“عازفة البيانو” لـ ألفريده يلنيك…الصياد والفريسة وجها لوجه

البيانو ألفريده يلينيك
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيناس عيسى

بينما تملأ نغمات البيانو العذبة أركان الكونسرفتوار، لا تستطيع أن تجعل من حياة عازفة البيانو حياة سلسة تنساب كما تنساب نغمات الموسيقى. فهي حياة جافة بسبب أم متسلطة تحكم قبضتها حول ابنتها وتعاملها معاملة أحد الأشياء التي تنحدر تحت ممتلكاتها، فلا تترك لها مفرا لتعيش حياة تتماهى مع مهنة العازفة التي أرغمتها الأم كذلك على امتهانها، حيث دفعتها دفعاً داخل المجال الموسيقي، وأغلقت إحكام الباب خلفها لتجبرها على الاستمرار والتفوق به، فلا مجال للتراجع أو الإخفاق.

في رواية عازفة البيانو لـ ألفريدة يلنيك الصادرة عام 1983 عن دار ميريت والتي أثارت جدلاً كبيراً، تظهر فكرة قمع المرأة في مجتمع ذكوري واضحة وجلية، ممزوجة بفلسفة عميقة في قراءة التحولات الاجتماعية في تلك الحقبة التاريخية التي ارتهنت فيها النمسا للفكر النازي والذي شكل في فترة ما جزءاً من الحالة السياسية والثقافية الأوروبية. ‏

الصياد والفريسة

تأخذنا “إريكا كوهوت” معلمة البيانو في الكونسرفتوار، في رحلة محفوفة بالمخاطر والصعوبات منذ بداية الرواية وحتى نهايتها، فيشعر القاريء بأنه يسير على طريق غير ممهد البتة ومليء بالمرتفعات الشاهقة والمنخفضات شديدة الانحدار. تلك المعلمة هي إحدى ممتلكات الأم، والتي تجسد بدورها النظام البطريركي، بسلطة مطلقة دون رادع وحق مشروع في إحكام قبضتها الحديدية كيفما تشاء دون أى اعتبار لرغبات أو مشاعر ابنتها.

 الاستحواذ التام والتسلط المطلق هو جوهر العلاقة بين العازفة وأمها، لذلك فلا مجال للابنة لفعل أي شيء أو سلك أي طريق لا يتوافق مع ما تريده الأم؛ فهي من اختار حقل الدراسة والعمل للابنة واعتبرته الطريق الأوحد لها، كذلك اختيار ثيابها شديدة التحفظ، والاعتراض بشدة إزاء أي شيء لا يكون على هواها، كذلك علاقات وصداقات الابنة لا بد أن تكون تحت مجهر الأم التي لا تسمح بأي شيء يخرج عن سيطرتها. فهي الآمر والناهي في هذا المنزل الذي يقطنوه. لا مجال لحدوث شيء دون علمها أو لا يتوافق مع رغبتها، ولا وجود لأبواب لا تملك مفاتيحها. الأمر منتهي.

وإذا ما حاولت الابنة التملص من تلك القبضة بالتأخر قليلا أو زيارة أماكن دون علم الأم أو شراء ثوباً جديدا، تنقض عليها الأم انقضاضاً بمجرد ظهورها في الأفق، فتضربها وتلكمها وتمزق ثيابها. فكل ذلك ضمن سلطات الأم وصلاحياتها. وما أن تسعى الابنة للدخول في علاقة مغايرة لتجد متنفسا من قبضة الأم الحديدية، حتى تسعى بدورها لأن تكون مقهورة وذليلة ومسلوبة الإرادة.

كل ذلك يحدث مع بإيقاع هاديء وعذب في بعض المواقع في الرواية، بينما يستحيل نشازاً في مواقع أخرى، خصوصاً عندما تكون هناك مواقف بين الابنه والأم، أو الابنة وتلميذها –الذي ستقع في حبه لاحقاً- فاللغة الموسيقية ذات مردود عالٍ جداً وإيقاعها قوي على مدار الرواية بأكملها.

عاطفة مشوشة ورغبة في الانتقام

بسبب ما تعانيه العازفة مع أمها، تصبح عاطفتها مشوّشة للغاية مما يؤدي لصعوبة، بل واستحالة، قدرتها على التعبير عنها بشكل سليم. فتستحيل تلك المشاعر إلى رغبة في جلد الذات والانتقام. كذلك فهي عندما تحاول اكتشاف جسدها، تكتشفه بإحساس أعمى وتحصل بالتالي على رسائل مشوشة مغلفة بإيذاء نفسها بنفسها.

