طارق إمام
في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من سبتمبر سنة 2005، وبينما كان محمد حسني مبارك يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلسي الشعب والشورى، رئيساً لمصر لفترة رئاسية خامسة مدتها ست سنوات قادمة (لن يُكملها)، طار أول شخصٍ في الإسكندرية، حسب رواية عنوانها “طيران”، كتبها “محمد أ. جمال” وصدرت مؤخراً عن دار المحروسة بالقاهرة.
في العام نفسه أجريت انتخابات “مجلس الشعب”، والتي أسفرت عن دورة استثنائيةٍ أيضاً، حيث أفسح النظام للإخوان احتلال كتلة ليست بالقليلة، بلغت 88 مقعداً. إنها الدورة نفسها التي أعيد فيها ترشيح “جلال أبو العز” كنائب ضمن حزب الأغلبية، وهو والد “سندس”، أول فتاة تطير في الإسكندرية، حسب الرواية نفسها.
ومثل “علمانيي” السلطة في ذلك الوقت، فإن النائب البرلماني كان يُنهي مناوراته السياسية “العلمانية” ، ليستضيف الدراويش في بيته، تيمُّناً والتماساً للبركة، في حضراتٍ وذكر، تنتهي بمائدةٍ من اللحم والأرز بالمكسرات. وحيث ستتعرف “سندس” على نفسها عبر أحد هؤلاء، “طارق”، الزاهد المتخفف وربما العدمي، الذي، ربما، سيمنحها أول الخيط للمعارضة، وربما لذلك لن يلبث أن يختفي.
هكذا، تلتفت رواية “طيران” من اللحظة الأولى للمرجعية التاريخية في عناقها بالتخييل، باختيار تاريخ دال، حتى وإن لم تُشر لسياقاته داخل النص، تاركةً إياه أقرب لتاريخ عفوي أو مرتجل، يوهِم بأن المؤلف اختاره عبثاً ودون قصد. (الروائي نفسه أخبرني أنه لم يكن يعرف قصدية التاريخ، وسأحاول أن أصدِّقه). ليس هذا التاريخ حاسماً لذلك السبب فقط، بل لأن ذلك العام كله (2005) كان بداية النهاية في حقبة مبارك، بتغيرات جذرية في الواقع، وبسطوع مثير لآلية إعلامية وسياسية جديدة هي وسائل التواصل التي كانت المدونات بؤرتها، حيث بدأت تُحرك المشهد السياسي الموازي نفسه، بآلياتٍ جديدة لم تفطن لها السلطة الشائخة في ذلك الحين، وسيكون فيها في ما بعد مقتلها. “المدونة” في “طيران” بطلٌ أساسي، فمنها ستنطلق ثورة عجائبية تقض مضجع “البلد” كله، على يد أول فتاةٍ طارت في المدينة.
هكذا ترسم “طيران” خريطتها: ثمة سلطة تغرس ساقيها أعمق في الأرض في سنةٍ سياسية مشحونة، يقابلها فعلُ طيرانٍ جماعي في مدينةٍ مأزومة. ثمة ثقل تناوئه خفة، غرسٌ يقابله اقتلاع باتجاه الطفو. من هُنا تتشكل “طيران” كرواية عمودية، في أفقها وتقنيتها معاً. وهي إذ تحصر جغرافيتها في مدينةٍ دون غيرها، مانعةً حدثها من التمدد الأفقي جغرافياً، فهي أيضاً تُبئر تقنيتها على رصد هذا التوتر بين ثنائية أعلى/ أسفل، وهي في العمق ثنائية الفرد/ السلطة، سواء أكانت السلطة القابعة في السماء هي سلطة الساسة أو الآلهة.
***
للمفارقة، فإن فعل الطيران، المناهض للسلطة، خرج من رحم هذه السلطة بالذات، من فيلتها الفخمة وفراشها الوثير حيث تحيا “سندس”، أو “رشا”، أو “شيري”، والأسماء الثلاثة لفتاة واحدة، ستصبح “كاهنة النورس الأم روح الوجود”، وفعل المقاومة الرئيسي في الرواية، على ذهانيته وعبثيته وخفته العدمية.
شيري هي الثمرة الخالصة لأسرةٍ قابضة على مقدرات السلطة: تشريعياً وتنفيذياً، ففضلاً عن كونها ابنة لعضو مجلس الشعب آنف الذكر، هي أيضاً أخت الرائد، ثم المقدم “معتز”، رجل الداخلية الذي سيصبح بطلاً حين ينجح في قمع ثورة تتزعمها شقيقته نفسها.
