد على فرادة وخصوصية الوعي، أو كيف يرى الوعي مكان الخطر الحق.
لاأعرف ماعلاقة المجازفة بالخطأ في جملة كويلو، أن كانت ضرورية فلا يمكن أن يلحق بها لفظة الخطأ، الخطأ لايرى إلا عبر رحلة كاملة، أما المجازفة فلا تنتظر تقييما. المجازفة أحد ثوابت هذه الرحلة، وليست هي الثابت الوحيد أو السبب الوحيد لها. ربما المجازفة في هذا المعنى هي التي تحول طريق الأخطاء إلى دفق روحي وحياتي. الأخطاء بدون روح خاصة لامعنى لها. لقد قلت نعم للحياة كثيرا عندما كانت هذه “النعم” نوعا من المجازفة أيضا ولكن في الاتجاه المعاكس، أو باتجاه تقبل الآخر، الذي من دونه تصبح المجازفة والأخطار والأخطاء وحيدة ومنهكة وغير مثمرة.
* كتبت (لا أعرف ماهي حقيقة الحب، ولكني أعرف بأننا يمكننا أن نحب، كلما تواضعنا في رؤية أنفسنا ورؤية الآخرين).. أيمكن للتعالي والغرور أن يخنق روعة الحب بداخلنا؟ كيف لنا أن نعتذر للحب حينما نشعر بأننا لم نفهمه جيدا ولم نصغ إليه كما يجب؟
– إذا كان الحب، أو درجة ما منه، هو التبادل بدون حساب القوة، فلن يتم هذا التبادل سواء مع الحياة أو مع الآخر، الذي هو جزء أصيل من النفس وهدف الحب، إلا عبر الإنصات من مستوى يسمح بتدفق هذا الحب. هذا المستوى برأيي هو التواضع، تجاه النفس، وليس قسوة عليها أو تقليلا منها، لأنها في الوقت نفسه ترى الآخرين بهذه العين الجديدة، أي لاتطلب من الآخرين ماهو فوق قدراتهم.القوة تأخذ مسارات إيجابية، وليس كحد للتمييز بينك وبين الآخر. أعتقد أن المسؤولية تجاه النفس هي التي تضبط نوع الحب. الحب نوع مُلح من الحقيقة.
* نتخلى عن أشياء هي جزء منا، نقسو على طبائعنا حتى نستطيع أن نحتفظ بكرامتنا التي لفرط صدقنا تتعرض للجرح.. أتخليت عن أشياء تحبها حتى تحتفظ بكرامتك؟ حينما تشتاق لتلك الأشياء ماذا تفعل لتخفف من الحنين؟
– التخلي جزء أساسي في معادلة الحياة، لتصفية النفس من زوائدها، ومن مشروعاتها غير المجدية. وفي الوقت نفسه إكسابها أشياء جديدة لتعوض الأشياء التي تم التخلي عنها. التخلي ليس إفراغ الذات، وإنما إعادة ملء مختلفة. لاتترك مكانها فراغا أو حيزا خاليا، ففعل التخلي نفسه فعل إيجابي يملؤ المكان النفسي. إنها نوع من الصوفية الاجتماعية.
وفي هذه الحالة لايأتي الحنين، لأن الحنين يطارد الأشياء التي لايمكن استعادتها، أما الأشياء التي يتم التخلي عنها يتم استبدالها بأشياء أخرى، تظل موجودة كظل وكمراقب للأشياء التي كانت السبب فيها، لذا لايحدث افتقاد لها لأنها قائمة باستمرار ولكن بدون فاعلية أو تحكم في النفس.
المزاج السكندري:
* الشتاء كائن حب. يأتي ليرزع الزهور بأرواحنا وليحولنا إلى طيور صباح تغني للصخب والجمال والدهشة.. وماذا عنك؟ أيهديك الشتاء أغنيات وسكاكرا وحبا؟ كيف هو قلبك في الشتاء؟
– لقد تغير الشتاء في مصر وفي الإسكندرية بالذات. كونها كانت مميزة بالشتاء الطويل والقارس. في الماضي كان الشتاء فصلا كاملا يتم الإعداد له، والإحساس به، والاستمتاع به. كان له سكونه على النفس والشخصية والمزاج السكندري. مازلت أتذكر هذه السنوات الكونية عبر هذا المشهد الأسطوري للمطر. الناس في مصر الآن، ونظرا لغياب فصل الشتاء أو تأخره في السنوات الأخيرة، أصبحوا يستجلبونه في كلامهم، وفي ملابسهم، ربما هو بجانب كونه فصلا كونيا، هو فصلا جماعيا، يفرض الشتاء علينا دفئا جماعيا. وهنا المفارقة.
* حينما أتأمل “مغتربا” أشعر بعواصف تأخذني إلى داخله، عالمه، وحدته، أذهب مع ملامح وجهه وأتحسس بروحي قسوة وجفاء غربته.. أيمكن أن تكون الغربة موحشة بكل ذلك القدر؟ متى نشعر بالغربة حتى ونحن بداخل بيوتنا ومع أسرتنا؟
– لم أشعر بالغربة حتى الآن، ربما أشعر بسوء الفهم المتبادل، فيما مضى، بيني وبين من حولي، ولكنها لم تصل لدرجة أن تشعرني بانفصالي عمن حولي. كانت هناك دائما نقاط تماس دافئة. ربما التقبل، أذاب هذه الحدود الشخصية الجارحة، والتي تدافع عمن يحملها وتقوم بخدشه في أعماقه. ولكن هناك اغترابات أعمق وشديدة الخصوصية لآخرين استمتع بالنظر لمنتجها الفكري المؤلم والثري. مثل كتاب مدرسة فرانكفورت.
* علينا أن نكتب.. وأن نأتي بكل التآمر الشهي على الكلمات حتى تأتينا بشهب الأحلام. فكلما قبضنا على القلم كلما تورطنا في عمق التفاصيل والحياة أكثر.. حينما تحب أن تتورط في ” دهشة كتابة ” أي الأماكن التي تختارها لتلتقيها فيها؟ أتجد هناك “علاء خالد” ينتظرك؟ أم أنك تهرب منه لتصادف آخرين في حكاية حبر؟
– من أكثر الأماكن التي كنت أحب الكتابة فيها هي المقهى، وقد ظلت هذه العادة معي لسنوات. وكذلك وأنا سائر عادة التقط الأفكار التي لاتأتي إلا أثناء السير. الآن وكما قال هنرى ميللر “أسافر في رأسي” وآتي بالأفكار من كل الأماكن التي تدخل فيها النفس وتخرج وهي مشحونة أو منداة “بعرق الخيال”. مكان الكتابة أصبح مزيجا من مكان مرئي وآخر غير مرئي.
* نمر بحكايات ألم نحتاج فيها أن نثبت فيها مواقفنا.. وهناك آلام نتحاشى فيها حالة الإثبات تلك حتى لانظهر ضعفنا.. نفعل ذلك حينما – حقا – نبلغ الذروة في الوجع… متى شعرت بحرقة الألم ولكنك حاولت أن تخفي ذلك الوجع عن ” علاء خالد ” حتى لايحزن من أجلك؟ أيصدقك “علاء” في كل ماتقوله له؟
– بالتأكيد هناك آلام لايمكن التحدث عنها، ليس لأنها سر، ولكن لأنها جزء عضوي من الوجود الشخصي. المسالة ليست أسرارا، ولكن كل وجود به فراغ هو جزء من تكوينه.
* ماهو السر الذي لم تقله يوماً لأحد؟
– هناك أسرار كثيرة ولكنها تكونت في وقت عادل بالنسبة لي، فأصبحت كالأصدقاء لاتمارس علي سلطة السر، لا تعاملني كسيد وأنا عبد لها أو العكس. ليس كل سر هو مالا نقدر على البوح به، بل السر هو مالا يستعبدنا نفسيا ونصير خدما له وخائفين منه أمام أنفسنا قبل خوفنا أمام الآخرين.