ظل شجرة في المقابر

ظل شجرة في المقابر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود خيرالله

أجدادُنا

الجماجمُ التي لأهلنا وذوينا، التي للذين طأطأوا رؤوسهم أمام كل ريح، وللحالمين بجنةٍ وعدلٍ و”أسنانِ مُشط”.. وللذين ما لمسوا “زهرة” بغير جُرح، ودفعوا الأيام أمامهم، فارتدت إليهم دائماً “ألف خَلْف”، وللذين غيَّروا مساكنهُم مرَّات باحثين عن مِفتاحٍ ومَخْبأ، الجماجم التي لأناس مرحين جداً وعاطلين عن العمل، وللذين حين تشمّهم تفهم أنهم يعملون لأنفسهِم ولغيرهمِ أيضاً، وللذين انكسرت قلوبُهم وضلوعُهم بين الموتِ والحياة.

الجماجم التي لأجدادنا يطحنها المدمنون عادةً قبل أن يدخلوا في نصف غيبوبةٍ.. نصف غيبوبة لرأس مُدمِن.

 

الخِـــــتْم

علّقت دمعةً صغيرةً

وأغلقت الباب،

كانت طوال الليلِ تحلم،

أنها ستسلُقُ في الصباحِ عظاماً

بعد أن تعودَ من رحلةٍ شهريةٍ

لمكتب البريد…

في الطابور الطويل

عبر أحذيةٍ ممزقةٍ

وجوارب مثقوبة الجنبيْن،

وخلف أقفيةٍ شققها مزاحٌ ثقيل،

تحرَّكت دمعة

تحت حكاياتٍ قديمة

تعود إلى الوراء سريعاً

خمسين عاماً على الأقل..

حَكتْ جالسةً تحت شباك،

لنفسها أولاً

ولنُظَراء لديهم

حكاياتٌ شبيهة

عن الزوجات الصِّغيرات لإخوتها،

عن شلالِ بكاء غرِقن فيه

حينما تزوجن إخوتها:

“كُن بيضاواتٍ

يُشعلن إخوتي

ويَحْبَلن،

لم يكن حقداً عليهنَّ

صدقوني،

كنتُ سوداء

ـ كما أنا الآن ـ

وكُنّ يُثرنني،

أتنصَّت عليهن إذا دخلن الحمام

وأقول:

“طلقها يا أخي”،

ولا يطلقون

ينتظرون الليل ويعاملونهن تقريباً

مُعاملة الساتان”.

إذْ تحكي

تتساءل العجائز

فتمشي دمعةٌ صغيرةٌ بين جفنيها

وإذ تقترب من الشبَّاك

تتذكر:

“صنعتُ طعاماً كثيراً

لرجالٍ جاءوا لخطبة أختي الصغيرتين،

وجهزتُ مع إخوتي الذكور ليالي عرسهم،

كنتُ أدق رؤوس الزوجات

بأيدي “الهون” المضافة إلى “الجهاز”،

كُن بطلاتٍ

وتحملنني..”

تقولُ

وتسقُطُ دمعةٌ منها على “الخِتْم”

فيطبعه الموظفُ ثلاثياً،

“عزيزة عبدالفضيل خيرالله”،

عمَّتي،

التي لم يفكر رجلٌ مبصرٌ

أن يضمها إلى صدره،

تزوجت كفيفاً

ولم يدخل بها،

حضر أبناؤه وضربوه

رموا عمامته على الأرض

وأجبروه على الطلاق،

عمتي تقريباً

تزوجت العمامة

وخاصمت الرِّجال.

مات أبوها

ولم يترك سوى بيتٍ قديم

وعادةٍ قديمة،

أن يشعل النيران في القمامة،

ولأنها مسكونة بالنار

كانت تجلس أمامها

طوال الليل وتتأكد

أن الدخان المتصاعد سيُسمِّم

أطفال المنازل المجاروة،

عمَّتي

من كثرة ما حملقت في نارها

تعلقت دمعةٌ صغيرةٌ على عينيها

لا تسقُطُ

إلا أمام موظَّف البريد

فوق “الخِتْم” مُباشرةً،

لتصرفَ كل شهرٍ

سبعةً وخمسين جنيهاً مصرياً.

