ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
يسعى الباحث والمترجم الأمريكي روبن كريسويل في سياق محاورته للأكاديمي والكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو إلى الاقتراب من بعض الأسئلة والإشكاليات التي تهم الثقافة العربية من جهة، وأنماط اتصالها بالآخر من خلال الترجمة من جهة أخرى. يعمل كريسويل أستاذا للأدب المقارن في جامعة يال الأمريكية، علاوة على إشرافه على مجلة «باريس» الأدبية التي تصدر من نيويورك. وقد اضطلع بترجمة بعض عيون الأدب الحديث إلى لغة شكسبير، ونمثل لذلك بصنع الله إبراهيم وأدونيس وعبد الفتاح كيليطو. يقترب هذا الحوار إذن من تفاصيل من سيرة الكاتب والباحث المغربي الذي سبق لكريسويل أن ترجم اثنين منً كتبه وهما «لسان آدم» و”خصام الصور” إلى الإنكليزية. وتشكل تجرية عبد الفتاح كيليطو ــ مواليد الرباط عام 1945 ــ ابتداء بأطروحته الرائدة عن مقامات الحريري والهمذاني، وانتهاء بعمله المثير عن السرد العربي القديم، استثناء دالا لا يقاس عليه في السياق الثقافي الراهن.
■ كنت في الحادية عشرة من عمرك حين حصل المغرب عام 1956 على استقلاله عن فرنسا. ما الذي تتذكره عن تلك المرحلة؟
□ قبيل شهور قليلة من استقلال المغرب ومباشرة بعد الإعلان عن عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه في مدغشقر، عمت شوارع الرباط فرحة عارمة. خرج الجميع شيبا وشبابا وهم ينشدون الأغاني الحماسية الوطنية. وفِي أحد الأيام انضم شخص ضرير إلى الجماعة التي كنت متواجدا فيها. كان في العشرين من عمره شديد النحول. كنت أراه باستمرار يأخذ في الحديث تتقدمه عصاه التي كان يوقع بها بشكل خافت على الأرض. وكان يسلك في كل يوم الطريق نفسها قبل عودته إلى منزله. لم يسبق لي أن رأيته مطلقا مصحوبا بشخص ما، أو آخذا في الحديث، لكنه في ذلك اليوم التحق بجماعتنا وشرع في مصاحبتها بالغناء بصوت رقيق، بل إنه عمد إلى وضع عصاه تحت إبطه كي يتاح له التصفيق. كانت صور السلطان تباع في كل مكان، وقد عمدنا في المدرسة إلى جمع مبلغ من المال تمكننا بفضله من اقتناء صورة ووضعها في إطار. قمنا بتعليقها ذات صباح فوق السبورة ونحن نترقب رد فعل الاستاذ الفرنسي السيد أندي. اعترته حين دخوله الفصل دهشة عابرة، لكنه لم يلبث أن جاد علينا بابتسامة كبيرة. ما كان يميز تلك المرحلة أنه لم يكن ثمة أحد يفكر في نفسه. لم تكن النزعة الفردانية موجودة. كنت قد تحولت وأبناء جيلي إلى جزء لا يتجزأ من جماعة.
■ وماذا عن الأدب الروسي في تلك الفترة في منطقة الشرق الأوسط، والذي كان في طور اكتساح؟
□ اتذكر انني قرأت الدكتور زيفاغو في ترجمتها العربية، إبان عقد الستينات وقد أتيح لي أيضا أن أطالع أعمال مكسيم غوركي في المكتبات، غير أنني لم أجد أي انجذاب حيالها، بسبب الرسوم والصور التي كانت تزين أغلفتها، لكنني قرأت فقط لعلة ما الأعمال المنشورة للكتاب المصريين واللبنانيين. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان ثمة وفرة هائلة منها. كان لديّ انجذاب شديد لطه حسين. وأنا مدين لهذا الرجل في الإحاطة علما بأن أي شيء وكل موضوع قابل للمطارحة. لم يكن طه حسين يهادن أحدا. كانت الأساطير والأصنام قبله محتفظة بتماسكها وصلابتها. وكان يكشف تهافتها بمعنى من المعاني. لم يبق ثمة بعد طه حسين أي شيء قابل للإعجاب ولَم يعد ثمة وجود لأبطال. كان يساورني انطباع وأنا أقرأ طه حسين بأنني اكتسب ذكاء وألمعية. أحببت أيضا توفيق الحكيم وإن كان ذلك لأسباب مختلفة. مارست روايته «عصفور من الشرق» تأثيرا كبيرا عليّ. كنت في مسيس الحاجة إلى أن أسافر مثل صنيعه إلى باريس، وأن أتردد على المسارح وأزور المتاحف، وأقع في حب امرأة فرنسية. وكنت أعتقد أنه بهذا الصنيع وحده سيكون في مقدوري أن أصبح كاتبا.
■ تابعت دراستك في فرنسا؟
□ كلا، كنت دائماً طالبا في الجامعة المغربية. والمرة الوحيدة التي وطأت فيها قدماي أرض الجامعة الفرنسية، كانت بمناسبة الدفاع عن أطروحتي عن مقامات الحريري والهمذاني في رحاب جامعة السوربون الباريسية، في نهاية عقد الستينيات. كنت حينها أستاذا في جامعة محمد الخامس في الرباط منشغلا بتدريس شارل بودلير وإميل زولا وكان أحد زملائي حينها شخصا اسمه رولان بارت.
■ ما الذي تتذكره عن رولان بارت؟
□ لم أتعرف عليه جيدا وإن كان في الحقيقة شخصا أليفا. من جهة أخرى كان تفوقه الثقافي يشعرني بالحياء والخجل حياله. وكان لزاما عليّ والحالة هذه أن أقرأ كل ما كتبه. كان يلقي محاضرات عن مارسيل بروست ورواية «الجزيرة العجيبة» لجول فيرن. وكان قد نجح في لفت انتباه طلبته إلى العناوين العريضة للصحف من قبيل نهاية الإضراب على افتراض نجاحه في الإشارة إلى ذلك. كان الطلاب الذين يرغبون في إثارته واستفزازه يحبون طرح هذا السؤال: ما الجدوى من دراسة البنيوية في العالم الثالث؟ ولا علم لي الآن بالجواب الذي قدمه، أو إن كان هؤلاء الطلاب يتذكرون ذلك. غير أن كل شيء تغير مع بارت. اكتشفت طريقتين جديدتين في القراءة والكتابة. كان هناك ما يهم الأدب في الحقيقة ما قبل وما بعد رولان بارت.
■ هناك أكثر من أثر للبنيوية في أعمالك الأولى عن الأدب العربي القديم؟
□ الأجواء الثقافية في تلك الفترة، أقصد الستينيات. كانت الجامعة المغربية نهبا لصراع سياسي وثقافي وأدبي عنيف. كان الجميع يفصح عن رغبته في الحضور في زمن الحداثة المتسم بالقطيعة مع القديم. كان الجميع متفقا على ما مؤداه أنه لن يكون لك ثمة مسعف أو منقذ في حال جهلك باللسانيات. ولن يلبث اسمان أن تحولا إلى أسطورة وهما، فرديناند دو سوسير ونعوم تشوميسكي. وكان ثمة نزوع في تلك الفترة نحو تمجيد الأسماء، وَيَا حسرة على الدارسين الذين لا يستشهدون بالأسماء بشكل مناسب وصحيح. ولن أنسى ما حييت الحرج والحيرة اللذين استشعرهما أكاديمي فرنسي متمرس، تمكن من التصرف بلباقة ونضج في نهاية محاضرة، حيال سؤال صادم طرحه عليه الطلبة المغاربة: كيف تدعي الحديث عن الأدب بدون أن تستشهد بجاك دريدا ولوي التوسير؟ في ظل هذه الظروف كان سؤال جدوى البنيوية في العالم الثالث يستلزم أسئلة اخرى من قبيل: هل نحن في حاجة أوفر إلى المقاربة الماركسية للأدب؟ ما هو الاختيار الأفضل بالنسبة لنا هنا والآن؟ وفيما يهمني لم أكن على بينة من الطريق التي يتعين عليّ اختيارها. بيد أنني كنت على يقين من مسالة مهمة وتتمثل في إنني شرعت في مسيرة تعلمي وإنه يتوجب عليّ أن أخوض بنجاح رهان القراءة.
■ أغلب نصوصك التخييلية مكتوبة بالفرنسية، كما أن أغلب دراساتك النقدية مكتوبة بالعربية. ما العلة وراء ذلك؟
□ ثمة حضور لعامل الحظ في اختيار شخص ما الكتابة بلغة عِوَض أخرى. وبدون الخوض عميقا في التفاصيل أرغب في أن أقول بأن نصوصي التخييلية مرهونة أو مرتبطة بمواجهة أو إيحاء. وعلى سبيل التمثيل فإن مجموعتي الموسومة «بحثا عن» تجد أصولها في حوار جمعني بناشر فرنسي في مدينة طنجة. وأيا كان فإن اللغة التي كتبت داخلها أقصد المقالة، تبقى الجنس الأكثر تمثيلا لما قمت بفعله. ووفق هذا المنحى أتقدم بوصفي ناقدا أدبيا. بيد أن العديد من أبحاثي ودراساتي تتقدم بوصفها نصوصا قصصية، كما أن العديد من نصوصي التخييلية تتخذ غالبا الكتابة والأدب موضوعا لها. وأقر بأن حضوري في منطقة الما بين تروق لي.
