ظلال هاربة

عادل الصويفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عادل الصويفي

(إلى روح محمد الأزرق)
سندَع الأداة “مَنْ” آمنة في سطرها؛ حتى لا تكون ثمة فتنةٌ مّا، وسندْعو غيرَ العاقل إلى حضرة القول، وسنقول من غير مخاتلة خالصة: ما الذي جذبك جدْبَ الحقّ إليه يا ملارميه، وأشعل فتيل رغبتك فيه؟! حتما ستجيب قائلا: عالم وحروف إدجار آلان بو.

وها أنت فوق مقعد في لندنَ تغوص في اللسان المعلوم، وتطلُّ شِعريا من “النوافذ”(1)، وتعلن عن “اقتحام صرح الأحلام”(2)، تغوص في اللسان فقط؛ لكي تقرأ ظلال آلان بو اللسانية بشكل أفضل…
وأنا هنا أمشي في إثْر زائرتي كارمين، وكارمين تمشي في إثر صديقتها سْتيل وفي إثري.
ستيل تحب أزهار بودلير، على حين تحب كارمين الأزهار القزحية فحسبُ.
لكرمينَ نظرات فأر فضوليٍّ صغير، تتبعني ببصرها، وحين تريد الرؤية أكثر..تقف كهذا الفأر الصغير تماما، هذا الذي يطلّ عليّ من هذا العشب المتشابك.
هذا العشب يسكن الحديقة، الحديقة الأليفة التي تشبه حيونا أليفا؛ فهي تذهب معي أحيانا بكامل جسدها الأخضر، ذي المشيَة العجيبة إلى حيث أشاء، هذا العشب يسكن الحديقة؛ منذ أن توفي البستانيّ الماهر وحل محله هذا الشيخ الجليل الذي يسقي كلّ صباح، كلّ ما في الحديقة من زهر وزرع وبَقْل وشجر وارسٍ وغير وارس…
هذا أسعد عشب رأيته، وهو فرحٌ بهذا الشيخ الذي يحاورهُ ويأنسه كلّ يوم، ويستريح في حضنه، كلّما أراد أن يتنشَّقَ سَعوطَه؛ فترى العشب قد أشْدَهَتْه نَفخَةُ الشيخ في بقايا النَّشوقِ فوق يده المقوسة حوَاليْ مُنْخوره، بعد أن استنشق جُلّ الكَومة البنيّة الناعمة ذات لون القِرفة(cinnamon).
كانت ثمة عمارة شاهقة الظلال ليس لها حيطان؛ بل لها أعمدة خضر، هي الغصون، ولها سقف من البراعم، وشرفات من اللّبلاب، كان ذلك قديما، وكانت العصافير تقصدها، وكذلك النّمل والسحليّات الكسولة، وكنت أنا أسمع نشيدا في الأعلى، وأسمع فيما يشبه الهمس العذْب: تعالَ واحمل إلينا ما تحبُّ ونُحبُّ..ليس معي عَدا “علبة الأسماء”(3)، قال محمد الأزرق(4) خذ الشّاي.. وعلبتك واذهب إلى الظلال، قلت له: لمَ تركت ظلك في “فندق الأمنية”؟! قال لي: لي أكثر من ظلٍ…
هل قصدت الظلال الشامخة أيها النادل، وفي يديك كأسين من الشاي، والعلبة تحت إبطك: كأس لكرمين وكأس لستيل ولكَ أنت لعنة الحب ومنادمة السحليّات الكسولة؟
يجيب طيف النادل: سل شارع “نيويورك” هنا، لا خلف بحر الظلمات في أرض بو أو في فنتازيته، وسيجيبك كم قذف-هذا المُسفَلتُ- من تنهيدة! وكم شاهد من ظل يذهب ويجيء وهو مثقل بالشموس والموت، ينوء بأصله ويموء حَوَالَ الغصون، غير بعيد عن العمارة والأحلام الشاهقة.
هناك “الوليمة المتنقلة” وغير المتنقلة تنتظراني، لقد تدبّرت أمر الأولى، وكانت كيتيمة في ثوبها الخَلَقِ، هي يتيمتكَ الحروفية الواحدة إليّ يا محمد.. وكانت “كولاج” مدينتي الحروفية الواحدة التي عانقتك وسافرت إلى شاطئك الأزرق، قبل أن تلجَ الصفحة المكتوبة من فيينا إلى النهاية.. أما الثانية فكانت هي المفرد المتعدّد في التناسخ من غير موعد.
وها أنا ذا..فوق مقعد من خشب الدّفلى الهشّ، لا أفكّر سوى في أن أفهم لسان كرمين أكثر..لذا أردت أن أدرس لغة مّا، أردت أن أدرس لغة مّا، فقط، لأفهم لسان كرمين أكثر..وأقرأ الشوق في عينيها الخضراوين.
طنجة/ 6-3-2023
……………………..
إشارات:
(1)قصيدة لستيفان مالارميه.
(2)قصيدة لمالارميه.
(3)رواية للشاعر والكاتب المغربي محمد الأشعري.
(4)أديب مغربي توفي سنة 2022.

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم