عبادة الأسلاف في “أساطير الأولين”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 11
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عندما نذكر هاني عبد المريد نذكر كيرياليسيون (الدار، القاهرة2008)، تلك الرواية التي فازت عام 2009 بجائزة ساويرس للرواية، المؤكد أن أي كاتب يحتاج لأن يتوقف مع نفسه قليلًا عقب فوز أحد أعماله بجائزة لها وزنها ، وقد توقف هاني عبد المريد مع نفسه لأكثر من ثلاثة أعوام ليخرج علينا بـمجموعة قصصية بعنوان “أساطير الأولين".

وبرغم الاختلاف النوعي بين العملين (رواية /قصص) بل وبرغم  الفاصل الزمني الممتد من 2008 وحتى 2012 بكل ما شهدته تلك السنوات الأربع من عواصف سياسية وبراكين ثورية خامدة ومشتعلة فإن هاني عبد المريد من وجهة نظري مستمر في عزف نشيد العزلة سرديًا. ففي ختام “كيرياليسون” نردد مع الراوي تلك الكلمة “كيرياليسيون:اللهم ارحم”، متمنين معه امتلاك القدرة الإلهية المتمثلة في قدرته عز وجل على أن يقول للشئ كن فيكون، عبر الانتقال والمنح من الله/الرب لأحبابه وأوليائه. وهذا التمني ليس بلا مرجعية تاريخية بل يتم تأسيس مشروعيته عبر إعادة حكي التاريخ ليدعم أسطورة انتقال أو منح القدرة الآلهية للبشر والمثال هنا سرد الحوار بين المعز لدين الله الفاطمي ووزيره اليهودي يعقوب بن كلس عن تحديه للمسيحيين لإثبات صدق إيمانهم بنقل جبل المقطم من وسط المدينة إلى أطرافها.

“لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا فينتقل، ولا يكون ش غير ممكن لديكم” (كيرياليسيون، ص116)

إن تمنى الراوي في كيرياليسون لامتلاك القدرة الإلهية على قول”كن فيكون” ليس بهدف نقل جبل ولا لامتلاك ثروات الدنيا وإنما ليهدم الأسوار المحيطة به!!

” سأرددها[كيرياليسيون] أربعمائة ألف مرة لو ينجني الله من عزلتي هذه، فتندك الأسوار جميعها، وأخرج سالمًا.. سأرددها طول العمر لو أرى النور … كيرياليسيون” (كيرياليسيون ص117].

إن الجديد عند هاني عبد المريد في مجموعته القصصية “أساطير الأولين” (ميريت 2012) أنه يعنى ببناء العزلة سرديًا باستخدام تقنيات التواصل/الحكي، وأنه يعمّق العزلة بنقلها من أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى جوهرها الثقافي والوجودي.

فبدءًا من عنوان المجموعة القصصية  نلحظ الخلفية التاريخية والدينية لهذا التعبير “أساطير الأولين” الذي يأتي في سياق المناقضة للقرآن الكريم، على أساس انقسام الناس إلى مؤمنين بالقرآن ومؤمنين بأساطير الأولين، أو كافرين بالقرآن وكافرين بأساطير الأولين. لكن الملفت أن تشبيه الكافرين بالقرآن بأنه أساطير الأولين لا يشير إلى إنكارهم لإعجازه وإنما لمشابهته في إعجازه لإعجاز أساطير الأولين والمتمثل في اكتسابهما قداسة ما، لقدرتهما على عبورهما الأجيال عبر الحكي وتشكيلهما لعقول ووجدان اللاحقين وكأن بالحكي وحده يمكن للأسلاف أن يستعبدوا الأخلاف، فتقوم لعبادة الأسلاف قائمة! وهنا يصبح على الفرد أن يتخلى عن ذاته الفردانية وينعزل عنها بمجرد دخوله محراب عبادة الأسلاف!

وإذا ما تركنا العنوان وقرأنا أولى حكاياته /قصصه والتي يسميها بأصل الحكايات نجد هاني عبد المريد وقد خطط لإيهامنا بمحاكاته لطريقة ألف ليلة وليلة في الحكي؛وذلك  بالبدء بالحكاية الإطار التي من المفترض أن تتولد عنها الحكايات فيما نسميه بالتوالد السردي. لكن هذه المحاكاة من وجهة نظري هي محاكاة لتقنيات على مستوى التشكيل بهدف نقض الرؤية التي تقف خلفها، فهي محاكاة شكلاً ومناقضة جوهرًا.ومن ثم فهي إن جاز التعبير معارضة سردية. فالحكي في ألف ليلة وليلة حكي بهدف التواصل بين أطراف الحكي والعلاقة بين الحكايات هي علاقة توالد للحكايات من نسيج بعضها البعض، أما في “أساطير الأولين” فالحكاية الأصل /الإطار هي نتيجة لواقع العزلة بين سكان العمارة الواحدة والتي تربطهم علاقة تجاور لا تفاعل، ومن ثم فهم مضطرون للتواصل عقب انقطاع الانترنت  المشتركين فيه باعتباره الخط الواصل الفاصل بينهم. وبالتالي فإن العلاقة بين الحكايات في المجموعة القصصية هي ذاتها العلاقة بين السكان المضطرين للتواصل بقدر، وهي علاقة التجاور،  ومن ثم فالحكي هنا ليس فعل تواصل وإنما فعلاً دالاً على الانفصال أكثر منه على الاتصال وبالتالي فهو الحكي “كما يليق بالغرباء” (أساطير الأولين،ص9).

ويمكننا ان نرى في تعبير “كما يليق بـ …” مفتاحًا لقراءة “أساطير الأولين” التى بنيت على طريقة “الحكي كما يليق بالغرباء”، حيث نجد في العديد من الحكايات المتجاورة ذلك الوعي المشترك بأنهم كائنات تسعى للتخلى عن ذواتها الفردانية بسعيها الحثيث للذوبان في الأنماط/ القوالب المصبوبة لهم من قِبل الأسلاف أو من قِبل الآخرين المعاصرين لهم فتتحق لهم العزلة /الحياة كما تليق بالغرباء. فالولد لا يحكي حكايته الذاتية وإنما يحكي حكاية القالب المصبوب له فيسير كم يليق بضابط في “حكاية الولد الذي يسير كما يليق بضابط”، والبنت لا ترى جسدها في ذاته، وإنما لا يمكنها أن تراها  إلا باعتباره جسدًا أقرب لجسد ليلي علوى باعتباره الجسد كما يليق بـ”أنثى”، وذلك في “حكاية البنت التي تطل من خلف شباكها المعتم”. والشاعرة اليونانية القديمة سافو التي تُحرق كتبها لا يمكن أن تُرى في ذاتها وإنما يتم تمثيلها عند البعض  فتُرى الشخص “كما يليق بكافرة” أو تُرى الشخص  “كما يليق بقديسة” وذلك في “حكاية مع سافو”. والشخص لا يُرى من العظماء في ذاته وإنما بارتدائه القالب المُعد له في  مخيلة الراوي وهو روب العظماء، فمن يرتدى “الروب الروسي” هو من العظماء مع استحضار لصور عظماء الأدب طه حسين وعباس العقاد، إلخ.

إن انسلاخ الذات من حكايتها وذوبانها في قوالب مصنوعة من حكي الأسلاف والآخرين آخر تجليات العزلة التي يقدمها هاني عبد المريد في “أساطير الأولين”، ولا يمكننا أن ندرك مخاطرها وآلامها إلا من خلال تأمل إحدى حكاياته وهي” حكاية المرأة التى تكره السمك”، وهي حكاية امرأة عجوز تجلس على الرصيف  حكى البعض أنها تحب السمك فتواترت الحكاية حتى أصبح كل من يريد مساعدتها أن يلقى إليها بقطع السمك حتى أصبحت امرآة عفنة، وعندما يغامر الراوى بالاقتراب منها ويقوم بتفكيك البناء الهندسي لجسدها  /ما بناه الآخرون في حكاياتهم، يكتشف أن للمرأة العجوز حكاية في ذاتها ولذاتها وعندما تحكيها بذاتها نكتشف أنها تكره السمك، وأن الآخرين هو من صنعوها امرأةً عجوز عفنة، ومن ثم تعود المرأة لجمالها الذاتي بمجرد أن يعيد الراوي تأليف مكونات جسدها الهندسية / حكايتها.

يبقى أن نتأمل ونختار ما بين السير في طريق العزلة أو إعادة بناء حكاياتنا بطريقة تليق بذواتنا في حال تواصل مع الآخرين لا بالطريقة التي تليق بالغرباء. فما نتوهم أنه يليق بنا قد يكون من صنع غيرنا أسلافًا كانوا أو معاصرين لنا لنكون امتدادًا لهم،  وما نقاومه ونرفضه بقوة لأنه لا  يليق بنا قد يكون مصدر سعادتنا الهاربة منا!

…………………….

جريدة مسرحنا بتاريخ 5 يوليو 2013

سي

 

 

مقالات من نفس القسم