عبد الهادي المهادي
ذهب إدريس رفقة أصدقائه ـ كعادتهم ـ لينبشوا في حصى الوادي القريب من حي “عْلِيْ بايْ” بحثا عن “الـبُّـومْـبَـاتْ” التي تجرفها المياه العادمة، والذي يكون في مثل هذه الأيام ناشفا تماما، فما أكثر المرات التي عادوا إلى حيّهم مساءً وجيوبهم مكتنزة بأنواعها المختلفة وألوانها المزركشة.
لم يكن يشتريها مطلقا، بل كان يغنمها أثناء اللعب في الغالب، أو يستحوذ عليها بالغش والحيلة، حتى اجتمع له منها ما كان يملأ بها قنينة بلاستيكية؛ العَطّومي، الجْزَايْري، البُولِـنْـشي..
ذلك المساء، كانت غنيمته وافرة، ليس من الكريّات الزجاجية، ولكن نقودا هذه المرة؛ فقد وجد عشرة دراهم “ورقه”… ورقة زعفرانية اللون !
ـ ألـدّْرَارييييي…… آآآآآآ ….. ألدراريييي جْبَرْتْ عشرَ الدراهم.
وأخذ يجري في كل اتجاه وهو يصيح كالمجنون !
في بداية الثمانينات كان امتلاك طفلٍ لعشرة دراهم… و”ورقة” فوق ذلك، يُعدّ مُعجزة وثروة حقيقية!
اجتمعوا حوله يربّـتون على ظهره و كتفيه، ويُسمعونه حُلوَ الكلام ..
قال أفطنهم: ألدراري اتَّـفَـاقْـنا يَاكْ.. اللِّي جْـبَـارْ شِي حَاجَه فْالـنُّـصْ.
كان ذلك من ضمن أعراف الصّداقة وتقاليدها، فلا يستطيع تغييرها أحد.
عندما نشرها أمامهم بفخر، بدت ملطّخة بالزّفت الأسود، كان وجه الملك مغطًّى بكامله.
أول ما فكروا فيه جميعا، وكأنهم على اتفاق، التوجّه مباشرة إلى “خاي احمد دْ الـبِّـيـلات” لشراء “بوكاديـوس”.
المُستخدَم الماكر رأى أمامه أطفالا صغارا في غاية السذاجة والوساخة فطمع فيما بين أيديهم، لأنهم مدّوا له بالنقود قبل أن يكشفوا عن طلبهم.
ـ شُوفْ ـ قال بتثاقل ـ هَادْ الفلوس مَكَـيْـمْـشِـوْشي، حيت موسخين بزااااف. مدّ بوزه إلى الأمام، و رفع حاجبيه إلى الأعلى دلالة على الأسف.
وعندما قرأ الحزن في وجوههم، تابع في خبث: ولكن نْـقْـدااار نْعْطيكُم جُوجْ دْ البوكاديوس، و رفع أصبعيْه أمام أعينهم الصغيرة .
قَـبلوا بسرعة، والفرحة تكاد تفجّرُ قلوبهم البريئة.
على عتبة باب المنزل المقابل، جلسوا يلتهمون ما كانوا يعدونه حُلما… وهم يُمَنّون النفس بطول لحظتهم.
المشكلة، أن أحد أصدقائه الذين أكلوا معه “الـنِّـعْـمَـة” كشف لوالدته تفاصيل ذلك “الحفل”، وهي بدورها أوصلته طريا لوالدة إدريس بينما كانتا تستقيان الماء من “السّانية” دْ الحومة.
“حْـبَابي” فاطنة ـ كما ينادونها ـ كانت تخشى أنه سرق العشرة دراهم من البيت، فأرادت تنبيه جارتها لَلّارْحيمو للأمر.
مازال يذكر أن الوقت بالضبط، كان مغربا، لأن أذنه قُرصت بشدة مع ارتفاع الآذان.
ـ جْبَـارْتي الفلوس حْتى وْلِّـيـتِي كَـتْـخَـلّْـصْ على صحابْك.. ! نَهرته والدته بنبرة غاضبة، ولكن بخفوت، فلم تشأ أن يسمعها أحد من إخوته، أو يصل الأمر إلى والده، فتحصل المصيبة الأكبر.
مُطأطأ الرأس، والدموع تزدحم في عينيه، شرح لها الحكاية كما حصلت تماما… كان في طفولته برييييييئا جدا إلى حد السّذاجة، وإلا لما صرخ لحظة وجد العشرة دراهم!
عاقبته أمّهُ على خطأ تبديد ثروة صادفته، ولكنها فيما بعد أكبرت فيه كرمه وشجّعته عليه.
……………….
* كاتب من المغرب