محمد أبوالدهب
ليس إلا الهدأة. لا يزال نائمًا. هدأة موات العالم. عم زكريا، رحمات الله عليه. بالعدوى، سكتنا. أنا، وزوجتي التي تحولتْ تحدِّق. نزل علينا سهمُ الله. نزل على العالم. لماذا لا تكون اللعنات شغَّالة؟ فقط نُهمهِم، محترزَين، ومتواضعَين. نعيش في الذكريات. كلٌ على انفراد. لن يشبع من النوم. قد لا يقوم منه إلا في أثنائه. يقضي فترته. نقضي فترتينا. والتقضية انقطاعٌ مضاد للدوام، مُقرِّبٌ للآتي.
أسير مع زوجتي، ذراعًا في ذراع، كتفا إلى كتف، كل يوم خمسا وأربعين دقيقة. نضلِّل موتها الذي قد يحلُّ في صورة شرايين متصلِّبة أو ذبحة صدرية. أسير معها، وأتذكر حفنة من الأفلام التليفزيونية، التي صرفَ عليها قطاع الإنتاج في التسعينيات، لينقذ عددا من النجوم الذين طعنوا في السنِّ من شعور البطالة، وليرشد الأزواج إلى ما يجدر فعله، عندما يُحبسون في البيوت على المعاش ويمرضون. لم أبلغ بعد مرحلة القعود المستجير بمواعظ حبكة تليفزيونية مدغدغة. لا يزال أمامي الكثير. لا يزال أمامي ما يناهز نومًا للأبد!
أقول ولا أعطيها مجالا لتسمع. لم أتلفظ وإنْ همسا. أحرِّك شفتيَّ دون همز ولمز. كلمات من هذا النوع تُربكها. من نوع أن الرجل المنوَّم قد لا يقوم مرة أخرى إلا في أثناء نومه. لن يقال له، لُطفا أو زجرا: أنت قلتَ، أنت فعلتَ، فأنت تستحق. المرادفات المربكة حضورها أقوى. ما فائدة الرحلة، برُمتها، إذا لم يكن عم زكريا مخوَّلا بالقيام؟ كانت صاحبة الاقتراح. اقتراح الزيارة. فجأة، وبغرض كسر ملل المرور اليومي بالأماكن نفسها. إنه اليوم الثامن منذ شدَّد الطبيب على استخدامها قدميها بوتيرة أعلى، حتى يتجهَّز قلبها للحفاظ على معدَّل دقاته عندما يحمى الوطيس!
مع توارد صورته المجسِّدة لاستغراقه في النوم، إلى تخم الحلم السعيد، أنظر نيرانا من حوله. من تحته. لماذا لا أرى قصورا ذهبية، تجري من تحتها عيون الماء العذب، ولا أشجارا ناضرة ذوات ظلٍّ ممدود؟ وكل شجرة تحمل أغصانُها أصنافَ الفاكهة المشتهاة، مجتمعة. لا توجد شجرة مخصوصة للتفاح، وأخرى للرمان، وثالثة للتين…… تسمق واحدة عملاقة، تتدلى من حواشيها كل الثمار، كوكتيل متوفّر وغير معصور. لا أرى سوى ألسنة اللهب، تتراقص طالعة من جوف عم زكريا. هل هذا ما يجري في بقعة من الجانب الآخر؟ الآن، أخاف. كيٌّ وشيٌّ وقلْيٌ، ثم ضأضأة. الجحيم الهائل في نسخته الأخيرة. فوران مطلق، وحسيسٌ لا ينقطع. والكائن، مهما أنجزت يداه، أهون من أن يُدعَى إلى حفلٍ كبير كهذا. أتصارع مع ذاكرتي بشأن الأحاديث، بأسانيدها التي سوَّدت آلاف الصفحات من الكتب، الأمهات، عن عروض العذاب. لماذا لا يُقال: الكتب الآباء؟ باب: ما جاء في أنهم يُمتحَنون في لُحودهم امتحانًا أقرب إلى فتنة المسيح الدجال ويأجوج ومأجوج: هذا لا يستبرئ من بوله، وهذا يمشي بين الناس بالنميمة، وذاك يضع رأسه على المخدة متغاضيا عن الصلاة المكتوبة، و………… أوَ ليست طوائف من الذين هم نحن ونحن هم؟… “لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم عذاب القبر”… إسناده صحيح على شرط الشيخين. عم زكريا يضع رأسه على المخدة.
لماذا لا أتصارع مع ذاكرتي نفسها عن أحاديث النعيم، وإن لها أسانيد كذلك؟
**
كان النائم جارًا لصيقا. طرق الباب مع شروق الشمس، يوم الصباحية، قبل عشرين عاما، وفي يده كرنبة: خلِّي عروستك تعمل محشي. ضيَّق عينيه، ومسح شيبَ شاربه، ثم استدار مطأطئًا كالمُستحي. بين حجرة نومي وزريبة بهائمه حائط مشترك. حائطان في الواقع. واحد من ناحيتي قائم على نصف طوبة، وآخر من جانبه مبنيّ على طوبة كاملة. إن بيننا حائطا ونصفا. يرجع ذلك إلى فارق زمني بين تاريخَيْ تشييد البنايتين. تطوُّر دارويني لحقَ بآلية البناء. لو قصرَ داروين نظريته على كائنات الجماد لصار مهندسا معماريا لم تلده ولَّادة. كنت أحب هذا الجدار المزدوج؛ يرسلني الجدار إلى القرون البعيدة، الوسطى بالتحديد، إذ ينسخون مجلدات الكتب في حوانيت الورَّاقين خلف جُدر مشابهة. كان مخترع المطبعة لم يزل فكرة مؤجَّلة في علم الله. أزمنتي التي يوافقني التخفِّي في أسبلة وطرقات مدائنها. ولولا أن أبناءه باعوا البهائم، بعد موته، ونظَّفوا الزريبة لتصير حجرة خامسة بالمنزل، لقلت إنني لا أزال أحب الجدار المشترك. يكبرني عم زكريا باثنين وثلاثين عاما. تصغرني زوجتي بأربع سنوات. مات في أثناء اعتقادي أني التحقت أخيرا بمرحلة الشيخوخة. في أثناء اعتقادي أن مسافة السنوات الأربع أزلية. أنا في السابعة والأربعين قبل عامين. طريقة لذيذة في حساب السنين! في الثلاثين، قبل تسعة عشر عاما. ملتوية، ولها طابع نسوي. تزيِّن الالتفات العصبيِّ إلى الوراء، وتبقى لذيذة!
أحفظ له أنه لم يدخل مسجدا قط. أحيانا أهتم بهكذا معلومة، معه أو مع غيره من الموتى. لليالٍ عديدة، أدرس تبعاتها التي لا يداخلها الرَّيب. أبحث في التفاسير والأسانيد ثم أتوهَّم. أحيانا لا تشغلني إلا كمواء واهن لِقطةٍ عابرة. يوم الوفاة موعده الأول، والأخير. أدخلناه لنصلي صلاة الجنازة على مَن حضر. التمدُّد في النعش شرط صحة هذه الطريقة من الصلوات. لا بد أنه كان مرتعبا ومغتاظا. أو نائما كمولود رضعَ فشبع. نادانا، ونحن عائدان من أول يوم عمل بعد أجازة زواجنا، زميلان في الإدارة نفسها. كفَّاه مملوءتان بحبات ليمون كبيرة، مصفرَّة ومخضرَّة: خلِّي عروستك تعصُر. ليس إلا الهدأة. هدأة موات العالم. أطوف بفضائها الشاسع، تحت غيامات سماواتها الخريفية، محلِّقا كأنما بجناحين، مع كل حالة وفاة.
**
كانت صاحبةَ اقتراح التعريج على المقابر. عموم المقابر. هنا عدد لا بأس به من مدافن الأقارب. لم تقصد أن نقف خاشعَين أمام قبر هذا النائم بالذات. لم تقصد ألا نقف. جارنا العجوز، الذي لم تضلِّله عافيته حتى نفَسه الأخير. مات داخل حدود غيطه الصغير، بعد أن كوَّم عددًا من رؤوس القرنبيط. كنت صاحب الاقتراح الآخَر، المتفرِّع عن اقتراحها. لعله يضأضئ من شدة لهيب النار. هل يصحو كل ميت ليدخل النار؟ أم يدخلها في حين موته؟ ألم يضع رأسه على المخدة، ليلة من بعد ليلة، على اعتقاد أن الليالي لا تنقرض؟ هناك تخريجات حسنة الإسناد تدعو إلى تخيُّله في أثناء الضأضأة، مثلما تيسَّر تخيُّله في أثناء النوم.
باذنجان: خلِّي مراتك تقلي.
بطاطس: خلِّي الوليَّة تطبخ.
خسّ، خيار، طماطم: خلِّيها تعمل شوية سلاطة.
عشرون عاما من الإمدادات الطازجة.