تتجلى تلك العاطفة المشوّشة في علاقتها مع أحد طلابها “فالتر كالمر”، والذي يسعى بطرق شتى للدخول معها في علاقة غرامية، فتصده في البداية. لكن ذلك لا يعني أنها لا تريد أن تدخل معه في علاقة، بل لأنها كانت تريد نوعاً معيناً من العلاقات والتي لم تستطع أن تبح به له في البداية. لذلك بعد أن حاولت التملص منه عدة مرات، أخيراً تقول له أنها ستكتب له خطاباً يحدد الطريقة المثلى التي عليه أن يتبعها معها. وعندما يقرأ كالمر الخطاب، يتأكد من أن معلمته مريضة نفسياً لما أوردته من رغبة في تعذيبها وضربها. تريد مزيداً من القسوة والعنف وسلب كل إرادتها حتى لا تتمكن من فعل أي شيء. فهي تطلب منه أن يكمم فمها ويربطها بل ويضربها إذا حاولت الافلات منه. هي لا تريد علاقة غرامية عادية، فذلك لم تعد تستسيغه أو تشعر به. فلقد تبلدت مشاعرها وأصبحت غيىر قادرة على استقبال مثل هذه الإشارات والاستجابة لها.

كذلك تظهر مشاعر الانتقام عندما تضع زجاج مهشّم في جيب سترات تلميذتها والتي كان لها دور أساسي في الحفل الموسيقي. يتسبب الزجاج المهشم في جروح عميقة للتلميذة فلا تستطيع أن تشارك في الحفل، فتشعر المعلمة بلذّة عارمة إثر ذلك، لكنها لا تظهر ذلك للعيان. فكل شيء يعتمل بداخلها فقط وليس عليها أن تبديه لأحد.

تتصاعد وتيرة الأحداث في الرواية شيئاً فشيئا إلى أن تنتهي بحصول المعلمة على ما تريده في علاقتها الغرامية بكالمر، فيضربها ويلكمها دون رحمة، حتى تنزف وتتألم بشدة ولا يدفعه ذلك إلى إيقاف ذلك، بل يستمر  في ذلك حتى تستجديه المعلمة أن يرحمها من ذلك الضرب العنيف، لكنه لا يستمع لها، فذلك هو ما أرادته من الأساس وعليها أن تتحمّل عواقبه.

تنتهي الرواية بعودة كالمر لحياته وسط زملائه أصحاب الأعمار المتقاربة والاهتمامات المشتركة، بينما تسير إريكا وحيدة، فتطعن نفسها بالسكين -الذي كانت تحمله لقتل كالمر- في كتفها، وتسير بإتجاه تعلمه جيداً، تسير نحو منزلها وهي تنزف دون توقف.

ألفريدة يلنيك

ولدت الكاتبة النمساوية عام 1946 لأم نمسوية كاثوليكية ذات أصول سلافية رومانية، تنتمي إلى عائلة بورجوازية من فيينا، وأب هو عالم كيمياء يهودي من عائلة تشيكية فقيرة ولكن مثقفة، والذي مات في أحد المصحات العقلي التي اُحتجز بها بعد إصابته بالجنون.

كانت أمها متسلطة تماما كالأم التي وصفتها في “عازفة البيانو” وكانت مصممة على أن تجعل ابنتها عبقرية من عباقرة الموسيقى، فمارست عليها ضغوطا مرعبة وأجبرتها منذ سن صغير على متابعة دروس في البيانو والكمان حتى سن السادسة عشرة، حينها سقطت يلنيك فريسة لأزمة نفسية حادة ثارت من بعدها على تسلط أمها واتجهت للكتابة. تقول في إحدى حواراتها  “اخترتُ الكتابة لأنها الشيء الوحيد الذي لم تحرضني والدتي عليه”. 

يلنيك الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب عام 2004 هي أديبة غزيرة الإنتاج، بدأت بكتابة الشعر ثم اتجهت إلى الرواية فالنص المسرحي.كتبت عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية في الشعر والرواية والمسرح، بالإضافة إلى الكتابة للإذاعة والسينما والترجمة الأدبي، وتُرجمت أعمالها للعديد من اللغات. من أشهر أعمالها «المهمّشون» 1980، «رغبة» 1989،«هؤلاء يقتلون الأطفال» 1995.

 

مقالات من نفس القسم