عطل المخيلة أو صورة السجان في فيلم القارئ

عطل المخيلة أو صورة السجان في فيلم القارئ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مدخل:

تدور أحداث فيلم القارئالمأخوذ عن رواية للكاتب برنارد شلينك في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. نرى المراهق "مايكل بيرج" (يلعب دوره ديفيد كروس مراهقا ورالف فينس بالغا وكهلا) وقد أصبح مريضا فتقوم "حنا شميتز" برعايته. حدث خاطف تبدو فيه حنا وكأنها دخلت حياة مايكل فجأة من اللامكان. مايكل يتعافى من الحمى القرمزية، ويسعى للخروج كي يشكر حنا. ينخرطان بسرعة في علاقة عاطفية سرية. مايكل يكتشف أن حنا تحب أن يُقرأ لها، فقرأ لها من "الأوديسة"، ورائعة أنطون تشيكوف "السيدة صاحبة الكلب". تتعمق علاقتهما بما فيها العلاقة الجسدية. وعلى الرغم مما يبدو من ارتباطهما الوثيق، تختفي حنا في ظروف غامضة فجأة وتترك مايكل بين الحيرة والحزن. بعد ثماني سنوات، وبينما مايكل يراقب محاكمات جرائم النازي ضمن برنامج دراسي خاص في كلية الحقوق، تقتحم حنا حياته مرة أخرى؛ ليس كحبيبة ولكن كمتهمة ماثلة أمام المحكمة. وينكشف جليا ماضي حنا كسجانة في معسكر "أوشفيتز" الذي لم يكن غير معسكر إبادة لليهود. حنا ستكون السجانة الوحيدة التي تعترف بأنها تركت 300 من النساء اليهوديات يحترقن في مبنى الكنيسة المجاور لبيت القس حيث احتمت هي  والسجانات الأخريات. ستتلقى حنا حكما بالسجن مدى الحياة أما السجانات الأخريات فسيسجن عدة سنوات ويطلق سراحهن. 

في قاعة المحكمة:

المشهد الآتي هو ترجمة بتصرف محدود جدا لمشهد محاكمة حنا:

       القاضي يسأل حنا: لماذا لم تفتحي الأبواب؟

تصمت، وتطرق برأسها، فيكرر:

       لماذا لم تفتحي الأبواب؟

       لا أعلم شيئا عن سؤالك.

       هناك تقرير يقول بأنكن حتى لم تعلمن بأن الحريق قد وقع إلا بعد انتهائه. أسألك أولا لماذا لم تفتحي الأبواب أمام المسجونات اللائي كن عرضة لالتهام الحريق؟

       حنا: لسبب واضح هو أننا حارسات. كنا حارسات. مهنتنا هي أن نحرس المسجونات. لم نستطع ببساطة أن نسمح لهن بالهروب.

       القاضي: فهمت. كنت سلتلامين لو هربن. كنت ستصبحين مسئولة وربما تم اتهامك بتسهيل هروبهن.

       حنا: لا.

       القاضي: ماذا إذن؟

       حنا: لو كنا فتحنا الأبواب، لعمَّت الفوضى. كيف لنا أن نستعيد النظام حينها؟! لقد حدث كل شيء بسرعة. كان الثلج يتساقط. والقنابل. النيران اشتعلت في كل مكان في القرية. حينها بدأ الصراخ. صار الوضع أسوأ. ازداد سوءا. ولو كن جميعهن اندفعن نحو الخارج.. لم نستطع تركهن يهربن ببساطة هكذا. لم نستطع. لقد كنا مسئولات عنهن.

       القاضي: إذن لقد كنت تعرفين بما يحدث؟ كنت تعرفين؟ لقد اخترت. لقد تركتيهن للموت بدلا من أن تخاطري بالسماح لهن بالهروب.

      

السجان بلا إجابة.. بلا مخيلة:

“حنا لا تستطيع الإجابة. هي ليست لديها إجابة.”

