حاوره: صبري الموجي
خسرته دورُ العرض السينمائي والمسرحي؛ لتكسبَه الساحةُ الأدبية شاعرا من أبرز مَنْ كتبوا قصيدة النثر في جيل التسعينيات.
مَزجتْ دواوينُه بين العامية والفصحي؛ ليُثبت أن التجربةَ هي التي تختارُ شكلها وليس المُبدع. لم ينغلقْ إبداعُه علي جنسٍ أدبي واحد، فرغم كتابته الشعر، وتعدد دواوينه، التي من بينها: ( احتمالاتُ غموض الورد، مِيت خيال، كمان وحيد، ناقص حرية، إسكندرية يوم واحد، كل ما فعله دوستويفسكي، واختراع هوميروس) إلا أنه كتبَ في النقد الفني، فظهر له كتاب “الأغنية المصرية الجديدة.. مساحاتٌ مُضيئة”، و”علي الحجار .. سيرةُ الغناء وسيرة المسرح”، وغيرهما”، تُرجمت حلقاتُه عن بديعة مصابني إلي الإنجليزية. يتنوع إبداعُه، ولكن يبقي الشعرُ هو الفنَّ الأثيرَ إلي قلبه .. مع الشاعر طارق هاشم كان هذا الحوار .
تباينت الآراءُ حول قصيدة النثر فاعتبرها البعضُ نوعا من أنواع الشعر لاشتراكها معه في الصور والأخيلة والموسيقي وغيرها، واعتبرها آخرون بِدعة غريبة أشبه بسجع الكهان ومَقامات الهمذاني والحريري ورغما عن هذا فضَّلها الشاعر طارق هاشم علي صور الشعر الأخري .. سبب ذلك ؟
إن اختيار قصيدة النثر لم يكن اختيارا عشوائيا لديَّ بل جاء بعد المرور بمحطات أخرى عَبرَ أشكال الكتابة الشعرية، فالبداية كانت منذ الصغر عبر الشدو والغناء والايقاعية، مرورا بالشعر التفعيلي من أجل الوصول الى الطريقة الأقرب إلى روحي، أو الطريقة التي يُمكنني من خلالها أن أقترب من عالمي بدقة، وقديما قال “بول فاليري” : يا ناثانيل أُوصيك بالدقة لا بالوضوح، وقد لا تُسعفك الأشكال الأخرى في حالات كثيرة، فقصيدةُ النثر ليست نبتا شيطانيا بل هي استكمالُ مشروع، فنحن دائما نبحث عن الصيغة التي يُمكننا من خلالها أن نقول أنفسَنا بصدق بعيدا عن الافتعال أو الصرير اللغوي أو الايقاعي الذي تضطرنا إليه الأشكالُ الأخرى. اخترتُ قصيدةَ النثر كي أكتب نفسي، اخترتُها كي لا أخدع الآخرين، اخترتُها لأنها الأقرب إلى روحي، ولأنها الشكل الأكثر اتساعا في استيعاب ما نقول، وفي النهاية المعنى هو البطل .
رفضَ البعضُ مُصطلح (قصيدة النثر) واعتبره مُصطلحا فاسدا لِجَمعه بين نقيضين (القصيدة، والنثر).. رأيك في ذلك؟
المُدهش في هذه النظرة أنها تتجاهل أن قصيدة النثر أصبحت واقعا وتجاوزت معارك البدايات، فمنذ أكثر من سبعين سنة، أي منتصف الأربعينيات، جاءت مدرسةُ الشعر الحر على أيدي صلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، ولاقت ما لاقته من هجوم لكونها تمردت على عمود الشعر إلا أنها استمرت وأنتجت تجارب عظيمة لمن لحقوا بها مثل أمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي وآخرين، لذا كان من الطبيعي أن تظهر قصيدةُ النثر كحلٍ آخر أو رؤية جديدة للشعر، فالتغييرُ دائما ما يجد أعداءه، والتطورُ الحقيقي من وجهة نظري أن نترك التجارب حتى نرى ما تصل إليه من نتائج.
إن مُحاكمة التجارب أيَّ تجارب في المهد قد يجعلنا نخسرُ الكثير فإذا كان هناك قانونٌ يمكنه أن يقدم صورة لأيِّ عمل أدبي أو مصنف فني فلـكن الحرية، حرية الإبداع هي الهدف الذي يحلُم به كلُّ مبدع أو فنان، وأذكر هنا ما قاله طه حسين إن الحياة العقلية أخذٌ وعطاء، ولا يستقل أدبٌ بذاته إلا في عصور الانحطاط .
هناك من الغرب كـ(إليوت) ومن الشرق كـ (العقاد) مَنْ رَفَضَ تعبير (الشعر الحر)، حيث اعتبرا أن الحرية ليست هروبا من الوزن إنما هي السيطرة عليه وإتقانه .. فما هو مفهوم الشعر عند طارق هاشم وهل تُوافق علي مصطلح (الشعر الحر)؟
اسمح لي أن أسجل اندهاشي لما قاله إليوت، وذلك لما عاناه هو نفسه من هجوم وعداء لاحدَّ له، لدرجة أن هناك من وصف رائعته “الأرض الخراب” بأنها هذيانُ عبدٍ مخمور فأن يقول ذلك فهذا أمرٌ غريب، أما بخصوص العقاد فرأيُه ليس غريبا عن شخصيته فبرغم أنه من المثقفين الكبار، وأصحاب الإنجازات الكبرى على مستوى الإنتاج إلا أنه لم تكن لديه مرونةٌ طه حسين مثلا فلو اتخذنا ما قاله العقاد واستخدمناه كمعيارٍ لما أصبح لدينا تجربةٌ بحجم صلاح عبد الصبور . أنا مع حرية الشعر، مع التجديد والمرونة، ولستُ مُنشغلا بالتصنيف، فالشاعر إذا كان موهوبا حتما سيُسمع، فالموهبةُ لا يمكن التآمر عليها لأن رائحتها حتما ستفوح .
حدثنا عن عوامل الدهشة وبدايات فَورة الشعر عندك؟
انا ابنُ حي حدائق القبة، وهو حيُّ نشأ فيه الكثيرُ من الشعراء والمبدعين فمن أحمد رامي وجورج أبيض إلى أسماء أخرى كبيرة. في هذا الحي عَرفتُ الكثيرَ، فالطفلُ الذي عاش بالقرب من استوديو جلال وسينما “الهونولولو”، وسينما الحدائق، وسينما ومكتبة قصر ثقافة نجيب الريحاني، ومكتبة حدائق القبة العامة وغيرها من الموارد الإبداعية، كلٌّ ذلك كان محل دهشة، أحببتُ القراءة والسينما والموسيقى والمسرح، وقبل الكتابة كنتُ أحلمُ بالتمثيل، وحين ذهبتٌ الى فريق التمثيل بالقصر، قدمتُ مشهدا من مسرحية “ليلى والمجنون” لكن في هذه المرة كانت ليلى والمجنون من تأليفي، كانت محاكاة لنص شوقي، من يومها وأنا لا أترك القصر، كانت مكتبةُ القصر هي الملاذ الآمن، ساعتها اكتشفتُ أنني لستُ مُمثلا، بل الشعرُ هو الأقرب لي.
في مكتبة حدائق القبة العامة قرأت دوستويفسكي في طبعته الأولى، وفي الستينيات كانت دارُ الكاتب العربي هي أول من طبع الأعمال الكاملة بترجمة القدير سامي الدروبي، كما قرأتُ صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حدَّاد، وكان أول لقاء لي مع بيرم التونسى من خلال أعماله الشعرية التي طبعتها مكتبةُ مصر كما عرفتُ أمل دنقل، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط، وأسماء أخرى كان لها اليدُ الطولي في محبتي للشعر من يومها اخترت القصيدة .
تتنوع إبداعاتك بين نقدية وشعرية.. فلماذا الإصرارُ علي الشعر الذي فاقته أجناسٌ أدبية أخري ولم يعد ديوانَ العرب؟
مسألة أن هناك أجناسا أدبية فاقت الشعر وأنه لم يعد ديوان العرب دعني أؤكد أن هذه المقولة ليست دقيقة، فالفنون تتكامل وعلى المبدع أن يستفيدَ من كافة الأشكال الأدبية، فإذا كان الأمرُ كذلك فلماذا يقرأ الروائيون الشعر، وكذلك لماذا يقرأ الشعراء الرواية.. إن هذه المقولة تعاني فقرا شديدا، فحين أراد باختين أن يُميز دوستويفسكي كَتب كتابه الفذ عنه “شعرية دوستويفسكي”، والروائي الأروع هو ما نقول عنه إن لغته شعرية. الشعر له منطقه وللآداب الأخرى طرائقها، وما من شاعر إلا وقد استفاد من الآداب الأخرى والعكس صحيح.
كانت بداياتك الشعرية بالعامية وهو ما يظهر في (إسكندرية يوم واحد، وميت خيال، وغيرهما ) ثم انتقلت للفصحي .. ما أسبابُ التحول وهل في هذا دلالة علي تفوق شعر الفصحي علي العامية؟
التحول من العامية الى الفصحى لم يكن بسبب أن الفصحى هي الأجمل أوالعامية هي الأقل، اسمح لي أن أقولَ لك إن هناك تجارب لم تستطع العاميةُ استيعابها، وكذلك الفصحى، التجربة هي التي تختار الشكل الذي ستخرج به، وإذا حاولنا تحويل قصائد أحد دواوين الفصحى إلى العامية سنكتشفُ الصعوبةَ، وأننا لن نصل إلى شيء. فالعاميةُ لها منطقُها ومُنطلقاتها، والفصحى كذلك، وهناك تجاربُ أكبر من الشكل ذاته، لذا جاءت تجربةُ “اختراع هوميروس”، وتجربة “كل ما فعله دوستويفسكي” بهذا الشكل، فالعامية لم تستوعب كلَّ التجارب .
حفل ديوانُ(اختراع هوميروس) برموز تراثية للتعبير عن الواقع المعاصر.. ما سببُ اللجوء لتلك الرمزية التراثية ؟
مسألة اللجوء للرموز التراثية كما في “اختراع هوميروس” هي طريقةٌ لإثبات أننا يُمكننا أن نتماس مع التراث، ونحولَه إلى “تفصيلة” مُعاصِرة، ونرصد مدى حضوره معنا، وأنَّ كل ما حولنا من الممكن أن يُصبح شعرا، فالعالمُ كله بتفاصيله ملكٌ للقصيدة فالقصيدةُ أو النص تتسعان لكل “تفصيلة” نعيشها أو نراها.
“كل ما فعله دوستويفسكي” إدانةٌ لكلِّ آليات القهر الديني والمجتمعي والمعيشي .. وفيه أيضا إغراقٌ في الرمزية واستلهامُ روح مبدع روسي للتعبير عن مشكلاتِ مجتمع شرقي .. السبب في ذلك؟
يمثل ديوان “كل ما فعله دوستويفسكي” بالنسبة لي محطةً جديدة لتجربتي الشعرية، فهو يُقدم شخصا قريبا جدا هو شخص الشاعر الذي التقيتُه بعد ربع قرن من التجريب، فعبر تجربتين شعريتين باللغة العربية الفصحى أستطيع أن أقولَ إنني التقيتُ شاعرا آخر يسكنُني، شاعرا يكتب بلغة أخري، الكتابةُ هي الشكلُ الأجملُ للمقاومة، مقاومة المعاش في صوره المُفزعة، فحين يقهر المبدع داخلك عليك بالإبداع كرد فوري، كلنا نكتب كي نقاوم أكثر من سلطة، فبداية من الأبوي والديني والمعيشي، وحتى قهر الذات فأمام ما نعيشُه من تحولات جِذرية في البنى السياسية والمعرفية ليس أمام المبدع إلا قلمه كوسيلة لمحاكاة الواقع بتطوراته، فالبطلُ في “كل ما فعله دوستويفسكي” بطلٌ مأزوم ويحاول أن يتمرد على أزمته بالكتابة، الكتابةُ هي المخرج الوحيد والحقيقي، أما عن استلهام مبدع روسي فالمسألة هنا لا تتعلق بمبدع روسي بقدر ما تتعلق بمبدع إنسان، فاستحضارُ دوستويفسكي، جاء كمبدع إنساني بوصفه ملكا للإنسانية كلها، ودوستويفسكي يحضر في العنوان وفي آخر قصيدة أي أنني لم أكتب ديوانا عن دوستويفسكي بل أوجدته كتفصيلة مهمة من تفاصيل العالم.
لك محاولات في النقد الفني لكنها لم تكن في غزارة إنتاجك الشعري.. فأيُّهما تُفضل طارق هاشم الشاعر أم الناقد؟
لي محاولاتٌ في النقد الفني طبعا ولدي كتابان كتاب عن “الأغنية المصرية الجديدة في ربع قرن”، وكتاب “على الحجار.. سيرة الغناء سيرة المسرح”، وقد كتبتهما بعين الشاعر الذي يكتب النقد فالشاعر هو الأصل والأساس.
بحسب أنسي الحاج : ” قصيدة النثر الحقيقية لابد وأن يتوافر فيها (الإيجاز والتوهج والمجانية) وإلا صارت مقطوعة نثرية” .. وبعيدا عن المجاملة هل حرص كلُّ شعراء قصيدة النثر علي تلك الشروط أم هناك من أغفلها؟
هناك أكثر من تيار لقصيدة النثر، وكلُّ تيار يكتبُ بطريقته وقد أفهم ما قاله أنسي الحاج فيما يخص قصيدة النثر على نحو يسعى لخلق جماليات بديلة، فالتخلي عن الوزن والتقفية والإيقاعية المُفرطة يتطلب أن يكون هناك جماليات أخرى بديلة ألا يصل النص إلى حائط سد، والكثير يغفلون هذه الحقيقة، فتتحول الكتابةُ لديهم إلى لغة هي والسطح سواء، فأنا مع أن يكون النصُ مُكتشفا جمالياته الخاصة.
وبمن تأثر طارق هاشم من الشعراء ؟
في حياة كل شاعرٍ منا شعراءُ تركوا أثرا في رؤيته للشعر فهناك أسماء كثيرة لن تستطيع إغفالها في الحديث عمن كانوا لهم الأثر الكبير في التجربة منذ البداية، فقد تتأثر بأبي العلاء المعري في مرحلة كتأثرك بصلاح جاهين أو صلاح عبد الصبور، قد يكون للمتنبي وفؤاد حداد ومحمود درويش أثرٌ آخر في التجربة، وقد يكون لكلِّ من محمد الماغوط، وبودلير ومارك ستراند، وسركون بولص، ووديع سعادة، و ليرمنتوف، وبوشكين أثرٌ أعمق.
إن التجربة لابد أن تفتح الباب لكل النصوص الرائعة والمهمة .