د. محمد السيد إسماعيل
بات من المعروف تماما ، أن عمار على حسن مثقف موسوعي، لكن اللافت – وهو معروف أيضًا لمن يتابعه- أنه مبدع موسوعي ، فقد كتب في كل أجناس الأدب : الرواية و القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا أو ما يمكن أن نطلق عليه ” القصة الومضة ” التي تقابل ” الأبيجراما” في الشعر والمسرح الذي استدعى فيه شخصية ” ابن خلدون” والشعر الذي أصدر فيه ديوانين ، ثانيهما يحمل عنوان ” غبار الطريق ” وهو موضوع هذه القراءة الذي تجلى فيه أثر الموهبة السردية الكبيرة التي يتمتع بها عمار علي حسن سواء في السرد الروائي أو القصصي أو السيري.
فالديوان يقدم بنية سردية متخذة من الرحلة من صعيد مصر إلى القاهرة متنًا لأحدثها ، ومن هنا يصبح ” قطار الصعيد “
بوصفه مكانا متحركًا واصلًا بين الجنوب والشمال – إحدى العلامات المائزة وكثيرة التردد داخل الديوان ، وهي علامة تتماهى مع من بداخلها أو تصبح معادلًا موضوعيًا لهم ، يقول – منذ البداية – ” قطار الصعيد / قافلة مجهدة / تمشي تحت جناح شمس ذابلة / فتجرح الأصيل “.
هذه البداية التي تشبه قطار الصعيد بالقافلة المجهدة ، وتصف ذبول الشمس وجرح الأصيل ، تفتح الباب واسعًا لرحلة طويلة من المعاناة تشمل حياة فلاحي الصعيد واغتراب الشاعر / السارد في القاهرة.
ولا شك أن اختيار ” دودة ” الغيطان التي يقتلها الفلاح تعد قصة إليجورية موجزة دالة على تيمة القتل عامة ، يقول الشاعر مصورًا هذه الحالة ” تتلوى على حديد فأسي / دودة واحدة / من الأرض إلى الموت خرجت وأنا أتابعها / بأشواق زائدة / وزاد السبيل / قاتلًا مبصرًا كنت / ضحية عمياء كانت “
هذه التيمة لاتصدق – فحسب – على دودة الأرض العالقة بفأس الفلاح ، بل تمثل قانونًا عامًا يحكم الديوان كله، فهناك – دائمًاا- قتل مجاني ، يعبر دون حساب لأن القتيلة أو القتيل لاثمن له ، وذلك بعد انطفاء البريق الذي – من شأنه- أن يفضح تلك الجريمة ، يقول الشاعر ” بريق ما إن يسطع حتى ينطفيء / فلا يفضح جريمة بائدة / وقعت عند الضحى العالي / لكن مرتكبها ينجو / لأن القتيلة لا ثمن لها “
هذه العلاقة التي يصفها الشاعر بالجريمة تأخذ في موضع آخر بعدًا اجتماعيًا حين يتحول خير الفلاح البسيط الأجير الذي حصل عليه بعرقه إلى أسياده الذين يسكنون القصور كما يبدو في قوله ” سعي فاق الحد / في رحاب المستحيل / فجهدي لهم ساعات / وعرقي لي ثوان ” فشتان بين ” مؤجر وأجير / وبين شامخ وكسير” ، وفي موضع آخر يقارن بين ” طين الغيطان ” في قرى الصعيد و” أسفلت الشوارع ” في القاهرة ، التي تبدو ” مدينة بلا قلب ” كما وصفها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي وهو ما استعاره شاعرنا – عمار على حسن – في أحد السطور ، يقول موضحًا المفارقة بين القرية والمدينة ” طين الغيطان غير أسفلت الشوارع / الحقول ليست الساحات / القرى تدير ظهرها للمدن / أنا هناك غير الذي أكونه هنا ” هذا التناقض الذي يجعل الحياة مثل غابة يتصارع فيها البش 0ومن الصور اللافتة التي تعبر عن هذا المعنى قول الشاعر ” دودة حديد تجري / وأخرى تنخل التراب في عجل / أو على مهل / تدهسها أقدام لاهثة / أو تأكلها فؤوس جائعة ” والحق أن تشبيه القطار بدودة حديد منطلقة هي صورة غرائبية لكننا نستطيع فهمها بتأمل من في القطار من بشر معدمون مقهورون.
وتستمر هذه الصورة – بدرجة أقل غرائبية – في قوله ” دود أرض ضئيل / وآخر ثقيل / يغرس الأول قدمي في طين / يحملني الثاني إلى حيث أنظر ” فالأول – دود الأرض- يؤكد انتماء الشاعر لأرضه وناسه بينما الثاني يدفعه إلى استشراف المستقبل الذي ينظر إليه ويسعى نحوه.
وفي إيجاز شديد موح يوضح الفرق بين الأول والثاني حين يقول ” دود يموت وآخر يميت ” ومن الطبيعي أن يقوم الشاعر بأنسنة القطار كما يبدو في قوله ” قطار الصعيد / يمضي حافيًا / كأقدام من يتطلعون إليه في الزروع ” فالشاعر دائم المقارنة بين هذا القطار وأبناء الصعيد فهو ” أجرب مثل ملابسهم الكالحة / ضيق كعيونهم التي أكلها الانتظار”
وفي موضع آخر لاتدري هل دودة الأرض هي التي تتحدث أم أحد أبناء الصعيد المتمسكين بأرضهم حين يقول ” أنا دودة تبقى / الأرض لي / أرعى مطمئنة / لأني لست موعودة بالسفر / لاتعنيني قطارات الضحى المسافرة / ولا تلك التي تزجر عجلاتها عند الظهيرة “
إنها متمسكة بالأرض ولا يعنيها استشراف المستقبل أو رسم حياة مغايرة
وهذا على خلاف ما ينشده الشاعر الذي يصف نفسه بأنه ” قطار من لحم ” لا يعبأ بالقطارات الحديد التي تمرق طوال الليل لا لشيء إلا أنها غير عابئة بأشواقه ورغبته في مستقبل مختلف ، لهذا تخايله القاهرة دائمًا فهي ” القاهرة الماهرة / في اصطياد أحلام الساعين إليها غافلين ” لكن الكثيرين من ” أصدقاء القمح والدود / ومالك الحزين / لايرونها إلا علبة ليل وضجيج / وقتل على مهل ” ومن الطبيعي أن يؤنسن الشاعر – كما فعل مع قطار الصعيد – هذه المدينة حين يجعلها تتحدث عن تناقضاتها حيث يقول على لسانها ” أنا القاهرة / السخية الضنينة / العابثة الرزينة / …./ في سبيل بلوغ بناياتي الشاهقة / يلمثون عتباتي / يتيهون في شوارعي / يقرأ الذين يعرفون منهم ديوان ” مدينة بلاقلب ” / ويسألون عن السيدة ” وفي السطرين الأخيرين إشارة إلى ديوان أحمد عبد المعطي حجازي ما ذكرت من قبل ، وإشارة إلى قصيدته ” الطريق إلى السيدة “
وفي موضع آخر يتناص بالمغايرة مع قول أمل دنقل في قصيدته ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ” حين يقول مخاطبًا إياها ” أيتها العرافة المقدسة / جئت إليك مثخنًا باللعنات والدماء ” فيقول عمار علي حسن على نفس البناء الإيقاعي واللغوي ” أيتها المدينة القاسية / جئت إليك متعبًا في قطار الصبح “
ولاشك أن الحس الاجتماعي وقيمة العدالة الاجتماعية من القيم الأساسية في مشروع عمار السردي والشعري والفكري ناهيك عن القيم الأخرى التي يزخر بها هذا المشروع ، وقد اتضح ذلك في الشواهد السابقة حيث يكرر الحديث عن فلاحي الصعيد وقهرهم هناك ، وتشرد واغتراب من يرحل منهم إلى القاهرة جتماعي يظهر بجلاء في قوله ” زراير من صفيح وأخرى من ذهب / والناس بين المنتجعات وبيوت الصفيح / بين القصور والعشش “
ولكي يتم تبرير وتثبيت هذا الوضع الجائر لابد أن يتدخل فقهاء السلطان لكي يرجعوا هذا الجور إلى المشيئة الإلهية ، حيث نجد من يقول لهم ” إن ماهم فيه قضاء / وأن الفسيحة السماء / وزعت كل شيء منذ زمن سحيق / فالأسيد أسياد والعبيد رقيق / والطريق طويل / يقول لهم شيخ الجامع / وكبار القرية الصغيرة / يهزون رؤوسهم له مصدقين ” ولا بد أن يكون كبار القرية هم أول المصدقين وربما آخرهم ، وأن يتمرد الفقراء على هذه الرؤية ، ففي ” ساعة الأحلام التي تراودهم في الليل البهيم / ينسون فيها كل ما سمعوه / يقطعون الألسن التي نطقت به “
والديوان – بصورة عامة وكما ذكرت – هو تصوير شعري لسيرة الشاعر الذاتية ، حيث تبدأ من صباه المبكر كما يبدو في قوله ” صرت تلميذًا يكبر / تنام الأيام تحت إبطه / وعليه يطل حزام الحقيبة / مثقلة بالكتب “
والطريف أن حلم السفر إلى القاهرة كان يراوده منذا هذا الصبا فيصنع قطارًا ” من بوص ومن جريد / ومن طين الترع التي غار ماؤها ” حتى أصبح ” بوسعه / أن يركب عربات الحديد / يرسل ناظريه من نافذته / بحثًا عن أبيه الراكع هناك بين الزروع “
والحقيقة أن ” الأب ” يرد كثيرًا داخل الديوان ، وقد لاحظنا ذلك في السيرة الذاتية الصريحة التي كتبها الشاعر تحت عنوان ” مكان وسط الزحام ” ، يقول في بعض سطور هذا الديوان ” لايصدق أبي لحظة الوداع / حيث أقف منتظرًا بمحطة القطار / في ربعة النهار / وأول الضياع ” فالأب الجنوبي يرى في ابنه امتدادًا له لابد أن يكون دائمًا بين يديه
فلم تكن الفردية قيمة محببة في الجنوب إذ لابد من الانتماء للجماعة ، وربما يفسر هذا شيوع الحديث بصيغة الجمع في الكثير من سطور الديوان ، وهو مايشير إليه الشاعر صراحة في قوله ” الصامتة الواقفة بعيد العصر / وقبيل الغروب / ليست واحدة / هي أنا وأنت وكل الذين ينظرون إلى البعيد “
لكن هذا التفكير الجمعي لم يعرف التعصب الديني ، فهناك انفتاح على كل الديانات التي تجمع بين ” المعبد والكنيس والكنيسة والمسجد ” وليس من الطبيعي أن يتصارع أصحاب تلك الديانات لأنها من مشكاة واحدة واحدة ، والإنسان نفسه ضعيف وأكثر نقاط ضعفه أنه ” لايعلم ما سيجري له بعد دقيقة واحدة ” وحتى ” السلاطين والملوك لايعلمون / لكن أغلبهم لا يتوقفون عند هذا قليلًا / يمضون عميانًا كأن كل الأيام القادمة ملك يمينهم / …/ يجلس الملك ليضع خطة إبادة دولة كاملة / بعدها يلفظ أنفاسه” ولاشك أن تشبيه الشاعر للإنسان الفقير بالدودة دليل هذا الضعف ، فالدودة ” تسعى على قوتها الضئيل / من رماد الفجر حتى سواد الليل الأول / فوقها من هو مثلها / آدمي يأكله الوقت نفسه حتى يملأ بطنه “
إن الديوان في عمقه دعوة صادقة إلى العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان والمحبة الجامعة للناس على اختلاف معتقداتهم
************************
نقلا عن موقع “ذات مصر”