هذه الجملة الأخيرة سُقتها بالنص من السيناريو الإنجليزي. لقد عبرت كيت وينسليت باقتدار عن هذا العجز عن تبرئة نفسها حتى حين ألقى القاضي لها – ربما غير عامد – طوق نجاة أو مخرج أو قشة تصلح للتعلق بها. لقد عجزت عن التقاط القشة، وعن ربط ذلك الإحساس الأعمى بالمسئولية بأمنها الشخصي كما رجح القاضي أو بأمن المسجونات والحفاظ عليهن كما يقتضي التصرف الأخلاقي. عجزت في قاعة المحاكمة ربما لأنها فيما قبل عجزت عن التصرف كإنسان. السجان عاجز عن الخروج من الإطار العقلي الضيق لما يتصوره وظيفته رغم أنه يمتلك كل النفوذ والسلطة على مجموعة من البشر داخل مكان ما. هو أيضا خاضع خضوع تام لسلطة آمرة فوقه. الارتباك والحيرة المغموستين في شعور بالظلم كان واضحا على ملامح وجهها. الأخطر في السجان هو عطل المخيلة أيضا. طريقة التفكير “المتجنبة” التي تركن إلى الفكرة المقتضبة الجاهزة ولا تتعداها للتساؤل “ماذا يحدث لو؟” وبالتأكيد هي ذهنية متحجرة تتبنى اتباع المنتج السلطوي الفاسد ويغيب عنها أي سؤال نقدي مصوب نحو جوهر تلك الممارسات الفاسدة. الهوس بإحلال النظام في أقصى وأقسى صوره هو هاجس السجان ومهمته الوحيدة. النظام قبل الحفاظ على الأرواح!

صورة السجان في فيلم القاريء تترواح بين التقليدية المتمثلة في القسوة المخيفة ونقيضها. المشهد السابق عكس الذهنية التقليدية للسجان حيث تصرفات الحراس بالغة العدائية. إجرامية، وغير إنسانية. بينما سلوكيات السجناء سلبية وخاضعة ومعبرة تماما عن الاكتئاب في مواجهة العقاب أو الموت. السجينات يمتن جميعهن ما عدا “لينا أولين”. تنحو الصورة الكلية لشميتز عبر ما يقدمه الفيلم منحى آخر معاكس لأيقونات السجانين والحراس التقليدية: الغلظة في الزنازين المظلمة الضيقة/ التعذيب بأحط الطرق/ القتل البطيء/ وغياب الندم. حنا لا تظهر في الفيلم كشخصية سيكوباتية بلا ندم ولا ضمير. لا تبدو أيضا كشخص سيء رغم العار الذي يكللها. كانت امرأة محبة في علاقة مع شاب يصغرها. علاقة جسدية ربما تعكس استغلالها لشاب يبلغ من العمر 15 عاما إلا أنها ستتحول لعلاقة حب فيما بعد مثلما حدث مع ديمتري وآنا في السيدة صاحبة الكلب. حنا هي السجانة التي خجلت من أميتها لكنها اعترفت بجرمها وجرم لم ترتكبه فوق جرمها. هي اختارت أن تكون سجانة لتخفي أميتها. عارها الحقيقي كان الأمية. غسلته في السجن بأن تعلمت القراءة والكتابة فيه عن طريق الأدب الذي أحبته. السجن نفسه كان يغسل عارها الأكبر كحارسة في معسكر موت. لقد ذوتت حنا وظيفتها كحارسة وفي اللحظة الفارقة تعطل وعيها وإدراكها أو أنها فهمت المسئولية بشكل غير سوي أو لم تفهمها على الإطلاق. قامت بالاختيار الخاطيء الذي دفعت ثمنه ما تبقى من حياتها. في أثناء المحاكمة اعترفت على نفسها بكتابة تقرير لم تكتبه في الواقع جعلها مسئولة عن قتل 300 إمرأة يهودية، مفضلةً ما سينزل بها من عقاب على اعترافها بأميتها. لقد كتبت وصيتها فمنحت الناجية الوحيدة كل ما ادخرته من مال طيلة حياتها على سبيل الاعتذارلإليانا ابنة لينا أولين الناجية الوحيدة من حريق الكنيسة.

