بولص آدم
استبطان الذات واستعادة الحلم عبر لغة السينما الداخلية
يشكل نص “سينما الفردوس: سؤال الحلم الأول” للشاعر والكاتب العراقي مروان ياسين الدليمي تجربة تأملية نادرة، تتداخل فيها الرؤية الفلسفية بالصياغة الشعرية، ويتجلّى من خلالها حضور لافت لما يمكن تسميته بـظاهراتية الخيال، حيث يصبح الخيال ليس مجرد أداة للهروب من الواقع، بل وسيلة لإعادة تشكيل الذات، وقراءة الزمن، واستنطاق الوجود. إنها قصيدة تتحرك داخل الوعي، لا خارجه، وتشتبك مع سؤال الحلم كجوهر شعري وفلسفي في آنٍ واحد.
الخيال بوصفه وعياً خلاقاً
يستند النص إلى مفهوم الخيال كما تصوره الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، بوصفه “الخيال الخلّاق” الذي لا يعيد إنتاج الصور، بل يولدها من جديد داخل الذات. وفي هذا السياق، لا تكون “سينما الفردوس” شاشة لعرض الماضي أو تأمل الحنين، بل شاشة ذهنية داخلية، تنفتح على شريط صور متحرك، لا يخضع للمنطق الخطي للزمن، بل يعيد ترتيب الذاكرة، والوعي، والحنين، والرغبة.
فحين يقول الشاعر:
“سينما الفردوس ليست في المدينة، بل في الرأس، في الهامش، في الذكرى التي لم تكتمل”
فهو بذلك يحوّل الفضاء السينمائي إلى استعارة للوعي، ويمنح الصورة المتخيلة وظيفة وجودية ـ معرفية، تتجاوز التسلية أو التأريخ، لتصير ممارسة روحية داخلية تسعى لفهم الذات في علاقتها بالعالم، وبأحلامها الأولى.
تجربة الوعي والزمن السائل
يعيد النص ترتيب العلاقة بين الزمن والذات. ففي مقابل الزمن الخطي الذي يتحرك نحو مستقبل غالباً ما يكون مغلقًا، يُستعاد في هذا النص “الحلم الأول” بوصفه لحظة مستمرة لا تنقضي، تسكن الذاكرة وتُعاد عرضها بصيغ مختلفة. وهنا يتقاطع النص مع تصور هوسرل وميرلو بونتي للزمن الظاهراتي، حيث لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بالتجربة الوجودية والشعورية.
إن عبارة: “الحلم لا يموت، بل يتكئ على ظله ويبتسم” هي بمثابة بلورة شعرية لجوهر الزمن الداخلي الذي يقيم فينا، لا في تقاويم العالم، ويتجلى في وعينا عبر الصور التي نعيد صناعتها لا كما كانت، بل كما نرغب في أن تكون.
الذات والآخر في مرايا الخيال
الخيال هنا ليس عزلة عن الآخر، بل حوار داخلي معه، من خلال استحضار الذكريات والمواقف والصور. فـ”الآخر” الذي يظهر في النص ليس كياناً مقابلاً للذات، بل جزء من تشكّلها الداخلي. يذكّرنا هذا بما قاله بول ريكور عن “الخيال السردي” بوصفه أداة لإعادة تشكيل هوية الذات عبر الآخرين المتخيلين أو المستعادين من الذاكرة.
وحين يقول الدليمي:
“في المقاعد الخلفية للصالة، نجلس نحن الذين لم يكتمل فينا الفقد”
فإنه لا يستعيد جمهور السينما، بل جمهور الداخل: الذوات المشروخة، المحرومة، التي تبحث عن مكانها في السرد، في الشاشة، في الحلم.
لغة الصورة وبنية العرض السينمائي
يمتاز النص بلغة تُحاكي بنية الفيلم لا القصيدة التقليدية. تتوالى فيه الصور، تتقاطع، تتراكب، كما في المونتاج السينمائي. وهذا خيار أسلوبي ينسجم مع طبيعة الخيال الظاهراتي الذي لا يعرض صورًا بطريقة سردية، بل بطريقة عرضية تتكئ على الفجوات والانقطاعات والترابطات الخفية. هكذا يتحول الشعر إلى سينما داخلية، والقراءة إلى مشاهدة تأملية.
تماسك الصور دون خنق الخيال
واحدة من أهم خصائص النص أنه يعتمد صورًا شعرية مُتماسكة ومفتوحة في الوقت ذاته. فهي لا تُقفل المعنى، بل تُهيّئ له فضاءً يتوالد فيه التأويل. وهذا ما يمنح النص شعرية عالية لا تنغلق على رمزية ثقيلة، ولا تتبخر في غموض مجازي سائب. الخيال هنا مقيد بحرية الصورة، ولكنه لا يختنق تحت وطأتها، بل يتنفس من خلالها، تماماً كما يفعل الخيال في نصوص رينيه شار أو أوكتافيو باث، حيث الصورة أداة توسع وليست حجابًا.
خاتمة: نحو خيال يعيد تشكيل الوعي
“سينما الفردوس: سؤال الحلم الأول” ليست مجرد قصيدة، بل تأمل كينوني في معنى أن نحلم، أن نتذكر، أن نرى. الخيال هنا ليس مرآة، بل عدسة: لا تعكس الواقع، بل تكسره لتعيد ترتيبه من جديد في ضوء الذات.
وبذلك، يؤسس مروان ياسين الدليمي لنموذج شعري فريد، يُمكّننا من أن نفكر عبر الصور، أن نختبر الزمن كمونتاج شعوري داخلي، وأن نعيش الخيال، كضرورة للوعي بالذات والعالم.
اقرأ أيضاً
سِينِمَا الفَرْدُوسِ: سُؤَالُ الحُلْمِ الأوَّلِ