 

خشب مُلوَّن

أصحابُ النوافذ النظيفة

تساقطت شعيرات رؤوسهم

في أوطانٍ غريبة،

وسنواتٍ كثيرة أمضوها

يحلمون برؤيتها

تنامُ هادئة فوق الأشجار،

عشتُ ثلاثين عاماً

بنوافذ قديمة

وهواء مُغبَّر

أنظرُ وأصرخ وأبتسم،

أراقبها: مفتوحةٌ بسعادة

كأنَّها أول النوافذ

وحزينة لأن أصحابها أغلقوها صامتين

وتركوها تتكلم،

وحين وَضَعت أمي طعاماً في الشمس

لبضعِ دجاجاتٍ

عشقتْها النوافذ

ومن النظرة الأولى،

الآن أولادي سيكرهونني

لأنهم فقدوا نوافذ تخصُّهم

عاشوا أعمارهم بنوافذ غريبة،

وحُملوا إلى “بالكوناتٍ” ليست لهم

بدهانٍ متساقِط

ومقابض غليظة

وتعلقت أنفاسُهم بهواء آخرين،

لا شك سيكرهونني

بعد أن مرضوا

وارتجفوا

وتجرعوا دواء مُراً

لغياب نوافذهم،

حين تفتح نافذةً تخصك

تستطيع ساعتها أن تبكي

بسببٍ

وبغير سبب،

جُعلت النوافذ خصيصاً لبكاء أصحابها،

حتى “المشربيات” القديمة

بكت خلفها الجداتُ

وأورثْننا بكاء كلما شاهدنا النوافذ،

ومثل بعض البشر

تعيشُ النوافذ ذليلةً

بحياةٍ متهدِّلة وسط تُراب،

ومثل آخرين،

تعيشُ نوافذ مغسولةً

ولامعة كزُجاج،

بينما الناس جميعاً ينظرون

من عينين فقط إلى الشارع

والعربات

والمياه الطافحة.

 

نحنُ أصدقاءُ نعوشْ

حلمتُ دائماً أنني أهاجرَ

بعيداً عن هذا العالم،

فلن تخسر هذه الملايين شيئاً

حين تُلقى – بعد ثلاثين عاماً –

واحداً منها

إلى البحر.

***

عشتُ دائماً

مع العربة المُلقاة

في آخر الشارع،

مع الفولِ والترابِ والبَصل

يدخلُ الجوعى صداقةً معي،

أصادفهم في”المشافي”

تحت العياداتِ،

وألقي السلامَ عليهم

كلَّما ركبوا نعوشاً وطاروا للمقابر.

***

ثلاثون عاماً

أصحو مفزوعاً

كلَّما مرَّ نعشٌ صديقْ،

نحن أصدقاء نعوش

ورواد جنازاتٍ،

نُجامل أحياناً

بحناجرَ مَشْروخة.

***

ثلاثون عاماً

أجوبُ شوارعَ ضيِّقة

ومقابر،

وبيوتاً تتساقط جدرانها

كل عدة أعوامٍ،

فتقتل جيلاً أو جيليْن.

***

عشتُ دائماً

مع القاتلين أنفسَهم

رأيتُ واحداً منهم،

يتساقطُ لحمُه على الأرض،

وهو يمشي هادئاً في الشارع،

أشعل النار في ملابسِه

كأنَّه يُشعل سيجارةًً لصديق،

وآخر قطرةٍ من لحمِه،

لوَّنت حذاء الطبيب

في “العيادة الشاملة”..

عشرة أعوام

وأمُه هناك،

تبحثُ في الأرضِ دائماً

عن لحم ابنها،

ونظرة رعبٍ تفوحُ  بين حاجبيْها

كلَّما رأتْ طفلاً يعضّ ثدي أمّه .

***

هنا ..

يعشق سمرٌ سمراوتِ

ويتركون خطابات

خلف السلالم،

وحين يكبرون قليلاً

يهجرون قراهم

ويكتئبون،

وحين يكون عليهم أن يفعلوا شيئاً

يقطعون أعمارَهم بدقة

بين “الطوابير”..

وقفتُ دائماً معهم

على قدم واحدة

أمام شبابيك “بنوك”

وأبوابِ “سفارات”،

وحتَّى أثناء النوم

ثمة بعض “الطوابير”،

فيما فئران مذعورة

تثيرُ غباراً خفيفاً

بين الأقدام،

غبارٌ سوَّد رئتيَّ

أنا الحالمُ بالهجرة

من هذا العالم ..

هنا طوابير “الجمعيَّة”

“أنابيب الغاز”

طوابير “الخبز”

ورغم ذاك،

شبابٌ يضحكون عادة

ويحكَّون ما بين الأفخاذ..

