طارق إمام: القصة .. احتمال دائم لروايةٍ في الأفق!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: إيهاب الملاح

«ضريح أبي».. الرواية الخامسة، الصادرة خلال الأشهر القليلة الماضية، في مسيرة الكاتب الروائي الشاب طارق إمام، أحد أهم وأشهر الأصوات الروائية بين أبناء جيله في المشهد الروائي المصري والعربي على السواء. بدأ إمام مشروعه الإبداعي مبكرا جدا (في الثامنة عشرة من عمره)، وعبر قرابة العقدين من الزمان، رسخ اسمه ككاتب روائي وقصصي (محترف)، له مشروع طموح جريء يتكئ على التجريب الواعي المتقد، ترفده ثقافة أدبية واسعة، واطلاع يقظ على مكتسبات الفكر الإنساني في كافة المجالات.

ينفر إمام من (الكلشيهات الثابتة) ويقاوم الجمود والنمطية.. يرى العالم بحدقتي (مثقف ناقد) ويقرأ التاريخ والأدب (بحس فنان مرهف).. حساسية طارق إمام عالية إزاء البشر والكون والتساؤلات المصيرية المعلقة. يقرأ العالم بكل ما فيه على أنه (لغة)، نظام من الرموز والعلامات يمارس لعبة فك شفراتها باستمتاع والبحث عن دلالاتها المحتملة بتلذذ عارم، وهو أيضا ناقد من طراز رفيع يمارس عملية التأويل وفعل القراءة بمنهجية مفتوحة، ولغة فاتنة لافتة قلّما يقتنص بعضا من جمالها وسحرها من يقال عنهم عتاة النقاد، وكبار المتخصصين في النقد.

روايته الأخيرة «ضريح أبي»، الصادرة عن دار العين للنشر، روايةٌ قوامها التنقّل بين المقدّس والدنيوي، والبقاء على حافّة مخاتلة قرب الموت لا باعتباره فناءً جسديا، بل باعتباره منطويا على معان تحتمل التفسير والتأويل والترميز. فالموت هو الحاضر الأكبر في مدينة (جبل الكحل) التي ولدت حول الضريح، وكذلك في حياة الشخصية الرئيسية) الابن الذي يقطع الطريق – أو الطريقة – بين ضريح أبيه ومقبرة أمّه، ويروي حياته – مصيره، من خلال ما يتذكره ويكتشفه عن حياتيهما.

بعض نقاد الرواية، وهم كثيرون، أشاد بقدرة مؤلفها ونجاحه (في صياغة هذا الكابوس المفزع بكل تفاصيله وخياله ومسوخه، وخلق عالم مواز ومغلق)، مع الالتفات إلى طموح الكاتب في (مناقشة أفكار فلسفية ووجودية ودينية شائكة، وهذا طموح فني كبير، ومغامرة شاقة وصعبة جدا تستحق التقدير)، مع التأكيد على أن صاحب «ضريح أبي» ينتمي في الحقيقة (لجيل يؤمن بقدرة الرواية على الاشتباك مع الأفكار الكبرى).

إشارة موجزة إلى أن منجز إمام الإبداعي (5 روايات و6 مجموعات قصصية.. عدا عشرات المقالات النقدية في الشعر والقصة والرواية) حصد العديد من الجوائز المصرية والعربية، وتوج إمام مسيرته الحافلة مع الجوائز، بحصوله مؤخرا على جائزة (متحف الكلمة) الإسبانية للقصة القصيرة، عن قصته (عين)، وهي المسابقة التي تقدم لها في دورتها الثالثة آلاف الكتاب من 129 دولة بمجموع 22571 قصة، وسيتسلم إمام الجائزة من ملك إسبانيا خوان كارلوس في حفل كبير خلال الأشهر القليلة القادمة.

• • •

ـ في فضاء روائي ساحر، يزول الفاصل بين المعيش والمتخيل، بين الوقائعي والغرائبي.. ينسج إمام خيوط روايته الجديدة.. برأيك هل الاتجاه إلى هذا اللون من الكتابة الروائية بات يمثل تيارا عريضا في الكتابة الروائية العربية؟ وإن كان، فكيف ترصد ملامح هذا التيار؟

ـ هو تيار من بين تيارات أخرى، لكني لا أستطيع أن أصفه بـ(العريض)، لأن النزوع للفانتازي أو العجائبي لا يزال يتحقق بقدر من الاستحياء.. الرواية العربية رزحت طويلاً تحت مظلة الرواية الواقعية بمعناها المحاكاتي، وقد لعب النقاد التقليديون دوراً في ذلك التكريس.. حتى (نجيب محفوظ) يختصره الكثير من النقاد (المدرسيين) في الثلاثية، على أهميتها، لمجرد أنها عمله الواقعي الكبير، رغم أن المنتج المحفوظي شديد التنوع، ومتجاوز لذلك البعد الأولي حتى أن آخر أعماله (أحلام فترة النقاهة) جاء بنزعة سوريالية واضحة، وبتصور خاص عن (النوع الأدبي) جعله عصياً على التصنيف.

المسألة ببساطة أن البعض يُنصِّب نفسه وصياً على (الواقع) وكأنه يخشى عليه من الخيال.. بينما الفن هو الابن الأكيد للخيال.. وليس النزوع للخيال بهروب من الواقع لكنه في الحقيقة تعميق له وتأكيد على أسئلته من خلال خلق ما يسمى بـ(الواقع الفني)، عوضاً عن المحاكاة العقيمة. إنها (الاستعارة) بالمعنى البلاغي الواسع في مواجهة (التمثيل).

ـ بدا من منذ بداياتك الباكرة أنك تنتمي إلى جيل يؤمن بقدرة الرواية على الاشتباك مع الأفكار الكبرى.. وفي «ضريح أبي» طرحت مناقشة تصورات فلسفية ومعرفية ودينية شائكة عبر مغامرة فنية شاقة وصعبة.. حدثني عن معاناتك كروائي يبحث عن المغايرة والجدة والفرادة (في مقابل الخفة والاستسهال والنأي عن خوض المناطق الشائكة)

ـ الكتابة السهلة تفترض أن العالم سهل.. وأنا أرى أن الكتابة ينبغي أن تتجاوب مع تعقيد العالم إن أرادت أن تشتبك معه بشكل حقيقي لتعكسه على صفحة الوعي. أنت لا تكتب رواية لكي تطرح حكاية (والسلام)، الحكاية في النص الأدبي مرتبطة بالدلالة أو بمجمل الدلالات التي تبذرها هذه الحكاية بالذات.. والدلالة تنبع من جدل الأفكار.

من الغرور القول أكد إن ما يميز الروائي هو امتلاكه لحكاية، كل شخص في العالم يملك حكايته، يملك (روايته) إن جاز التعبير.. ولا وجود لحكاية أفضل من حكاية، لكن هناك طوال الوقت وجود لروايات أفضل من أخرى. قليلون هم من يحولون حكاياتهم لروايات وقصص، أي إلى خطابات (جمالية)..

وهنا نصل للعنصر الثاني: الرواية كخطاب جمالي. الرواية بناء، أي (صنعة) و(طريقة) في الحكي بشكل معين. سؤال الشكل إذن ليس ترفاً، لأن الرواية (شكل أدبي)، وشكلانيتها هي ما تمنحها خصوصيتها بل ودلالتها نفسها. من آفات النقد العربي أنه يفصل الشكل عن المضمون وكأنهما عنصران يتم تلفيقهما معاً بشكل قسري.. لكني مع من يرون أن الشكل والمضمون مثل وجهي الورقة، يستحيل فصلهما.

وفق ذلك، فالعالم الروائي بالنسبة لي نسيج واحد.. الفكرة ملتبسة فيه بلغتها وبشكلها الفني.. وفي «ضريح أبي» الحكاية نفسها ببعدها الصوفي والثقافي أوجدت طبيعة الخيال المرتبط بها، والمتسق مع المخيلة الشعبية وطبيعة الحكايات الشفهية المرتبطة بها في نظرتها للعالم، ما يجعل الخيال نفسه جزءاً من الواقع الفني وليس طارئاً عليه، أو هكذا أراهن، مثلما انعكست الفكرة بمستوياتها على (مستويات اللغة) القادرة على تجسيدها سرديا.

ـ «ضريح أبي» ومن قبلها «الحياة الثانية لكفافيس».. ثمة كثافة بادية شكلا ومضمونا.. لا يسلمان نفسيهما بسهولة لقارئ عجول أو باحث عن تسلية عابرة.

ـ العلاقة بين النص الأدبي والقارئ ليست في ظني علاقة منتج ومستهلك بذلك الأفق الأولي، لكنها بالفعل (علاقة جدلية).. وهذا نابع عندي من أني لا اكتب رواية ليقرأها (جمهور) بل ليقرأها (عدد من الأفراد قد يقل أو يصل لمليون فرد).. والفارق كبير بين الاثنين.. النظرة للجمهور، فضلاً عن كونها متعالية، تتعامل مع المتلقي كقطيع أو كنسيج واحد وهذا غير صحيح مع الرواية بالذات، الرواية فن الفرد.. الفرد ينتجها، والفرد هو عالمها، وبالتالي فالفرد هو متلقيها ويجب بالتالي أن تبقيه الرواية فرداً لا أن تجرده من فرديته.

على الجانب الآخر، لستُ ضد أن تكون الرواية مسلية.. المتعة ليست حراماً في الفن الذي يدعي الجدية أو الجدة.. لكن (التسلية المجانية) أو السهلة هي ما لا أحبه كقارئ وبالتالي ككاتب.. ليست التسلية في الرواية هي التلقي السلبي أو الاستهلاك السريع. هناك مصادر أخرى لذلك النوع من التسلية لا يمكن لأشد الروايات شعبية أن تنافسها..

 

ـ  «الفضول طريق الألم، والألم سبيل المعرفة» من العبارات اللافتة في «ضريح أبي».. هل ترى بأن (ألما ما) أو مشقة قد يراها البعض ملازمة لقراءة أعمالك الأخيرة؟ أو لماذا يرى البعض أنك تبحث عن القارئ المحترف ولا تكترث لقارئ أقل مهارة أو حتى دون المستوى؟

ـ لديّ قراء من جميع الفئات، وقرائي ليسوا فقط من المثقفين أو النخبة.. وهذا ألمسه بنفسي سواء في الندوات وحفلات التوقيع أو في مواقع التواصل الاجتماعي. صدقني القارئ يبحث عن كاتبه بالضبط مثلما يبحث الكاتب عن قارئه. الفكرة فقط هي أنني أفكر مع القارئ، لا أفكر له أو عوضاً عنه.. وهذه هي العلاقة (الندية) التي يجب على الروائي في ظني أن يفكر بها عندما يفكر في العلاقة بينه وبين قارئه.

ـ مجموعتك القصصية اللافتة «حكايات رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها» كانت نقطة انطلاق ومحرك وحافز لأعمالك التالية.. (الحياة الثانية) و(ضريح أبي).. ويبدو أنها قد تكون محركا ودافعا لأعمال أخرى.. هل هذا صحيح بدرجة ما؟ ولماذا؟

ـ ملحوظتك قيمة وحقيقية لأبعد حد.. وهي تفتح تساؤلاً حيوياً حول العلاقة بين القصة القصيرة والرواية.. ولعلك تندهش إن علمت أن جميع رواياتي بدأت كقصص قصيرة، من «شريعة القطة» (2002) لرواية «هدوء القتلة» (2007) و«الأرملة تكتب الخطابات سراً» (2009)، وصولاً للروايتين الأخيرتين، «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» و«ضريح أبي». القصة بالنسبة لي إمكانية مفتوحة دائماً، بمعنى أنها قد تصير لبنة لعالم روائي أو تفصيلة في رواية مثلما قد تكتفي بحدودها كقصة.

بالنسبة لمجموعة «حكاية رجل عجوز» فقد ضمت اللبنات الرئيسية للروايتين الأخيرتين، فضلاً عن أفكار (روائية) أخرى أعتقد أنني سأعمل عليها من داخل هذه المجموعة. القصة القصيرة بالنسبة لي أصبحت: احتمالا مفتوحا لرواية في الأفق!

ـ لا جدال في أنك على رأس الأسماء الأبرز في جيل الكتاب الشباب الذين حازوا شهرة كبيرة في مصر والعالم العربي.. كيف توجز رحلة هذا الجيل مع الكتابة ومساراتها؟ سماته العامة وخطوطه العريضة التي ميزته وطبعته عن غيره من الأجيال السابقة عليه؟

ـ منذ التسعينات وُجدت في مصر كتابة روائية تطمح لإيجاد اختلاف حقيقي سواء عن النموذج المحفوظي العظيم أو تجربة جيل الستينات المهيمنة بمناخاتها.. هذه الحقبة (وقد تجاوزت الآن العشرين عاماً) أوجدت في ظني عدداً من التجارب الطليعية والمختلفة من خلال (ورشة مفتوحة) إن جاز التعبير، سواء في طبيعة النظرة للواقع أو في طبيعة الرؤية للفن الروائي نفسه.

هكذا أستطيع أن أشير لتجارب روائيين مثل مصطفى ذكري وإبراهيم فرغلي وياسر عبدالحافظ، وفي موجة تالية هناك تجارب أحمد عبداللطيف ومنصورة عز الدين وأحمد شافعي وأحمد الفخراني والطاهر شرقاوي. أتحدث هنا عن تجارب أراها بشكل شخصي باحثة عن الاختلاف، وفي الوقت نفسه متنوعة فيما بينها على ما يجمعها من طموح في التجريب والتجديد. ربما أفضل ما في حركة الكتابة الجديدة أنها بدأت تذيب فكرة (الجيل) التقليدية والعمومية إلى حد ما، لصالح (التيار الأدبي) الذي يجمع كتّابا لهم خصائص أسلوبية مشتركة، لكن كل بطريقته بدءاً من اللغة وحتى طريقة إنتاج النص.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم