في عينيها الخضراوين الباهتتين لمعت نظرة حزينة ثم اختفت فجأة كما بدأت.
“مش عايزة أسافر.”
“أنتي عارفة في كام إسكندرية في العالم؟”
أمسك ماجد بكوب الشاي الساخن يرتشفه على مهل. عدل من وضع إطار عويناته. واجهه وجهها الحزين. لشد ما يعشقه، لو لم يكونا على شفا منحدر شائك في علاقتهما لأخرج الطائر الأزرق من بين ضلوعه وألبسه إياها. ربما لرآها ترقص، أو تنتفض، ولربما حلقت عالياً بما تحمل على كتفيها.
شردت ببصرها بعيداً، تدلت السيجارة من فمها في غير اكتراث. انكشف التي شيرت الضيق الذي ترتديه عن ثدييها المكورين. مد أصابعه راغباً في لمسهما ثم أحجم.
“أنتي دلوقتي قاعدة مع أختك صح؟”
“أنا مش هسافر!”
“أنا مش بسأل على السفر دلوقت. تحبي تشربي حاجة؟”
كانت أول معرفته بالطائر الأرزق عندما تقابلا لأول مرة. كان يحاول أن ينسى مأساة انتحار أخيه خالد، والذي من بعد رحيله العنيف عن الدنيا فقدت كل الموجودات معناها. أصبحت الإسكندرية بشوارعها وحواريها ومنافذها وقهاويها أضيق من بئر السلم أسفل منزل جدته القديم بمحرم بك. هناك كان يختلس لحظات قصيرة شبقة مع زهوة، خادمة جدته الريفية التي تكبره بعامين كاملين. بعد موت خالد لم يعد لزهوة وجود، كان يراها كلما ذهب لزيارة جدته لكن بصره كان يعبرها ويتعداها إلى الشارع المترب والشجر المبتور خارج أسوار المنزل.
“أنت عارف أنا أصلا ردرامبد أزرق في حياة تانية.”
يومها رفع حاجبيه في استفسار بينما صنعت هي بيديها جناحين وحركتهما للأمام وللوراء.
“آه، عصفورة.”
عصفور طل من الشباك وقال لي يا نونو خبيني عندك خبيني
لم يدر لم بكى عندما غنت. ربما هي جلستهما على الأسفلت بينما رائحة هواء الإسكندرية العتيق تخنقهما وتعبرهما لتخنق بقية المارين. يومها كره البحر بجنونه وتعاليه على الناس، ويومها كره كل شيء سواها، هي وطائرها الأزرق. عزمت عليه بسيجارة غريبة الشكل فقبل رغم أنه لم يعتد قبول الشراب ولا المزاج من الغرباء. لا يعرف لماذا استثناها هي؟ ربما لأنها بدت جميلة، في زيها الأزرق الذي لفها من رقبتها لأصابع قدميها.
“أنا عن نفسي هسافر،” رجع بظهره للوراء وشبك يديه صانعا وسادة خلف رأسه.
“اليونان برضه؟” سألته وهي تخفض بصرها للأرض.
اعتدل في جلسته وراقب جسدها المتوتر، السيجارة التي قاربت على الاحتراق، وشعرها الذي تهدل على جبينها، صانعاً غطاء لملامح وجهها الملتبسة، فلا هي بالبريئة ولا هي بالمثيرة.
“في إسكندرية في اليونان على فكرة، أحلى من دي ألف مرة.”
ذات يوم وعايدة تتأهب للرحيل، رأى ظلها على الأرض لأول مرة. جناحين كبيرين، كلما حاولا أن ينبسطا، انقلبا خاسئين. شعر بثقل روحها الذي يكبل جناحيها ويشدهما إليه في صلف. شعر بتثاقل أنفاسها وعرف سر الصفير المتقطع الذي يصدر من صدرها كلما توقفت عن الكلام.
“وهي بتاعتنا وحشة في إيه؟”
بتاعتنا؟ كانت في يوم من الأيام إسكندرية “بتاعته” هو وخالد. كانا يركبان السيارة في الفجر سوياً، ويأخذان معهما مؤنس والزغبي، يتطوح خالد بالسيارة يميناً ويساراً وهو يطلق عواء ذئب البحر من حلقه. أخبره يوماً بأنه تمنى لو عبر البحر إلى بلد أخرى وراء صفحة السماء. “سدرة المنتهى”، في الصف الثاني الابتدائي، حكى مدرس التربية الدينية للصف عن سدرة المنتهى، وفي خيال ماجد، كانت نقطة التقاء البحر بالسماء هي تلك السدرة. رغم تحذير زملاءه له، أخبر ماجد صديقه المقرب جرجس عن سدرة المنتهى، وأكد له جرجس وجودها في حقل مجهول ببلدة جده “طهطا”.