كلما همستْ مؤخِّرةُ امرأة

من تحتِ الجلبابْ.

 ***

ثلاثون عاماً هنا،

مع غاسلاتِ الصّحون

على شواطىء التُرَع،

يكشفن لَحماً ولوعة

وينتظرِن الأزواج،

واحدةٌ منهن انتظرتْه

عشرين شتاء،

كان ينزفُ في دولةٍ أخرى،

بعضَ النقود

و”الحَصوات”،

ثلاثون عاماً هنا

والموتَ  لا يزالُ مدهشاً

 كأنَّه لن يتخلى أبداً عن لذة الضحك .

 ***

 ثلاثون عاماً هنا،

مع الفئران الخائفة

والفئران الهائلة،

صادفتها دائماً

في المدارس والبيوت

وفي مكاتب العمل،

وحين صرتُ صحافياً

زاملتني الفئرانُ الهائلة

واحتلَّت أدراجي،

وحين كنتُ أغيب،

كانت تأخذُ كرسي

وتحضر بدلاً مني،

في هذا العالم .

 ***

 حلمتُ دائماً أن أهاجرَ

فلن تجني هذه الملايين شيئاً

لو ألقت – بعد ثلاثين عاماً –

واحداً منها

إلى البحر.

 

ظِلُّ شجرةٍ في المقابِر

قليوب

في أول الشارع

باعَ شابٌ كُليته

بخمسين ألف جنيه

وافتتح مشروعاً في قرية مجاورة،

بعد عامين

باع عينه اليسرى في عيادة الطبيب

بتسعين ألفاً..

وافتتح “كشري المدينة المنورة”،

في أول الشارع

ولدٌ مفلسٌ

يتجول بين محطات المترو

وأرصفة القطارات

بحثاً عن ضحيَّة،

لابدّ أنكم صادفتموه،

بعينٍ واحدةٍ

و”ولاعات” يناديها طوال اليوم،

وحين يقرر النوم

يطوي صحيفةَ سوابقهِ ِالضخمة

تحت رأسه،

ليغفو قليلاً

في ظل كوبري “6 أكتوبر”

فيما سياراتٌ فارهة

تهشّ عليه غُبارَ المدينة.

 

في شارعٍ عرضه أربعة أمتار

لم تكُن تحلُم ولو في كابوس

أنها ستصير شاحبةً إلى هذا الحد،

الأمُ،

التي غسلت ملاءات بيتها

ملايين المرات

في عشرة أعوام متصلة،

لم تعُد أماً،

ضاعت أحلامها فجأة

حين تزوَّجت من أوّل كفٍ دقت الباب،

باثنين وخمسين متراً مربعاً

وطفل ينام عادةً

محتضماً لعابه.

لم تكن تحلم ولو في كابوس

أم ملاءات بيتها ستبكي

بدموعٍ غزيرة هكذا

لدرجة أن المارة سوف يصنعون

لأنفسهم مراكب،

لعبروا تحت شرفتها بسلام.

 

الخُبز

الذي وقفوا الساعات لأجله،

لم يكن خبزاً هذا

كان دمعاً يهطل

عضلاتٍ تفتل

كان أمثلةً شعبية

وحزناً يقطر

فبعد عشرين عاماً

من إغلاق هذا “المخبز”

مازلتُ أسمعُ ضجيجاً في أذنيَّ،

وأرى بشراً يتشاجرون

كأنَّهم داخل مِعْدةِ إلهٍ ظالم.

 

سيرة ذاتيَّة

في بيوتنا لا توجد حدائق

ـ مزهريات بائسة

ولا عطور للصيف

ـ بعضنا يستحم مرتين يومياً

ولا دولاب ملابس!

ـ نستدين لأجلها كل عدة أعوامٍ

ولا حبيباتٍ ينتظرن!

ـ نفكر في الزواج بإلحاحٍ

ونُنجِب.

 

ليست مُصادفة

ليست مصادفة

أن يشمَّ أنفي كل صباح خمسَ روائح:

رائحةَ البُن

رائحة عوادم سيارات الدولة

رائحة “التبغ الأخضر”،

رائحة الدمِ،

ورائحة اللحمِ المحروق

من جسد “العملة المصرية”.

………………..

*الطبعة الأولى، دار البستاني للنشر والتوزيع القاهرة 2005

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني