فسيولوجيا وذهنيا، في تكوين علاء خالد شيء من رحابة المكان، هيئته المميزة: حقيبة سفر أو ال”هاند باج” علي ظهره أو ربما كتفه، حركته وتقاسيم وجهه: عبور بين رصيفين، أو انتظار أمام قضيبي قطار، أما انتقالات عينيه فترسم مساحة ما بين نسمة هواء حرّكت مشربية في مصر القديمة، أو عاصفة حميدة خلطت البحر برمل شط سكندري، الشاعر السكندري بالإقامة في حالة رحلة أو سفر دائمين، ربما لهذا لم يختر الهجرة إلي العاصمة: “لم أكن أريد أن أخنق نفسي بحدود المدينة التي أعيش فيها”، في روايته الأولي الصادرة حديثا عن دار الشروق، يركز علاء علي المكان، فقط من حيث إيحاءاته، والأكثر أهمية التاريخ الذي بداخله، يقول: “التاريخ عندما يمضي يتحوّل إلي طاقة ورموز في قلب المكان، ودائما ما يغريني تأويل الرمز المختزل داخل المكان”. عمليا تشتغل مجلة “أمكنة” – التي أسسها مع زوجته سلوي رشاد – علي هذا التأويل: “أسفاري ورحلاتي ومشاهداتي أعيد تأصيلها في المجلة، تحديدا السفر داخل مصر، وذلك من أجل خلق الآخر”.
يبرّر خطوته الجديدة ب”كنت دائما أفكر في كتابة رواية، أن يكون هناك عمل له ثقل ما و”أخذ راحتي” في كتابته والتعبير عنه، بعكس الشعر، فهو رمزي ومجرد، يخرج من الذات ولا يمنح تلك المساحة والرحابة التي تتيحها الرواية”، من ناحية أخري أحسّ من خبرة العمل الصحفي بامتلاك قدرة ما علي السرد، منحته عالما متشابكا وأشخاصا جدّدوا ظهورهم له وأصبحوا أكثر امتلاء ونضجا، وتعددت زاوية رؤيتهم. كتابة هذه الرواية لدي علاء لم تكن حالة تطهّر، أو شكل من أشكال الاعتراف الديني الأدبي للتخلص من الألم، لأن مثل هذا الثقل لا يحقق المتعة في الكتابة كما يذهب، لكن بإمكان القول وفق علاء أن الرواية نوع من التخفف من هذا الألم، فكما ورد في نهاية الرواية “الألم في الحلم لا وزن له”، الراوي من خلال الحكي يأمل في أن يوجد شيء ما يمكنه أن يتخفف.
لا يصنّف علاء روايته ضمن أدب السيرة الذاتية ولا حتي الانتقائية، يعتبرها واقعة بين الاثنين، الوقائع وإن كانت حقيقية لكن أبطالها يسيرون وفق “رحلة” اختارها المؤلف، ويلخصون “حلما” يشبه إلي حد ما حلم الكاتب الشخصي لكنه بالتأكيد يشبه حلمهم، يردف: “في الرواية راو ليس هو الكاتب، أو بعبارة أخري، هو الكاتب مضاف إليه عوالم وأشخاص أخري”، أما الكتابة عن تاريخ العائلة، فيعترف علاء أنها مغرية وراجعة إلي طبيعة الحياة التي عاشها في “بيت العيلة”، ووصف فكرة رسم وتكوين شجرة العائلة التي استعان بها في الرواية بالمحفّزة: “ربما لأن الشجرة نفسها تكنيك يعطي هيكلا وتاريخا متماسكا للرواية”.
لا يكتب علاء في “ألم خفيف” عن الإسكندرية، بل لم يكن يهمّه – كما يوضّح لي – استعراض تاريخ البلد أو المدينة أو حتي الوطن في فترة التسعينيات من القرن العشرين هي زمن الرواية، تظهر الإسكندرية عائمة وطافية علي سطح الأحداث، يعجبه هذا التعبير ويفسّر: “بتعمّد غير مقصود لا أكتب عن الإسكندرية الآن أو الماضي، ربما لأن تلك هي طريقتي في نظرتي للمدينة”، ويضيف: “لا أريد تحويل المدينة إلي فكرة سياسية، حيث إسكندرية الكوزموبوليتانية والتسامح والآخر والأجنبي، صحيح أن التعبير عن هذه الأفكار مهم، لكنه يمنع إظهار صورة الذات من خلال المدينة وهو ما يهمني أكثر”. لكن تباغت قارئ الرواية انتقالات مفاجأة في الزمن، هل هرب الكاتب من بعض الأشياء في هذه الرواية؟ يرد: “نعم لكن ليست لأنها تخجلني، بل لأنه ليست لدي إمكانية للتعبير عنها، ربما لأنها لم تكن متوائمة مع سياق الرواية، وقد أرجع لها يوما“.
صادم إن لم يبعث علي الملل ذلك الطابع والإيحاء الكلاسيكي الذي ينتقل إلي قارئ رواية علاء خالد، حيث اللغة الشعرية وتعددية الأشخاص والإطالة في الجمل والأوصاف، يشرح علاء مدافعا بما معناه أنها رواية كلاسيكية بتقنيات حداثية، وأن هذا الإيحاء قادم من اشتغاله علي نمط عريض من الحياة والأشخاص، له علاقة بموقع حياته الشخصية، الذي للمصادفة كان واسعا، خاصة ما يتعلق بهامشية الطبقة المتوسطة التي اختفت، وهي فكرة الرواية الرئيسية”، بهذا المعني لا يعوّل علاء علي أغلبية النماذج الجديدة للرواية، يعتقد أنها منولوج أكثر منها ديالوج، تتحدث عن تجارب فردية متوحّدة هامشية واستثنائية بعض الشيء وخالية من الروابط، لكن بالنسبة إليه فقد أفادته اللحظة الحديثة التي يعيشها الآن في تغيير مجال الخبرة، بأن نظر إلي التاريخ وفق لحظة حديثة تخلقها اللغة وطريقة السرد في الرواية، والأهم من وجهة نظر علاء موقع الراوي الذي عمد إلي جعل صوته متواريا وخافتا لا يفرض تفاصيله ومشكلاته الشخصية علي الآخرين، ولأن “ماكنتش عاوزه يكون نفسي” لجأ إلي إلغاء ما يتعارض مع نفسية ذلك الراوي بسبب تحليلات وتدخلات الكاتب، وكل هذا الحرص نابع من أن المؤلف لم يتعامل مع “ألم خفيف” علي أنها سيرة ذاتية كما يقول، فقد اختار بطلها “مش فاهم حاجات” و”عنده حتة ناقصة”، وأحكامه مراوغة، حدسية أكثر منها عقلية، لأنه مشحون بحلم ما، جعله يظهر وكأنه بطل في فيلم، يشرح: “لديه حلم مركب بشكل أو بآخر يسمح باستمرارية الأمل، فأحيانا يصبح استمرارنا مرهونا بالحدس لا بوقائع مادية، وهذه نقطة مهمة بالنسبة لسيكولوجية الراوي وسيكولوجية الرواية وأكيد جزء من سيكولوجيتي أنا أيضا“.
جاءت صورة سلطة رب الأسرة كما تظهر في الرواية بعد تغيرات مرحلية اعتلت نظرة علاء خالد لفكرة السلطة في حد ذاتها، حيث انتهي إلي الإيمان بضرورة وجودها لخلق الآخر، يؤكد أنه شخصيا امتلك منذ بدء الكتابة طموحات لفهم الآخر: الأب، السفر، الموت، الرحلات، أما استعادة صوت الأب في الرواية بعد موته، فلم تكن للتصالح مع الماضي بل لإعادة تصوّر اللحظة الراهنة: “فكّرت في أنني لست مثاليا ولا هو، وأن السلطة جزء أساسي للوقوف ضدّها، ليس للإزاحة بل للتنويع علي أحاسيس البعد والقرب، وإعادة تكوين العلاقات وفهمها”، هكذا أراد علاء للسلطة الأبوية في الرواية أن تكون مرنة وإنسانية، لأن الأب الحقيقي كما يحلّل علاء له تركيب وسياق تاريخي يفسر مصيره، ويفهمنا تلك القدرة التي تحلي بها علي الخطأ وظلم الناس، وفي نفس الوقت كانت لديه مساحة وعي وجزء أصم للاعتراف بالآخر، في الرواية قام الأب برحلة لفهم العالم، وفي الواقع أدخل والد علاء الفن إلي البيت، وكذلك المكتبة التي سمح لغيره بالاطلاع عليها.
الكتابة إيجاد رحلات ذاتية شخصية، بهذا المنطق يحضّر علاء للعدد الجديد من مجلة “أمكنة” وسيكون محوره عن الجامعة، وهي من وحي تجربة علاء الشخصية كانت مكانا للتشوّش والالتباس والغيامة والتنافس الطبقي: “كنا نغالط أنفسنا بالتعاطف أحيانا مع الجماعات الدينية، فقط لأنها تجسيد لكره السلطة السياسية وقتها ومقاومة الظلم”، يستطرد: “لم تسمح لنا الأوضاع بسلك طرق واعية ومنطقية للرفض، كنّا نتشبّث بأي فكرة للخلاص، ولم نستطع تحديد موقف حقيقي من هذه الجماعة“.
العمل فترة تحوّل ثانية في حياة علاء، اصطدم فيها مرة أخري بالفكر الديني: “كنت أحس أننا داخل جامع وليس شركة لمراقبة الجودة”، هو يري أن هذه الجماعات تتمثل خطابا شكليا مليئًا بالتناقضات، ثم كانت المقاومة بالاستقالة، ومن وقتها بدأ في الكتابة، يحكي: “أحسست بوفرة ثانية في الحياة ولم أعد مكبّلا بأعباء واقع مهني، هي بالأدق وفرة الاستغناء، حيث أصبحت بلا روابط اجتماعية مقيدة، وكتبت كي لا أشعر بخذلان الحياة“.
يقلب علاء مقولة عدم اكتمال تجارب جيل الثمانينيات الذي ينتمي إليه، يري أن مأساة جيل الستينيات في ثوابته التي لم يستطع معها تأصيل نقصانه، مؤكدا أن اللحظة الحالية تعطي إيحاء بالتعدد، فيما هي ضيقة وملتبسة وخالقة للتعصب، ومن ثم أصبح الصوت السائد هو إدانة التاريخ وتاريخ الإدانة، أخيرا انتهي علاء كما يخبرني من الكتابة عن عالم العائلة، أما موضوع السلطة فالمؤكد أنه مازال هناك الكثير والجديد لقوله بخصوصها، باختصار: “أفكار هذه الرواية ستستمر لكن في عوالم أخري“.