هل تم تجميل شخصية حنا؟

رفض برنارد شلينك كاتب الرواية التلميح لأي صلة بين عالمه الروائي والوقائع التاريخية، لكن البروفيسور بيل نيفين من جامعة نوتنجهام ذهب إلى أن شخصية حنا في فيلم القاريء مأخوذة عن القصة الحقيقية لإيلزي كوخ وهي سجانة ألمانية في أحد معسكرات الموت النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية. التشابه بين الوقائع لا تخطئه عين. كلتاهما أتت من خلفيات اجتماعية فقيرة. كانت كوخ تنتقي السجينات وتجبرهن على اغتصاب بعضهن البعض، ويقال بأنها كانت تحب التاتو وتقوم بسلخ جلود المساجين المزدانة بالتاتو لتصنع منه غطاء لمصابيح الإضاءة الخاصة بها في المعسكر! كانت شميتز تنتقي السجانات ليقرأن لها! حنا لها حبيب هو مايكل يسجل بصوته الأوديسا وقصص تشيكوف على شرائط كاسيت يرسلها إليها في السجن. كان لكوخ ابن من علاقة غير شرعية يرسل إليها بالأشعار أثناء سجنها. كلتاهما ماتتا منتحرتين أثناء قضاء العقوبة بالسجن.

الحب يغسل عار الماضي:

يكتشف مايكل أثناء المحاكمة أن حنا أمية (لا تعرف القراءة أو الكتابة) لقد قامت بكل الاختيارات في حياتها لتداري حتى عن نفسها هذه الحقيقة بما فيها خيار العمل كحارسة في ذلك المعسكر. كانت حنا مختلفة وكانت تنتقي الفتيات الصغيرات في ذلك المعسكر وتطلب إليهن أن يقران عليها الأدب. أثناء فترة سجنها سيقوم مايكل بتسجيل الأوديسا بصوته على شرائط كاسيت ويرسلها إليها. ستبدأ حنا في تعلم القراءة والكتابة بعد أن تستعير من مكتبة السجن قصة تشيكوف “السيدة صاحبة الكلب.” تبدو ” السيدة صاحبة الكلب” لأول وهلة قصة عن تقليدية عن الخيانة؛ لكن تشيكوف أبى إلا أن يغير زاوية الرؤية ويضيء جانبي الذات جميلها وقبيحها. هي قصة عن الحب بما في الكلمة من ألم وشرف. العلاقة التي جمعت ديمتري (المتزوج من امرأة يكرهها) وآنا سيرجييفنا (المتزوجة من رجل خادم ويبدو أيضا كخادم) بدأت كخيانة وفي الخيانة: ما كان سريا كانا فيه صادقين مخلصين، وما كان علنيا كان مصطنعا وتافها. لكن تبديد الأسرار أو مجاراة السر للعلن وتطابقهما إن أمكن هو سبيلهما للتحرر. لابد من إخراج حبهما للنور والتخلص من الوجود السري المؤلم والمخادع، وهنا تتحول قصة الحب إلى قصة عن الأمل المختبيء وراء النهاية البعيدة البعيدة التي سيعملان جاهدين على جعلها سعيدة لأن أصعب شيء وأعقده قد بدأ للتو، وفي بداية ذلك الجهاد مع الحقيقة المختبئة  كانت نهاية القصة المفتوحة على الأمل.

حنا أيضا رأتها – قصة تشيكوف – هكذا قصة عن الحب والأمل، وطلبت إلى مايكل أن يقرأ لها المزيد من “الرومانسية.”

هل تعاطفنا مع حنا في هذا الفيلم، وبالتالي كان هذا مفتاحا للتصالح مع الماضي كما طمح صناع الفيلم؟ “القارئ” فيلم عن التاريخ المر وضرورة المصالحة معه، وحول الكيفية التي يتوافق بها جيل ما مع جرائم جيل آخر ويتصالح مع نكباته. ليس فيلما فاقع اللون عن الهولوكوست بقدر ما هو إعادة انتاج لمعاناة الأجيال التي نشأت في ظله وفيما بعده خجلة من هواياتها وذواتها. 

مقالات من نفس القسم