محمود عبد الدايم
«ربما الهدوء الذي يسكنه وملامحه التي تنطق دفئا في كل أوقات العام».. «ربما اختياره أن يكون بسيطًا عاديًا مثلنا».. «ربما الأمر لا يتعدى كونه محاولة لكتابة مذكرات وذكريات».. الاحتمالات الثلاثة السابقة، طاردتني كثيرًا طوال الساعات التي كنت أنفرد فيها بـ«أيام عادية»، المجموعة القصصية الأحدث في إبداعات الكاتب الروائي، عادل عصمت، الصادرة عن دار «الكتب خان» 2023.
في مرات عدة من «لحظات مطاردة الاحتمالات»، حاولت الهرب، إبعاد الصورة التي تحتفظ بها الذاكرة لـ«عادل عصمت»، الإنسان، لكن دائما كان الفشل حاضرًا، فكل صفحة أطويها أراه أمامي، هادئا – كما اعتدته، تاركًا ابتسامة مرحة على وجهه تدعو لـ«الفضفضة» في كل شيء وعن أي شيء، وأظن أن السر هنا، «الابتسامة» التي يخفي خلفها صاحب «أيام عادية» عين دقيقة الملاحظة، وذهن حاضر يقظ، وطفولة يستخدمها في التحايل على كل المعوقات التي يمكن أن تجعل صورة الآخرين في عينيه «مهزوزة».
«أيام عادية».. من الممكن أن يتعامل معها كونها «مغامرة» تصل إلى حد «المقامرة»، فصاحبها منذ أقل من عام طرح رواية «جنازة السيدة البيضاء»، وهي من نوعية الأعمال التي تضع الكاتب والقارئ – على حد سواء، أمام علامة استفهام كبيرة يسبقها سؤال «ماذا سيكتب بعدها؟»، ليفاجئنا «عادل»، وأظنه – وليس كل الظن إثم – فاجئ نفسه، بـ«أيام عادية»، المجموعة القصصية التي فور الانتهاء منها ستكشف أنه لا يزال يمتلك الكثير في «ذاكرة الحكي».
«أيام عادية اختيار موفق جدًا للمجموعة»، نتيجة آخرى ستطل برأسها بعد قراءة عدة «نصوص»، وسريعًا ستسحبك «الوجوه» التي اختار أن ينحتها «عصمت» إلى عالمها، عالم من التفاصيل الدقيقة، بعضها «مثير للضحك»، والبعض الآخر «مسيل للدموع».
الزوايا التي اختارها صاحب «أيام عادية»، لم تكن قريبة الشبه بعنوان المجموعة القصصية، فهي زوايا غير عادية، خاصة جدًا، مغلفة بالحزن حينًا، والفرح في أماكن آخرى، والوحدة في مواضع عدة، و«الحنين» هو الآخر له مكان في بعضها.
«سمية»، أو «الأستاذة سمية» كما يقدمها «عصمت» لنا، سيدة «اليوميات»، التي اختارت تدوين التاريخ ومطاردة «شبح الأيام»، صاحبة الأجندات الملونة، أو «الكنز» الذي اعتادت أن تفتحه لتتابع «ظل مرور الأيام»، فـ«كل ليلة يكفيها التقليب في تلك الأوراق، ومراجعة تلك اللحظات، كل ليلة تتوقف أمام لحظات أخرى غير اللحظات التي توقفت عندها في الليلة السابقة، تستغرق متشبثة بظل الأيام الذي رسمته بخطها الركيك على الصفحات البيضاء».
«يشبه وجهًا قديمًا أعرفه»، من منا لم يردد العبارة السابقة هذه، ولو لمرة في حياته، مكتشفًا «عشق قديم» بعدما اصطدم بوجه يشبه الوجه القديم الذي يعرفه، وجه له نفس الانطباع المحبب، وبعد لحظات التذكر، سنقتبس الفقرة الأخيرة التي كتبها «عصمت» عن «حب قديم»، ونقول: «لولا رؤيتي لهذه البنت، لما تعرفت على حب قديم، ظل غافيًا دون اسم، حتى ظهرت فأعطته اسمه ومنحته الوجود، حضورها غير المتوقع رفع الغطاء عن مشاعر قديمة وحررها من غفوتها».