السلطة تنتج أيضاً “إسماعيل جراية”، الذي سيصبح “إسماعيل طيارة”، ثم “إسماعيل صنايع”. هو أول من طار بالترتيب الحدثي للنص، وإن لم يكن أول من فعلها بالترتيب الزمني لما يفترض أنه الواقعة التي تنقلها الرواية. “جراية” هو الرجل الراكض بالعصا خلف أي محاولةٍ لمغادرة السجن المدرسي أو التسلل عبر السور، الذي ليس سوى شريحة من السور الأكبر الذي يُحاصر الجميع، متهدماً ومفتوقاً لكن لا سبيل للتسلل عبره.
ستختفي شيري، وسيُحبس إسماعيل. شخص واحد سيبقى حراً، هو وليد، الذي يكمل ثالوث ريادة الطائرين. وليد الذي لم ينتم لأي سلطة، بل إنه مقاوم أصيل للسلطة المدرسية (التي يمثل إسماعيل أحد رموزها)، هو أول من طار، وللمفارقة، فهو الوحيد الذي ينجو.
لكن هذه الشخصيات الثلاثة ليست سوى بؤر في بحر من الشخصيات، تملك كلٌ منها روايتها داخل الرواية، ومحكيتها الموازية في القلب من المحكية الأشمل. وهنا يتحقق قدرٌ من وعورة المغامرة السردية لمحمد جمال في عملٍ صعب، حافظ بأعجوبة على إحكامه حتى النهاية.
ثمة راوٍ يتقمص حركة الطائر نفسه في روايةٍ متوترةٍ بين الأرض والسماء، لينقل الأحداث بعين طائرٍ تبدو ارتجالية، إذ يوحي دون هوادة بتنقل عشوائي بين الشخوص والمحكيات المتماسة/ المتقاطعة، في مشهد متسع، وهذه هي بالفعل حركة الشخصيات وإيقاع الأحداث المتقاطعة في نصٍ لا يخلو من طموحٍ بانورامي. شخصيات كثيرة، تظهر وتختفي، بعضها قد يطول غيابه لعشرات الصفحات حتى. السرد مرهون بهذه العين، ولا وجود لبطل دون آخر، الجميع أبطال، والجميع “مجاميع”.
المؤلف نفسه حاضر في هذا النص، مخلخلاً الإيهام كلما أحكمه. وانطلاقاً من “المقدمة” المخفورة باسم المؤلف، إذ تؤكد أن ما هو قادم “واقعة تاريخية”، أي لا تنتمي للتخييل، حوَّلها انتفاء الأدلة، رغم أنفها، لنصٍ فني. سيظل “المؤلف” يظهر كل حين، معقباً على ما انقضى من متخيل، كأنما ليُذكِّر بأن كل إيهامٍ منذورٌ لإفاقة، في نصٍ “ميتا سردي” بامتياز.
***
بنفس قوة إحالتها للسياق التاريخي، تحيل “طيران” لسياقها الأدبي، تُعانق ذاكرتها النصية دون احتشام. ومثلما تحاور المرويةُ الذاكرة السياسية/ الاجتماعية لمصر، فإنها تحاور الذاكرة الأدبية نفسها، ما أراه عنصراً أصيلاً في أدبية هذه الرواية، بل وتصورها الخاص لطبيعة الخيال الأدبي”.
هناك، انطلاقاً من الإهداء، “إيكاروس”، ضحية الطيران في الميثولوجيا الإغريقية. لكن الشمس التي أذابت الجناحين الشمعيين هناك لن تعثر هنا على أجنحةٍ حتى، ليشمل فعل الإذابة الجسد كله هذه المرة، وقد صار بمقدوره التحليق دون حتى استعارة عضو طيري. الخارق هذه المرة هو العادي، وهو ليس رهناً بشخص، لكن بملايين الأشخاص، لا يحتاجون مزيات الميثولوجيات كي يطيروا، يكفيهم فقط أن يكونوا سكندريين. إنه الاشتجار النصي الأول لهذه الرواية، والتي تبدو كأنما أهديت إلى شخصٍ كي تُخرج لسانها لأسطورته، حيث: “مُحلِّقو الإسكندرية لم يكونوا إلاَّ بشراً عاديين ضعفاء، بلا أهمية ملحمية”.
فتاة تطير: ليس الأمرُ بحاجةٍ لحصيف كي تنبعث “ريميديوس” المحلقة في “مائة عام من العزلة” لجابرييل جارثيا ماركيز. بل إنها تغدو البطلة المفردة للغلاف من بين جميع الطائرين في الرواية، كأن الغلاف تأكيدٌ مبكر على التهمة الجاهزة.
لكن، بالغور في كلا الفتاتين، نكتشف ما هو أعمق في قصدية ما أُسميه “إعادة تدوير الخيال”، فـ”سندس” محمد جمال تتصادى في عمقها كشخصيةٍ روائية مع “ريميديوس” ماركيز، لا تقل عنها اختلالاً وذهانية، مثلها تنتمي لعائلة من الجنرالات مخفورة بالعظمة والأبهة في مدينةٍ محتقنة ومرتدة لبدائية العالم، مثلها منبوذة من السياق المحيط، مثلها رافضةً أن تكون زوجة لأحد المنتمين لطبقتها المالية والسياسية، ومثلها كانت ترى العالم “ولا حاجة”.
الرواية لن تخلو من إحالةٍ صريحة لنص ماركيز بأكمله، وإن بصيغة “بارودي”، محاكاة تهكمية، حين يأتي الضباط للقبض على “إسماعيل طيارة”، حيث تعاد صياغة المدخل الشهير لمائة عام من العزلة في سياق بالغ الهزلية، يُستبدل فيه الكولونيل بعامل المقهى، وفكرة التحرر القومية باقتيادٍ كاريكاتوري في مدينةٍ تلهو: “بعد سنواتٍ طويلة، وبينما يهرب من القفص، سيتذكَّر إسماعيل طيارة ذلك المساء البعيد الذي جاء الجنود فيه ليأخذوه من مقهاه المرتجل على سطح بيته”.
يواجه محمد جمال ما يمكن أن أدعوه بـ”الخيال المستعمل”، ليعيد تدويره بخفة المزاح في نص مواربات سياسية/ أدبية لا يصعب أبداً فضها وردها للمرجع. والسخرية أداةٌ رئيسية في هذه الرواية من أجل تحقيق محاكاة هزلية لواقعٍ ثقيل ومتجهم بل وخطر. نستطيع أن نعثر في مقدم البرامج “عمرو الشربيني” على “عمرو” آخر، بنفس الصلعة والصوت الجهوري والسوقبة والخطاب السياسي الشعبوي، نستطيع أن نعثر في شيخ المسجد على أسلافه من الشيخ كشك وحتى عبد الله رشدي، نستطيع التعرف في الكاتب السكندري الشهير المقيم بالقاهرة على نظيرٍ نعرفه، ونستطيع في الاجتماع الوزاري لبحث قضية الطيران العثور على كافة الوجوه السياسية ل 2005، وإعادة شحنها بالأسماء والمواقف التي لم تغادر بعد ذاكرتنا القريبة.
ويجب ألا ننسى أن الرواية التي انطلقت من الإصغاء لصدى التخييل الماركيزي، انتهت بالإصغاء لتخييل ساراماجو، ليصبح سطرها الأخير “وفي اليوم التالي، لم يطر أحد”، نسخةً محرفة من السطر الأول في “انقطاعات الموت”: “في اليوم التالي، لم يمت أحد”.
التناص الناصع ليس بحاجةٍ إلى توضيح، لكنه يتجاوز الجناس التعبيري إلى الفرضية الأشمل التي تُمسك، وفق القانون نفسه، بعالم الروايتين: “ماذا لو…..”. “ماذا لو هُيء للبشر الخلود؟”، والتي لا تختلف كثيراً عن “ماذا لو هُيء للبشر الطيران؟” في الروايتين ينهض المزج بين الواقعي والخيالي، السخرية اللاذعة، الاشتباك بالسياسي، حيث، في أعمق نقطة من المحكيتين، النص الروائي وهو يخرج لسانه للسلطة، يسخر منها ويمثل بها ويحوِّل ثقلها إلى خفةٍ كاريكاتيرية.
تنتهي “طيران” بمشهدٍ قيامي، تفشل فيه السلطة في تحويل واقع الطيران إلى عرضٍ مسرحي. أن يتحوّل الواقعُ إلى عرض: إنه بارودي آخر عميق لأشد الآليات قمعية، بتحويل الواقع إلى نص. تستخدم السلطة آليات الفن نفسها، لكن من أجل الغرض العكسي بالضبط، ففيما يفعل الفن ذلك بحثاً عن حقيقة الفرد في وهم الوجود، تنفي السلطة الفرد لتأكيد أن ما تطرحه من تصور عن العالم هو الحقيقة المطلقة.
تصل “طيران” إلى الفوضى وهي تغمر كل شيء، لكنها تستعيد النظام بمنطقٍ شكسبيري، حيث يعود العالمُ لاتزانه السابق، وحيث السلطة هي الشرعية التي لا سبيل للخروج عليها. وكأن “طيران” انتبهت لوعورة الأمل، لتنتهي بيأس الأدب حين لا يريد لنفسه تبشيراً: سيعود السكندريون مشَّاءين، وستتحول الواقعة التاريخية، بالكاد، إلى حكايةٍ فانتازية يستحيل أن تُصدَّق خارج “الأدب”، ذلك أنه لم يعد من دليلٍ عليها سوى شاهدٍ وحيد لن يصدقه أحد.