نورهان أحمد عبد المجيد
الأمر يشبه الوقوف إلى قبرٍ والبكاء، حينها لن يسألك أحد لماذا تبكي، لأنه فعلٌ معتادٌ في هذا المكان…
إلى الرجل الذي خالف القانون المتفق عليه للبكاء، ووقف وسط الحشد الذي تجمع لمواراة جسد الفقيد وضحك…
كانوا ينظرون إليه باشمئزاز، والبعض ينعته بالجنون والخبل كعادة الأفعال غير المألوفة… لكنه استمر في الضحك والضحك.
وعندما همّوا بنبذه من بينهم، منعهم شخص ما من الالتفات إليه، وطلب منهم مباشرة عملهم وتركه وشأنه، لكونه الصديق الأقرب للفقيد…
عندما انتهت الجنازة وشيّع الفقيد إلى مثواه الأخير، ومع رحيل آخر رجل من الحشد… بقي هو بنفس الابتسامة البلهاء المرسومة على وجهه…
جلس القرفصاء إلى الأرض كرجل يخوض حديثًا أخيرًا، ووجه أنظاره إلى القبر يتكلم إليه مبتسمًا، وكان القمر يرسل أشعته البيضاء الساطعة في السماء…
ثبت عينيه على حجرٍ من حجارة القبر وقال:
“خشيت البكاء فلا تجف مدامعي، ويذهب الدمع كل حزني فأنساك… والحزن مدعاة للتذكر دائمًا، وكبت معاناة فقدك داخلي أهون من نسيان ذكراك…”
*
عندما أصاب المرض السيد رفيق المهجر… إلى دار لا يعلم عنها سوى أنها تأويه…
وعاش في دار غير داره لعشر سنوات كابد فيها الذل والألم والحسرة… همس في أذني أن جدران دار معاناته تشققت كما تشققت عظامه… عندما أصابته الحمى، تساقط طلاء المنزل وتداعى وبهت… وفي الليل تتأوه الزوايا لألمه…
أصابه العمى قبل سبع سنوات فقط من تهجيره إلى هذا المنزل، وخلال ثلاث سنوات حفظ كل أركانه وزواياه… عندما أحضر إليه الطعام، يشير إليّ حيث أضعه، ويطلب مني أن أناوله بعض أدويته التي يحفظها فيما يشبه إناءً فخاريًا كبيرًا وجده مع المنزل…
كان يطلق عليه “شريك معاناته” لأنه عانى الهجران مثله… ثم بسخرية يقول لي: “نبكي معًا ليلًا على الذكرى”…
أجيبه: “أليس منزل طفولتك الذي عشت فيه ما يقارب الستين عامًا أحق بتلك الشراكة؟”
لكنه تابع وهو يتلمس بأصابعه موجّهًا بصره الأعمى إلى الجدار: “الألم رابط أقوى… الألم رابط أقوى…”
بعد موته، جلست إلى قبره حتى انتصف الليل، أحدّث الرجل المتألم وحده و يشكو آلامه إلى الجمادات… زرت منزله بطلبٍ من إحدى الجارات التي قالت لي: “المنزل يتداعى…”
ولكنه، على عكس الصخب المصاحب للانهيارات، كان يتداعى في صمت… كأنه إنسان ناقم على الفقد، لكنه إنسان أخرس وأعمى وعاجز كليًا، لا يملك سوى الشعور…
قضينا شهورًا نعيد تثبيت أثاثه ونعالج تداعياته بأحدث الوسائل، لكنه يقاوم الإصلاح… ويستمر في الانهيار يومًا بعد يوم، كأنه جسد ميت لا تملك سبل إحيائه حتى لو قدمت له يقلب جديد…
*
في زيارة أخرى لقبرك، بعدما كتمت حزن فقدك داخلي، على عكس شريك ألمك الذي قرر الانهيار، صرت أسير في الشوارع محملًا بوزنٍ زائد، أجرّ قدمي خلفي… وكأن أربة من الأحزان تمتلئ على آخرها داخلي، وهذا غريب… بعد مرور تلك السنوات، كان يفترض أن تنكمش على نفسها لكنها تزيد وتزيد… وكأن الوقت يغذيها…كان الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي بمرور الوقت هو الحزن، والذي بجواره يتقلص ويخمد كل شيء… ولقد تهذبت روحي به، وكفت عن تهورها، والتزمت صمتًا عميقًا، لأن ذلك الشيء الذي يكبر داخلي يمنعني النفس والكلام…
يا عزيزي السيد رفيق… عرفتك قليلًا، لانطواء في نفسي منعني من الانخراط في شخصيتك، وأنت أدركت ذلك… أدركت صمتي وابتعادي عن الصخب وحساسيتي الشديدة، وكنا مختلفين جدًا…
ربما ما اتفقنا عليه أن كلاَنا قتله الحزن…
وأعيد عليك سؤالك الأخير الذي وجهته لي مرة: “كم قتل الحزن منا؟”