د. نعيمة عبد الجواد
ملامح شرقية لفتى أسمر متوسط القامة ذو ضحكة عريضة ولفتات كوميدية خاصة به، ولا تنطبق عليه مواصفات النجم الوسيم أو “الجان”، وكذلك لا يمكن أن يكون يلعب دور الفتوة الشرس بجسده الضئيل النحيل، ولكن مع كل هذا استطاع أن يدخل عالم التمثيل، ويغزو أفلام السينما ويفرض وجوده في وسط كوكبة من كبار النجوم. أغرب ما في الأمر أنه في بداياته قبل أن يصل لمرحلة النجومية استطاع أن يحفر لنفسه مكانة مميزة في كل دور يضَّلع به، فيجعل المشاهد يخرج من دور العرض متذكِّرًا الدور الذي قام به، بل ويضحك عليه بشكل منفرد وليس في سياق العمل الفني؛ أي انه يستطيع أن يجعل من دوره بؤرة ضوء في العمل الفني، بعبارة أخرى “منوَّر” بلغة السينمائيين. أما الأغرب من كل هذا وذاك فهو أنه استطاعته على أن يجعل المشاهد يصدقه ما يقدمه من أدوار: فصدق المشاهد أن وسامته لا توصف عندما قدم دور “الجان”، وكذلك لم يشك في لحظة أنه قويّ وله قدرة على التغلب على رجال أشداء أقوياء البنية. هذه القدرة الفريدة على اللعب على أوتار الجمهور والتي قلَّما تتوافر في فنان توافرت في الفنان الأسطوري “عادل إمام” الذي استطاع أن يتربع على عرش الكوميديا ما يربو على (41) الواحد وأربعين عامًا ضاربًا بذلك رقمًا قياسيًا عالميًا.
عادل إمام واعتلاؤه لعرش الفن كنجم شباك طوال هذه الفترة أمر يستحق الدراسة. فلم يكن من المتوقع أبدًا أن الشاب القادم من الطبقة المتوسطة والمولود في (17 مايو 1940)، والذي يكافح في حياته من أجل التعلُّم والاستمتاع بمباهج الحياة كما سمحت له ظروفه المادية أن يعتلي مكانة نجم النجوم والنجم “الميجا ستار”. أجمل ما في الأمر أن عادل إمام كان يعيش المواقف التي يقدمها على الشاشة خلف الكاميرا في حياته اليومية قبل الدخول في عالم التمثيل. فهو ذاك الشاب المكافح الذي يستطيع بذكائه وحسه الكوميدي أن يستمتع بوقته حتى في أحلك الظروف، ويشاركه في ذلك أصدقاء له القدرة أن يصنعهم حتى ولو لحظيًا. مشوار حياة الفنان عادل إمام مملوءة بمواقف شديدة الكوميدية، وأخرى شديدة الدرامية لدرجة البكاء، ومن ثمَّ استطاع بكل مهارة أن يمزج الكوميديا بالدراما في خلطة فريدة خاصة به؛ لأنه ببساطة قد درَّب نفسه على ذلك في حياته العادية.
لفت عادل إمام إليه الأنظار كممثل لديه القدرة على أن يضلع بمهام دور البطولة في فيلم “البحث عن فضيحة” (1973) الذي كان بمثابة إطلاقة له في أدوار البطولة. في هذا الفيلم الذي يوصف بأنه ينتمي لفصيل “الكوميديا الخفيفة”، استطاع أن يرسم المنهاج الذي سوف يتبعه في مشوار نجوميته؛ حيث استطاع أن يمزج الكوميديا الهزلية بمشاهد درامية مؤثرة جعلت الجمهور يتعاطف مع البطل، ويتمنى له الاقتران بفتاة لا تشبهه اجتماعيًا وهو لا يضاهيها جمالًا ووسامة. ومن ثمَّ تمكن عادل إمام أن يلعب أدوار متنوعة في مرحلة الانتشار حتى صار نجم الشباك الأكثر جذباً للجمهور، ويعزو ذلك لقدرته على خوض موضوعات رومانسية واجتماعية وإنسانية وسياسية ونفسية قد تكون كوميدية أو ممزوجة بأطلال من الكوميديا، عِلمًا بأن كوميديا عادل إمام تعتمد بالأساس على كوميديا الموقف في مرحلة نضجة ونجوميته.
