د.مصطفى عطية جمعة
عائدا كنتُ من حي البارودية بعدما طالت السهرة مع أصدقائي، سلكت شارع المدارس، وظلام الليل قد أوغل، والساعة تخطت المنتصف، أنوار الشارع عجزت عن تبديد كتل السواد الممتدة، فبدت الأشجار معانقة أسوار المدارس وتوحشت ظلالها فظهرت ككائنات خرافية مهتزة ؛ مع تلاعب الريح بالمصابيح.
ثمة رجل خلف سور المدرسة الثانوية الصناعية، اختار موضعه بعناية ؛ بين شجرتين متعانقتين عند منحنى السور، اقتربتُ منه، ظله ضائع بين السور والشجر، لم يشعر بوقع أقدامي في السكون، ذراعه متحرّكة صعودا وهبوطا إلى فمه، وقد أحاطت أصابعه بزجاجة، يتجرّعها.
دقائق، والزجاجة ألقيت، فجاءت بالقرب من موضعي، زجاجة خضراء، ملصق عليها ” عرقي بلح “..، ترنّح في حركته، بدا وجهه في الضوء الباهت.. إنه عم عرفة، حارس مدرستي الابتدائية القديمة.
*******
ابنه ” زكي ” كان معي في الفصل عدة سنوات، لا يكلّف نفسه الذهاب أو الإياب إلى بيتهم، فهو ينام مع إخوته الأربعة في غرفة أبيه القريبة من باب المدرسة، فلا داعي للإقامة في بيتهم بأطراف حي الصوفي، قريبا من الغيطان، ماتت أمه فاستمرت إقامة الأولاد بالغرفة.
أسأله : لماذا لم يتزوج أبوك ؟ يضحك الولد، ويقسم أن أباه كان يخاف من أمه، والآن يخاف منا، نحن أولادها، يكرر قسمه بأنه لو فعلها سنهجّرها من البيت، ومن التي ترضى أن تتزوج خفيرًا ؛ معه أربعة أولاد عفاريت ؟
أولاده الأربعة،” زكي ” زميلي، و ” سيّد ” في المدرسة الصناعية، و”محمود ” و ” علي ” وهما في المدرسة الإعدادية. حين يستيقظون يتسللون من غرفة أبيهم متتابعين، يغسلون وجوههم في حنفية الحديقة، ثم يحملون كتبهم، كلٌ إلى مدرسته.
إفطارهم في الشارع دائما، ” سيّد ” ممسك برغيف مع طبق كشري عائمة شطته، مقتعدًا الأرض. ” محمود وعليّ ” يقاتلان وهما يتقدمان في زحام محل الفول والطعمية، أما زكي فهو يعتمد على ما يسرقه من كانتين ( مقصف ) المدرسة، أو يخطفه من الأولاد الصغار، مفضلا أن يحتفظ بقروش مصروفه لما بعد المدرسة.
لا يجتمع الأربعة إلا في عراك بينهما وبين آخرين أو مساندين لأصحاب لهم، فحذارِ أن يواجههم فرد أو شلّة، وتنال الضحية سبابا وضربا وأحيانا كسورا في الضلوع أو الأذرع، ولا يرد أبوهم على شاكٍ أو متظلم، والناس مقارنة بين أبيهم الطيب، وشيطنة عياله.
*******
لم يكن يتجرع الزجاجة، إنه يمتصّ خمرها بتلذذ، يحنو عليها بأصابعه التي تحيطها خشية أن يفقد بعض قطراتها، فعليه أن يلحس بلسانه فوهة الزجاجة.
العرقي أرخص أنواع الخمر، وغالبا ما يأتي من المعامل تحت السلم المنتشرة في أزقة حي ” الشيخة شفا “، يخمّرها شديدو الفقر، فتؤدي غرضها وقت عربدتهم، وتنفعهم بقروش تعينهم على التقاط فتات الحياة.
يغنّي ” عرفة ” موقنا أن الظلمة كاتمة للأصوات أو هكذا توقع، والمدارس غارقة في سكون، لا يقطعه إلا نقيق ضفادع في حدائقها أو نباح كلاب في أحواشها أو مواء قطط متصارعة على جيفة.
يغني بنفس صوته الأجش وهو يطارد التلاميذ القافزين من فوق السور، أو عندما يسب بعض المتأخرين في الفصول عقب نهاية الدراسة.
يغني بجمل متقطعة من أغاني الريف ؛ ” ياللي ع الترعة، حوّد ع المالح “.. ” ادلع يا عريس يا بو لاسة نايلون “، ” بس الولد ييجي “، ” يا منجد ع المرتبة “..، إنه في شوق للمرأة.