■ كتبت عن بورخيس مرات عديدة، وكان لإحساسه بهامشيته الخاصة صدى في أعمالك. كيف تحدد علاقتك به؟
□ لقد خصصته باهتمام كبير. وقد قرأته في فترة متأخرة في الوقت نفسه الذي كنت منهمكا فيه في كتابة «الكتابة والتناسخ» الصادر عام 1985. سوف يصبح من الميسور منذ ذلك التاريخ للقارئ أن يرصد موضوعاته الأثيرة في أعمالي، وأقصد تحديدا المكتبة والكتاب، الذي لا ينتهي والمرأة والضعف. وقد أسعفتني أبحاثه في أن أتمثل الأدب العربي بمنظور آخر. دعوني أذكر كاتبين قديمين يحتفظان بأواصر قربى معه. أولا الجاحظ أكبر رموز النثر العربي في القرن التاسع الميلادي، وقد كتب عنه بورخيس في بحثه الموسوم البحث عن ابن رشد. أما الثاني فهو أبو العلاء المعري الشاعر الضرير الكبير، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. ولخورخي لويس بورخيس قواسم مشتركة عدة معه. ومن بينها الارتباط الشديد بالأم ونفورهما من التوالد والنسل.
■ يتسم الأدب العربي القديم بكونه متنا أدبيا ذَا ثراء، على الرغم من كونه مجهولاً بشكل شبه كلي في الولايات المتحدة الأمريكية. ما الذي يمكن أن يوفره ويتيحه لمن لم يقرأه من قبل؟ ما الذي يمكن أن تقنع به طلبتك هنا ومنهم بعض المتشككين؟
□ أقاوم بداخلي في ما يهم المتشككين رغبة في أن أقول لهم إنهم يجهلون فداحة ما يخسرونه، بعدم قراءة هذا الأدب، وإذا كان البعض يشيح بوجهه عن قراءة هذا الأدب فإنني افترض أن لهم اسبابا تحول بينهم وبين ذلك، وفِي مقدمتها الغرابة الشديدة التي يتسم بها. للأدب القديم شيفراته الخاصة، علاوة على سلسلة خاصة من المعايير. ويتحتم على المرء أن يبذل جهدا كبيرا كي يتمكن من قراءته.
ما الذي يمكنه أن يقدمه لنا؟ بصيغة مفرطة في التعميم فإن قراءة مؤلفين من قبيل ابن المقفع والجاحظ والتوحيدي وابن طفيل، تمدنا بنوع من الحكمة وتكسبنا انفتاحا في الرؤية، وتلقننا درسا في التسامح حيال الأفكار المختلفة. ولسوء الحظ فإن هؤلاء المؤلفين لم يدرسوا ولم تتم ترجمتهم بطريقة جيدة. ويمكن اختزال المعضلة في سؤال الترجمة. والأمر صحيح أيضا في ما يهم الشعر العربي، الذي يتم اعتباره بوصفه عصيا على المقروئية خارج اللغة العربية. وقلة هم من يجرؤون على التعبير عن ذلك بشكل صريح. وباستثناء المتخصصين فليس في أوروبا أو أمريكا من في مقدوره أن يسمي شاعرا عربيا واحدا. هناك بعض الترجمات وإن لم تحظ إلا في النادر الذي لا يقاس عليه بالنجاح. ولا مجال للمقارنة مع النجاح الساحق الذي شهدته ترجمة أدوارد فيتزجرالد لرباعيات الخيام عن اللغة الفارسية. غير أنه تهمني الإشارة إلى الترجمة الفرنسية الجميلة والفاتنة التي أنجزها أندري ميكيل، التي أتاحت للقراء فرصة قراءة مجنون ليلى وأبي العتاهية وأبي فراس الحمداني وابن زيدون. وما تفتأ مقامات الحريري والهمذاني في انتظار ترجمة إنكليزية يتيحها فيتزجرالد، أو من هو أفضل منه، أو ترجمة فرنسية ينجزها أنطوان غالاند، الذي سبق له أن نقل «ألف ليلة وليلة» في مستهل القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك التاريخ لم يفقد ألقه وجاذبيته ولَم يتوقف تأثيره حتى وسط من لم يسبق لهم أن قرأوه. كان ذلك في حد ذاته معجزة.
………………….
*نقلاً عن “القدس العربي”