فترة السبعينات – التي كانت فترة انتشاره – كانت مطية عادل إمام لقلوب الجماهير هي الأفلام الكوميدية الهزلية أو الكوميدية القائمة على الحركة (الأكشن) في أدوار يضلع بها سواء في شكل بطولات جماعية أوفردية. إلى أن جاءت نقطة التحول في مستقبله الفني عام 1979 عندما تقاسم البطولة مع الفنان عبد المنعم مدبولي في فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس”. كان الفيلم صادمًا على كل الأصعدة؛ حيث أن الجمهور الذي بذل من وقته وماله لمشاهدة الفيلم الذي يضم إثنين من أشهر نجوم الكوميديا في تلك الحقبة، وجد نفسه يشاهد فيلمًا دراميًا مأساويًا، ساعد كلا الفنانين على إظهار الوجه المناقض للأدوار التي يلعبونها، مما أخرج طاقات درامية كامنة في كلا الفنانين. يعد فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس” من العلامات البارزة في السينما المصرية؛ لتناوله موضوعًا سياسيًا ينتمي لفصيل “المسكوت عنه”، أو بعبارة أخرى “التابوهات”. وبعد النجاح الضخم الذي حققه ذاك الفيلم، أردفه عادل إمام في نفس العام بفيلم درامي مأساوي آخر وهو فيلم “قاتل ما قتلش حد”. والفيلم إجتماعي إنساني في إطار رومانسي، أحيانًا تتخله مواقف كوميدية. يدور الفيلم حول أب أرمل له طفلة وحيدة لايتجاوز عمرها الخمس سنوات، لكنه يصاب بورم في المخ، وعلى هذا تصير مشكلته الوحيدة رغبته قبل الموت في تأمين مستقبل طفلته ماديًا وإيجاد من يتعهد له بتربية ابنته بعد موته.
ومنذ ذاك الفيلم، حفر عادل إمام لنفسه مكانة خاصة في عالم النجومية، ونافست أعماله أفلام نجوم عصره مثل نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي. لكن أسلوبه المميز جعل أفلامه ذات طابع خاص مما جعل إيرادات شباك تذاكر أفلامه لا يمكن مقارنتها مع نجوم عصره؛ لأن المشاهد ينتظر أفلام عادل إمام؛ ليشهد الجديد فيما يقدمه وكيف يطرحه من خلال زاوية فنية وتمثيلية تختلف كلياً عن منهاج معاصريه.
أهم ما يميَّز عادل إمام اختياره لعب دور المواطن المصري العادي الذي لا يختلف عن أي فرد؛ فهو الريفي البسيط والمتعلم والموظف والراغب في الثراء والمجرم التائب.وكانت بصمته على كل فيلم هي الرسالة التي يبثها للمشاهد وهي محاولته الدؤوبة للتصدي لقسوة الحياة بكل الطرق. تلك النوعية من الأفلام التي لا تنفصم عن الواقع جعلت من عادل إمام حلم المواطن المصري والفنان الذي يمس أوتار قلوب مشاهديه في الوطن العربي، مما جعل النقاد يحتفون بأعماله.
ومع حقبة التسعينات مرورًا ببدايات الألفية الثالثة اتجه عادل إمام للأفلام ذات المغزى العميق والتي يغلب عليها الطابع السياسي-الاجتماعي لطرح مشكلات الساعة على الجمهور؛ من أجل لفت الأنظار للمشكلة وإيجاد حلول فعالة للقضاء عليها. وعند إلقاء الضوء على أفلام من هذا الفصيل، نجد أنها لا تزال عالقة في أذهان جمهور المشاهدين، ومن تلك الأفلام: “اللعب مع الكبار” (1991)، “الإرهاب والكباب” (1993)، “المنسي” (1993)، “طيور الظلام” (1993)، “السفارة في العمارة” (2005)، و”عمارة يعقوبيان” (2006).
وعلى صعيد آخر، يحسب للفنان عادل إمام ريادته في التصدي لمشكلات الإرهاب والتأسلم في فيلم “الإرهابي” (1993)، والإشارة لهذا الموضوع بشكل غير مباشر للتنبيه على خطورة استفحاله في فيلم “الإرهاب والكباب” (1993). ذلك الأمركلفه الوقوع في مشكلات جمَّة، ومنها رفع قضية إزدراء أديان عليه والحكم فيها غيابياً بإدانته وعقوبته بالحبس ودفع غرامة مالية كبرى. لكن لم يهن ذلك من عزم عادل إمام، ولم يضع حدًا لإصراره على إلقاء الضوء على قضايا نزاعات دينية ضربت بمجتمعنا في ذاك الحين. وعلى هذا كان فيلم “حسن ومرقص” (2008) الذي تقاسم فيه الفنان العالمي عمر الشريف معه البطولة بمثابة رسالة قومية للحث على إعلاء راية الوحدة الوطنية من خلال نبذ خلافات دينية قائمة على افتراضات مغلوطة. وكانت رسالته التي يحتذى بها في هذا الفيلم هي التوكيد على أن النسيج المتين الذي يربط بين أبناء الوطن لا يمكن أن يتفسخ أبدًا.
ولم تقف أعماله الإستباقية عند هذا الحد؛ حيث عالج عادل إمام في أفلامه قضية الاضطرابات النفسية والعصبية من زوايا جدية، وبطرق مبتكرة. يحسب للفنان عادل إمام في فيلم “خللي بالك من عقلك” (1985) أنه كان من أوائل من أكد أن المرضَى النفسيين ليسوا “مجانين” وأنه من الممكن شفائهم ودمجهم في المجتمع مرة أخرى، إذا تم التعامل معهم بطريقة سليمة لا تنتقص من آدميتهم. أما في فيلم “زهايمر” (2010) فلقد بَسَطَ فيه الفنان عادل إمام للمشاهد ملامح هذا المرض والتغييرات التي تتطرأ على المريض بسببه من خلال عرض حالات مرضية متعددة. وبهذا استطاع أن يخطف مشاعر ولب المشاهد بالتنويه على شراسة المرض التي يحيل المصاب – مهما كانت مكانته – لإنسان لا حول له ولا قوة.
أما عن المسلسلات التي قدَّمها الفنان عادل إمام فأغلبها ملاحم فنية لا يمكن الملل من مشاهدتها؛ لأنه قد أثراها بخلطة تمتع المشاهد دراميًا وسياسيًا وتشعل وجدانه بوضع مشكلات قومية وعربية في دائرة الضوء بأسلوب سلس يفهمه المشاهد البسيط، ويمس أغوار عميقة لمشكلات جدية لها أبعاد متشعبة — يلمحها المشاهد المثقف.
حقًا عادل إمام أسطورة وظاهرة لا تتكرر كثيرًا في العالم، وعطاءه الفني بالرغم من تأديته بأسلوب سلس، لكن خبراء التمثيل يحكمون بأن انتهاجه لأسلوب السهل الممتنع هذا في التمثيل غاية في الصعوبة، والأصعب هو مزج الموقف الدرامي بالكوميديا الهزلية أو الكوميديا السوداء – كما تجلى ذلك في أفلامه الدرامية الجدية التي جعلت المشاهد يبسم ودموعه على شفير السقوط من مآقيه. قد لا يكون نصيب الفنان عادل إمام من الجوائز والتكريم كبيرًا، لكن يكفيه تكريم جمهوره؛ فكلما أُعيد عرض أحد أفلامه أو أعماله الدرامية على شاشات التليفزيون، يهرع المشاهد بالالتفاف حول الشاشة لمشاهدتها. ومن ثمَّ صارت القنوات تتلقف أعماله وتتسابق في عرضها. لسوف يظل عادل إمام “الميجا ستار” الذي حطم الأرقام القياسية للاحتفاظ بالنجومية والذي اجتهد ليصير صاحب الأعمال الأكثر تنوعًا وإمتاعًا، والممثل الذي يفتخر أبناء وطنه بوجوده ويباهون به العالم.