*******
أم ” سيّد ” زوجته، تفترش عتبة غرفته بالمدرسة، عينها على زوجها الجالس أمام الباب الكبير، يرد على تحية المعلمين والمعلمات، وحين تأتي الناظرة أوالوكيلة يسارع بالوقوف، رافعا يده إلى ما فوق جبهته ، وقد تحاوره المديرة باقتضاب ويرد عليها بأريحية متعمدة، وأحيانا ما تتجاهل وقفته، بل ولا ترد سلامه الذي يبتدئها به، متطلعة يمنة و يسرة، إلى الفناء وساحة العلم.
عقب الطابور الصباحي، يغلق الباب، متخذا طريقه إلى زوجته التي تضع أمامها طبق الفول، وتفوح منه رائحة زيت التموين ( زيت بذرة القطن)، وينخرطان في حديث باسم، ينتهي بانتهائهما من الشاي الغامق، فيعود ” عرفة ” إلى بابه، وتدخل هي إلى غرفتها.
حسبما فهمت من ابنه زكي، فإن أمه قوية على أبيه، فلا يخالفها في رأي، وتقف خلفه عندما يقبض راتبه من سكرتيرة المدرسة، لتدس جنيهاته القليلة في صدرها، وإذا اعترض لا تكلف نفسها عناء الرد، وإنما تشير إلى صبيانه الذين هم عزوته، وحاملو اسمه من بعده.
اعتادت الزوجة أن تذهب إلى بيته يومي الخميس والجمعة، أو تسافر إلى قريتهما النائية، تخبز في فرن أمها، وتحمل خبزا طريا يبقى أياما معهم.
أقنع ” عرفة ” الناظرة بزراعة قطعة الأرض المهجورة خلف الفصول، بعيدا عن حديقة المدرسة حتى لا يعترض مدرسو الزراعة، أخبرها أنه سيعتني بأشجار السور، وسينظف الأرض، وسرعان ما زرع عيدان الذرة والجرجير والمقدونس والكراث، وتكفلت ” أم سيد ” بتقطيعه وربطه في رزم، ثم تناولها من فوق السور لبائعة الخضرة التي تنتظرها على عربة كارو. وبذلك، استطاع عرفة أن يبني بيتا له، مع توسّعه في المساحة المنزرعة، وسكتت الناظرة والمدرسون عندما وجدوه يعطيهم في نهاية دوام الخميس أكياسا بها خضار منوّع،أما نحن فكنا نشاهده من نوافذ الفصول منحنيا على زرعه زاهي الخضرة، وقد تدورت الأشجار بتقليمه المستمر لها، وتعطرت أنوفنا برائحة الغيطان عندما تمتلئ بالماء الصافي.
ماتت زوجته، مثلما يموت الناس مبكرين.. مرضت فجأة، وهي في دوّار أهلها، وسرعان ما جاءه الخبر وقد فرغوا من تشييعها، فإكرام الميت دفنه. تركته مع عياله الأربعة، متطلعا إلى حياة مضت وأخرى قادمة وهو في منتصفها، بمعاشه الشهري البسيط، وبنيته الجسدية التي وهنت فجأة، وإن حافظت على الأنفاس في صدره.
*******
سألت ” زكي ” من يطبخ لهم بعد أمه، فحكى لي عن الأرز باللبن الذي يبرع أبوه في عمله، وعن البطاطس المقلية التي يعدها مع إخوته، وعن اللحم المسلوق مع فتة الأرز، وعن براعة أبيه في ذبح الدجاج وتنظيفه، لم أصــدقه
وأيضا لم أكذبه.
*******
أوشكت الزجاجة على النفاد، توقف عن الغناء، وقطّر في فمه ما تبقى منها، يسب الدنيا..، تسمّعت للكلمات المتناثرة، يتذكر ” بهيجة / أم سيد، ليلة عرسهما، رقصت هي وسط البنات، وتحزّم هو راقصا بين الرجال ممسكا العصا مرة، وبدونها مرات.
يبكي معددا عياله المتفرقين عنه، فمنهم من سافر، ومنهم من سُجِن، ومنهم من ركض خلف امرأة مزواجة، ورابعهم صاحب مزاج.
أيضا لأيضا
*******
ذاهبًا كنت إلى عملي وسط بلدتنا، آثرت أن أسلك شارع المدارس القديم، هربا من زحام شارع البحر، حانت مني التفاتة، هذا هو عرفة جالس أمام غرفته، وجهه الحنطي جامد الملامح، لا يرد سلاما ولا يلقيه.
*******
الزجاجة مستقرة على الأرض، بجوار مثيلات لها.
هو في ترنّحه غير عابئ، متجها للمدرسة الابتدائية، فعليه أن يكمل نوبة حراسته، مكافحا أو مستسلما لوحدته الليلية، سيتأمل مباني المدرسة المتساندة إلى بعضها، وسيتململ في نومه، غير مستمع لنباح أو مواء أو نقيق.