سيد محمود
الحديث عن الشعر ورطة لا أحبها، لأنه يذكِّرنى بالغياب، ويورِّطُنى فى طقس الخسارة.
أبدو وأنا أتحدث عن الشعر مثل طفل أدمن التغيُّب عن المدرسة، يخرج كل صباح فى الموعد المعتاد، لكنه حين يصل إلى باب المدرسة لا يدخل الفصل، لأنه يفضل الذهاب فى طريق آخر، وعندما يلتقى بزملاء الصف فى أمسيات عابرة، يستكمل معهم الحديث عن جمال الفصل وروعة الفناء، ويستعيد كافة الذكريات التى تؤكد صلته بهذا العالم، فيقرر اللحاق بهم فى اليوم التالى، ليملأ صدره بنَفَس الهواء، لكنه لا يهزم تردده ويعود إلى الحياة التى اعتادها، ويبقى قلبه معلقا بين نافذة الفصل ومتعة التسكع فى الشوارع المجاورة.
انقطعت عن كتابة الشعر منذ سنوات، لكنى لم أنقطع عن الشعر أبدا، أصل إليه من الشوارع المجاورة، فمهنتى لا تجعلنى أوقف البحث أو القراءة، بل تدفعنى إلى الشعر دفعا، أفتش عنه فى الأشياء التى أفعلها، أراه فى مشوار الذهاب إلى العمل وفى دردشاتى مع سائقى التاكسى ملوك المجاز وصنَّاع الشفرات السرية للمدينة.
يصادفنى الشعر عند جلوسى على مقهى مرصَّع بالظلال، فأنا أحب المقاهى التى ترتاح فى ظل الشجر، ولا أقبل بالمقهى المصاب بفقدان الظل، كما لا أحب المقاهى الحديثة المغلقة على غرباء لا يعرفون بعضهم البعض؛ فالشعر الذى أعرفه يُفضِّل جلسات الونس، ولا يرضى ببرودة الصمت التى تشيع بين عابرين.
انقطعت عن الشعر عدة سنوات وعدت إليه فلم يعد الانقطاع مصدر إزعاج كما كان فى السابق، فبعد توقف امتد لنحو 16 عاما كتبت ديوانا أحببته، لأن من أحبوه كانوا من الأجيال الأصغر منى، وتذكرت مع سعادتى به جملة قالها لى الراحل حلمى سالم وأنا أحدثه عن إعجاب جيلى بشعره وإنسانيته الغامرة. قال لى: “الاعتراف لا بد وأن يأتى من الأجيال الأصغر لأن براءتها تواجه الضغينة”.
نال الديوان الكثير من الاهتمام النقدى وكتب عنه من ينتمون إلى جيلى ومن ينتمون إلى أجيال أصغر، لكن ما كتبه عماد أبو صالح وهو الشاعر الخلاق عن نجاحى فى كتابة قصيدة بنبرة مصرية خالصة، يبقى فريدا واستثنائيا لأنه جاء بعد عشر سنوات من صدور الديوان، كما أوجد داخلى أسبابا للقلق ترافقها دوافع لمراوغة الكتابة تحت شرط جديد.
أجلس بين الشعراء مثلما كان يجلس يوسف بك وهبى أو سليمان باشا نجيب بين الباشوات الجدد الذين أنجبتهم ثورة يوليو، وحين يمنحنى بعضهم لقب الشاعر أتمنى لو قمت بالرد عليه، مؤكدا: “حضرتك أنا باشا سابق أو قل (شاعر سابق)”!
يؤلمنى اللقب جدا، كما يتألم المحاربون القدماء من أى حديث يدور عن الحرب فتجدهم يتحسسون أعضاءهم الناقصة، صرت مثلهم أشعر بأن داخل روحى يوجد ضلع ناقص وعضو مبتور.
أقرأ ما يقع تحت يدى من نصوص لشعراء جدد وأشعر أنها تعانى من نقص ما؛ لا أعرف مصدره، كما لا يوجد فيها ما يمكن التوقف أمامه، فلا تشغلنى بالقدر الذى يثير فضولى أو يُغيِّر قناعاتى كشاعر تقاعد قبل أن تبدأ الحرب.
أكثر ما شدنى ولفت انتباهى أن القصائد التى أعود لها فى الغالب كتبتها شاعرات من الأجيال التى ظهرت مع ثورة يناير 2011 أو بعدها بقليل، وهذا أمر يسعد القلب، لكن ما يحتاج إلى بحث حقيقى أمر يتعلق بغياب النص الاستثناء عن النصوص الجديدة، فهى مكتوبة بماء بارد أو حبر قديم.
أقرأ ما كتبت هنا، وأؤمن أكثر بكهولتى، وأنحاز لنبرة الأسى التى تشيع فى شهادتى لأنها تليق بمؤرخ استُدعِى ليكتب شهادة عن جيل ينتمى إليه، فيكشف أنهم يجالسونه فى مقاعد جمعية المحاربين القدماء للحديث عن (شرف المعركة).
فخور بجيلى فخر المنتصرين، وأؤمن تماما أنه أحدث انعطافة كبرى، ليس لأن كافة الدراسات النقدية تشير إلى ذلك، بل لأنه صنع مع الأسماء الأهم فى جيل الثمانينيات نسيجا شعريا متفردا ينطوى على خصوصية حقيقية، إضافة إلى ما أنجزته الأصوات الاستثنائية فى جيل السبعينيات، فلم تنكر ما أنجزته الشعريات السابقة، أو تتورط فى معارك مبتذلة عن صراعات بين أشكال شعرية أو بين فصحى وعامية.
ولا أغامر إذا قلت إن هذا الجيل انحاز مختارا لمن تم تهميشهم داخل جيل السبعينيات وأخص بالذكر محمد صالح الذى كان أقرب إلى مزاجنا فى كتاباته وفى حياته اليومية، التى شاركنا فيها باتساع، كما لم يعد مهما الآن إن كانت فاطمة قنديل أو إيمان مرسال أو مصطفى الجارحى أو إبراهيم داود أو إبراهيم عبد الفتاح أو عزمى عبد الوهاب أو ياسر الزيات، أو فتحى عبد السميع، أو محمود خير الله أو جرجس شكرى أو مؤمن سمير أو عماد فؤاد من شعراء الثمانينيات أو التسعينيات، المهم أنهم شعراء ركبنا معهم عربة قطار واحد ولم يسأل أحد عن بطاقة الرقم القومى.
تبقى مسألة الإنجاز بحد ذاتها إشكالية فلسفية، فهناك من توقف لأنه ارتبك مثلى بين دور اللاعب ودور الحكم، وهناك أيضا من سلك خيارات إبداعية أخرى وكتب أنواعا أخرى، لكن استمرار أحمد يمانى بنفس الجدية والدأب يسبب سعادة مضاعفة، كما أن قصائده الجديدة تروح لمناخ جديد يتسم باللماحية رغم نبرة الأسى التى تغلفه وتشيع فيه، وبالمثل فإن كل خطوة تنجزها إيمان مرسال تعمِّق من أسباب الفرح، لأن عصاميتها أخذتها إلى نجاح تستحقه ويليق بسعيها إليه.
وبالتالى لم يسقط أحد، لكن ما حدث فعلا أن الشعر نفسه تعثَّر، ولم يعد يستطيع أن يحمل أصحابه إلى منصات التتويج، على الأقل هنا فى بلاد تشرع قلوبها على النسيان.