“عارف ليه سموها سدرة؟ عندنا في البلد بيقولوا عليها “سجرة” مش شجرة، فسدرة هي سجرة، ربنا بيحب الصعايدة وبيقول كلامه زيهم”.
الآن ماجد في نيويورك، يكدح عرقه لتصرف زوجته أمواله على ملابسها وزينتها. كلمه بعد انتحار خالد وبكى، أما ماجد فلم يبكِ. لم يبكِ إلا أمام عايدة.
“تعالي نلعب.”
أهدته عايدة في عيد ميلاده أطلس ضخم، إذا فرده على أرضية الغرفة غطاها فأصبحت الأرض قطعة من كل بلدان العالم.
كانت الأطلس ملك لعايدة، أهداه لها والدها في عيد ميلادها العاشر، بعد وفاته كرهت كل شيء متعلق به. تخلصت من كل العفش القديم، ملابسه وأحذيته، طفاية سجائره، عويناته، كل شرائط الكاسيت التي كان يسجل عليها الأغاني ويوفقها طبقاً لمزاجه. كل هذا تخلصت منه عايدة بلا هوادة. إلا الأطلس. ظلت لا تجد في نفسها القوة على التخلص منه. إلا عندما تعرفت على ماجد، هكذا قالت له.
“عارف بابا دلوقتي إيه؟”
“مش فاهم.”
“في حياته الثانية بابا بقى حوت أزرق، التاروت قال كدة، أنا قريتهوله قبل ما يموت. كان وشه حزين أوي، بس روحه كانت زي ما هي.”
تغمض عينيها أو يغمض عينيه. يقفا فوق الأطلس. تلمس أقدامهما حروفه البارزة، جزره وشواطئه، صحاريه ووديانه، جباله وجليده، يدوران حول محوريهما، وقد بسطا أيديهما إلى الأمام، يصيح الجالس في الراقص “قف”. يتوقف الدرويش عن الرقص المحوري، يفتح عينيه، يرى ما تشير إليه أصابعه. في معظم الأوقات كانت عايدة تشير إلى روسيا أو تركيا، أما هو، فكان دوماً يشير مستخدماً بوصلة قلبه. ترتيب البلدان التي استقر عليها كانت كالآتي، أسبانيا، النمسا، اليونان، إيطاليا، اليونان، اليونان، اليونان.
“عايز تسمع إيه؟”
“حاجة تنفع مع القرش المحترم ده.”
موسيقى بينك فلويد اختلطت في ذهنه بموسيقى أناثيما، فرقة الروك البائسة التي كان خالد يستمع إليها في أواخر أيامه. هل حقاً كانت الأيام الأخيرة؟ أم أن ماحدث كان حلماً سيفيق منه في الصباح؟
“ماتمشيش.”
نظر لعايدة. النظرة الحزينة في عينيها تقتله. آه يا عايدة. كيف ستطلع عليه الشمس وتغرب دون أن يشم رائحة شعرها، دون أن تلمس شفتاه نفس السيجارة التي كانت تدخنها قبله بثانية؟ كيف سينام ويقوم ويرتدي ملابسه ويخرج لمواجهة العالم دون أن يعلم أنه في نهاية اليوم سيراها، ستوسد رأسه، ستمنحه الأمان، حتى لو لم تجبه على السؤال الذي يؤرقه منذ رحيل خالد؛
لماذا الآن يا خالد؟
“مش قادر أقعد هنا.”