ببراعة، استطاع «عصمت» أن يمنح لـ«الخلود» حكاية جديدة، وهيئة عادية وإن كانت مدهشة، حكاية البطل الذي «يدخل المطبخ، يعود بزجاجة الويسكي أو الفودكا، برفق يضعها في مكانها المضبوط فوق البوفيه، يحمل الصينية إلى منضدة صغيرة بين الكراسي في غرفة المكتب، ثم يأتي بالكؤوس والليمون والثلج، برفق وبحساب لعملية حفظها الجسم، لكنها في كل مرة تستدعي الانتباه الصافي المحبب للحظة يتجسد فيها الترقب المثير للمتعة».
«متأكد من أنه كان سيصبح رسامًا»، عندما واجهتني الجملة هذه في أول سطر لـ«المنتحر»، لم أرى «سمير عبد الله»، بل قفزت إلى الذاكرة صورة صاحب «أيام عادية»، فالكتابة عند «عادل» محاولة لـ«الرسم»، الموهبة التي أظنها هجرته في زحام الحياة، ولهذا يحاول دائما أن يخرجها فيما يكتب، ومن بين الكتابات هذه قصة «سمير» الذي سقط في حب «بيسة» ووضع من أجلها «دبورة» على كتفه، متحملًا مسؤولية «المحاكمة» بمنح نفسه «رتبة» ضابط وهو لم يقفز «عتبة الصول»، لكن «الدبورة المزيفة» التي منحته لقاء سبقته ابتسامات تعرف هدفها، جعلته يجلس بعد «خطوبة بيسة» على «بسطة السلم» الأخيرة تتناوبه موجات أفكار جنونية، أن يخطفها، أن يحرق بيتها، قبل أن تراوده فكرة الانتحار الذي استبدله بـ«البكاء» بعدما تذكر موعد انتهاء الأجازة والعودة إلى المعسكر.
تجلت «الوحدة» في «ظل الجريدة»، فـ«الست عايدة»، اعتادت أن تجلس على مقعد بجانب الشرفة، تتابع ضوء الشمس ينسحب عن العماارة المواجهة، تنتظر ظهور ظل الجريدة على زجاج شراعة الباب قبل أن تغيب الشمس، وهي التي كانت تصحو من الفجر لتعمل في البيت حتى تتعب، وبعد نزول الزوج إلى العمل، تتمدد قليلًا على سرير غرفة الضيوف، منتظرة ظل الجريدة وفنجان القهوة الذي يرافق قراءة الجرنال ويمنحها لمسة من السعادة، حتى يحين أوان العمل مرة آخرى في المطبخ مع آذان الظهر.
«موت الزوج».. الرفض القاطع لرأي شقيقتها بالذهاب إلى طبيب نساء وتوليد لمعرفة سر عدم الإنجاب، الندم الكبير على «لحظة الرفض»، أفكار تدور في مخيلة «الست عايدة» التي اختارت «نصف العمى» بموافقتها على أن يحمل إليها «صبي المكوجي» الجريدة في المساء، وإن كانت اشترطت أن «يعلقها في شراعة الباب» لتنتظر ظهور الظل على زجاج الشراعة قبل أن تغيب الشمس.
الفلسفة التي يعشقها «عصمت» حاضرة في كل النصوص، تمنح لـ«الحزن» أسباب منطقية، وتعطي لـ«الوحدة» هامش من المنطق الذي يبررها، وتجعل «الفرح» ممكنًا في أحيان يظنه البعض أثنائها أنه «غير صالح للاستخدام».