هل سمعت في حديثه صوت العاشق الخائب، صوت الشاب الطموح الذي انكسر، فتحول لأب فاشل شبابًا وشيخوخة، هل أغرتك قوّة السياسي الذي يعرف كل الحيل ولا حيلة تنقذه، والرجل الطيب.. الخائن الصامت، الذي يغلب شيطانه الخاص ويتفوق على ملاكه الحارس، يدخل في الموضوع هكذا ببساطة وبوضوح، لكنه وضوح مخادع، وضوح الجريمة التي تقع أمام عينيك ولا تراها لأنك مشغول بشيء ما، وضوح الساحر في حبْك اللعبة أمام كل الجمهور، وشد انتباههم نحو شيء واحد فقط، ليعميهم عما يدور في الكواليس، ويكتشفوا أنهم جزء من العرض وليسوا متفرجين، وليسوا بهذه البراءة التي ظنوا أنفسهم بها، ولكنهم مغفلون، عميان، وربما مسحورين.. هذا هو ببساطة عز الدين شكري فشير.
كان الكثير من الناس يحكون عنه أمامي ولا أهتم، أو كما هي عادتي، لا أسعى للكتاب ولكني أتركه يسعى إليّ، وعندما وجدت “باب الخروج” أمامي فتحته، أملًا في الخروج من الواقع، في وقت كنت مللت فيه الكتب الطويلة بدون داع أو فائدة، ومن الصفحة الأولى التصق غلاف الكتاب في يدي، وشعرت بأن هناك شيء ما يربطني بهذا الكاتب، وبدلًا من أن أعبر “باب الخروج” وجدتني أدخل في عالم جديد.
مررت بنفس التجربة التي ذكرتها بالأعلى، تمنيت لو أن هذا الرجل الذي يكتب خطاب لابنه قبل موته بساعات هو أبي، كنت أقرأ الكتاب لأستمع إلى صوته، وأعيد قراءة فقرات لأني انتبهت للصوت وغفلت عن القراءة. ولكني عندما قرأت نصّ الخطاب، وهذا البرود والركود والتجاهل والسلبية الشديدة، تراجعت عما تمنيت. وبالتدريج عرفت حجم الكارثة التي حكاها الأب لابنه، ولم أعرف، هل أعذره أم أكرهه، هل ألعنه على مستقبلنا أم أقدّر محاولة إنقاذه؟ هل ما رواه لابنه حقيقي أم خدعة؟ وإلى أي مدى تكون الخدعة قريبة إلى حد مخيف من الواقع؟ هل كان يتنبأ، أم كان يحكي، أم يعترف؟ هل حصل على معلومات فعلًا؟ أم أنه خيال كاتب صادفت موهبته معلوماته السياسية؟ كانت هناك الكثير من الأسئلة التي تعصف بيّ، والنهاية الكئيبة الحزينة التي دمرتني لأيام، حتى أني صرت أطابق عناوين الصحف بسطور من الرواية، وأضحك.. وأرتجف، ويُشلّ تفكيري للحظات، وأحدق في الفراغ.
لم تكن المعلومات وحدها الجاذبة، ولكن طريقة الحكي أيضًا. يحكي فشير الحكايات بدون تزيين أو تجميل أو زخرفة، يكتب كما الواقع، بشكل مباشر وصريح ويدخل في صلب الموضوع، بمهارة جرّاح اعتادت يده على الأنصال الحادة. يقطع ويفتح ويبتر ويداوي، تتلوث يديه بالدم، يجفف عرقه ويكمل الحكاية، ليتركك سليمًا مُعافى أو جثة ميتة. في كل مرة يختار حدث سياسي هام، مرة ثورة وما بعدها حتى النهاية الكارثية النووية، ومرة ثورة وما قبلها من عفن ينهش جسد البلاد وفساد وتجاهل “الفرعون” والفراعين الصغيرة التي تقف خلفه كما تنظم أوراق “الدومينو” وعندما يسقط أولهم وأكبرهم، يسقطون جميعًا. ثم يذهب إلى “غرفة العناية المركزة“، ومن هناك يقص قصة “أبو عمر المصري” الملحمية، للمحام الذي تحوّل لإرهابي، والعناق المؤلم على جسر بروكلين، ويسافر مع الفراعين في أسفارهم، وغيرها الكثير من الحكايات.
يذكرني فشير بأمي، عندما كانت أمي تذبح الدجاجات أمامي، كنت أستغرب من قوتها، وسهولة وصعوبة ما تفعله في آن واحد، من ناحية هي تذبح الدجاجات لتكون على مائدة الغذاء، ومن جهة أخرى فهي تذبح.. تذبح كائن حيّ من رقبته!، ومن الجبروت أن تضع هذا المذبوح بعد نصف ساعة على طاولة الغذاء لنأكله. هل هذه دناءة أم حق؟ هل نحن متهمين أم ضحايا؟ هذا هو بالضبط ما يفعله فشير، فهو يقدم لك أصعب ما في الكون “إزهاق الروح” على طبق، ومعه ملعقة وشوكة من التساؤلات. اسأل نفسي كلما وضع أمامي طبق، من أين يأتي هذا الرجل بكل هذا السواد في الكتابة ورؤية تفاصيل العالم المعتم؟ كيف يقدر على الجمع بين الرقة والعذوبة والظلام؟! وما هي الوجبة التي سآكلها؟ أي حيوان مذبوح سألتهم جسده اللذيذ على مائدة الرواية؟
يقولون أن تلخيص فن الرواية في كلمتيّ “السهل الممتنع“، وأقول، أنه ربما التقت هاتين الكلمتين في رواية لعز الدين شكري، ربما عرّفهما على بعض، فهو يعطيني المعلومات كلها، بكفاءة وبإتقان، كأنما ساحر يعرف جيدًا من ومتى وأين وفي أي ثانية ستصنع اللعبة ويصفق الجمهور، ولا يترك لك مساحة للسؤال أو التشكك، فكل ما بقي على وجهك شيء من اثنين، الدهشة أو الصدمة مما يقدمه أمامك، لكن بعد انتهاء العرض، تفكر ألف مرّة، فيما سلبه هذا الساحر من عقلك.