مالذي سيقوله لها؟ كيف سيصف لها الشوارع التي تأخذ في الضيق عليه كلما سار بين جوانبها حتى تكاد تضغط على قفصه الصدري مهددة بالانفجار؟ كيف يصف لها أن كل شاب يمر إلى جانبه يشبه خالد؟ كيف يصف لها حيرته ووحشته وجنونه، ذلك الألم الحار الحريف، الذي لا يبرد مهما سكب عليه دلاء الماء البارد. كيف يصف لها أنه صدم عندما لم يجد أي رسالة من أخيه تعينه على ما بعد الرحيل؟ كيف يصف لها الانتحار العنيف، الجلد الممزق، الدم المتناثر في كل المكان، الأرض التي مهما غسلها ستظل ملطخة ببقع الدماء والقيح والقئ؟ ماذا تعرفينه يا عايدة عن الموت الهجمي؟ أنت لم تشاهدي أبوكي بقايا جسد، شظايا ممزقة هنا وهناك. تخافين لو أمسكتي بإحداها أن تتحلل فلا تجدين ما تدفنين فيما بعد. أنت تعرفين الموت يا عايدة، لكنك تعرفين الموت الشيك الأنيق، لا الموت الشرس الكاشف عن أنيابه ومخالبه.
“كل ده عشان…خالد؟”
خالد. لو لم يكن خالد لكان غيره، كلما نظر في وجوه أي من أصدقاءه، رأى أمامه كتيبة إعدام. يقفون صفاً في انتظار حكم القاضي بتحويل كل منهم إلى فضيلة المفتي. حتى أنت يا عايدة، أراك أحياناً فاقدة للحياة. تبدين جسد مصفى من الروح، مشتتة أشلاءه، منكسرة أنت يا عايدة، وتسألينني عن الرحيل.
ناما عاريين على الأطلس. في الصيف، كانا يفتحان الشرفة على مصراعيها. في بيت جدته الذي لم يعد يزوره أحد سواه، كانت الشوارع القديمة والحارات التي تفضي لبعضها البعض مثل لابيرنت labyrinth إمنمحات الثالث، قصر التيه المصري القديم والذي حلم يوم اكتشاف جثة خالد الدامية أنه يسير فيه ولا يخرج أبداً. يتوه في التيه الأعظم، متمسكاً بآخر صورة التقطها لخالد قبل رحيله.
“إسكندرية مابقتش بتاعتنا يا عايدة.”
“استنى، ما تمشيش.”
نظر لها في ضوء القمر. وجهها يمتلئ بأخاديد ومسامات شهية، مفتوحة للحب. فيرمونات تطلقها تلك المسامات فيقشعر بدنه، ترتعش يديه كما لم يحدث من قبل. رأى ظلها على الحائط ورائهما، طائر عظيم بجناحين مهيبين ومخالب. نظر لقدميها فوجد أظفارها طويلة، معقوفة ومطلية باللون الأسود. في التصاق جسديهما اكتشف أن الجسد يمكن مفارقته، لكن الروح، كيف يمكنه الابتعاد عن عايدة وروحه مشدودة إليها بحبل سُري؟
“إسكندرية مش آخر العالم يا عايدة.”
“مش هسافر.”
كفها المبتل على صدره. صوت شادية يغني في أذنه، وظل عايدة يعابث الظلام، فتارة يتحول عصفور ردرامبد يرفرف فوقهما قلقاً، وتارة هو طاووس بذيل من لهب أزرق، ينثر النار والشوق من حوله، وإذا ما أسدلت الظلمة ستائرها عن آخرها، وشددت عايدة قبضتها على شعيرات صدره القليلة النابتة، بدا ظل عايدة نسراً مجنحاً، طائراً أسطورياً قادماً من عباءة “ألف ليلة وليلة”، رُخاً عملاقاً يملأ الزمان والمكان، يرحل وعلى متنه ماجد، يأخذه مابين عالم خالد وعالمه، وفيما يرى النائم، يقترب الرُخ بوجهه فيري في عينيه خالد.
خالد…خالد…
“ماجد، اصحى يا حبيبي.”
ينظر حوله، عايدة مازالت هنا، جسده العاري مازال مبلل بالعرق، أم كلثوم مازالت تصدح “أغداً ألقاك”، والأطلس أسفل منه قد تكرمش سطحه وابتل بعرقهما ورحيقهما وعصير حبهما.
“ماجد أنت كنت بتحلم بيا؟”
“لأ.”
ضمها إليه، وداعب بأصابع قدمه خريطة الإسكندرية التي استقرت عند قدميه، ممزقاً جزءاً ضئيلاً منها، ومنه، ومن عايدة.
“عارفة في كام إسكندرية في العالم؟”
“عشرين.”
“بس؟”