قالت: هل انتهيت من قراءة الفاتحة؟
**
فكرة منسيَّة، لا تثريب عليها، وجديرة بالتكرار بين حصةِ سَير وأخرى: أن يأخذ الزوج زوجته في نزهة بالمقابر، قبل أن يموت أحدهما أو كلاهما. أنا لا أقرأ الفاتحة للأموات، ولو كان الميت أبي أو أمي. لا أقرؤها حين يفرمل المقرئ، قبل صلاة الجمعة: صدق الله العظيم، الفاااتحة. أقول أذكارًا مسجوعة ومأثورة، مرشوقة كسهام غير جارحة في مصارين الكتب، وصالحة للإيهام بأداء الغرض. قرأت عن الأمر. لم تقرأ هي. لم يقرأ القراء الآخرون للفاتحة. إنني أجيدُ قراءة الكتب الأمهات، المكتوبة في الزمان السابق بقليل على الزمان الذي أحببتُ التخفِّي فيه. لا مجال للتعتعة. لن أخبرها. هذه أمور فقهية، تراثية، لا تُخلف إذاعتها إلا الارتباك أيضا.
أظنها ترغب بالانصراف. تريد مواصلة المشْي. حسب ساعتي، يعوزنا السير لتسع دقائق أخرى، فتكتمل دورة اليوم. كان يجب أن يكون ذلك متواصلا. لا بأس، فلسكان المقابر حُرمتهم. اعتدنا التكلم عن الحُرمة حيث وقوفنا بأبوابهم المسدودة على دمعة والمفتوحة على زفرة. سكان المقابر متطلِّبون، مزعجون. خاصة حين يكونون، قبل موتهم، من نفس العائلة، أو من مُعمِّري البيوت الملاصقة. يموتون فتتفسَّخ الروابط الأسرية، ويضعف الانتماء العائلي، لمَن سيعاودون القيام من النوم. والدليل مقروء في كتاب القرآن: “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه….. وصاحبته!……”، ومسألة الجيرة هناك غير مضمونة الحيثيات. ينقصها الدعم اللوجستي: “الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين…….”. التقوى تُفتقد عندما يُفتقد الدعم. والدليل مقروء في كتاب الأحاديث: “التقوى ها هنا.. التقوى ها هنا”. الإشارة كانت إلى القلب. نعم، نعم، لقد قرأت عن الأمر. إنني أؤكد. عندي من الشواهد الكثير. قلب زوجتي العليل قد لا يتحمل. هي الأخرى تضع رأسها على المخدة. هل يهتز عليلا وتقيًّا في دقة واحدة؟ خطوات خمس، لا تزيد ولا تنقص:
أوَّلا: توفير قائمة بأصناف الأدوية المقوِّية لعضلة القلب والخافضة لنسبة الكوليسترول والدهون الثلاثية.
ثانيا: توفير قائمة بأصناف الطعام والشراب المحتوية على الفائدة.
ثالثا: وضع خطة زمنية للمحاصصة بين القائمتين.
رابعا: مداومة عمل رسم القلب بالمجهود.
خامسا: مراجعة الحديث النبوي “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”، متفق عليه.
أفكر بالتوقف، قليلا، عن الاستدلال من الكتاب والسُّنة. التوقف عن الزَّج بهما في كل حادثٍ وحديث. إنهما كتابان يتميَّزان بالضخامة الشعورية. يتسبَّبان في تقزُّم قارئهما المتترِّس بالتصديق. أفكر بالتوقف عن اللهاث.
زوجتي سألت إن كنتُ انتهيت من قراءة الفاتحة.
**
لست مريضا مثل بعضهم. لا أتمارض كالذي يفعله معظمهم. مع ذلك لن أقدر على المرور. هذه فكرة واضحة كالفكرة المأخوذة عن الله. أوقفتُ جسدي في دوره، قبل السُّلم بأطول من متر. أحملق إلى غرابة الوجود البشري، مستسلما لكوني جزءا من تلك الغرابة. لا فرصة للانسلال من بين الحشود. يزحفون على السلالم، كأنهم مقاتلون أشداء تملَّكهم الوهن واليأس فجأة، دون أن يُفسَّر خنوعهم كبادرة لخسارة المعركة. مرابطون حتى آخِر ورقةٍ يُرجَى تقديمها إلى موظف الأرشيف ثم إلى الطبيب المختص. يوم الزحف. ساعة المثول. أوقات البصق المعنوي. اللهج بسبِّ الدِّين مع اطمئنان القلب بالإيمان. ثمة كُفرٌ لا ينشرح به الصدر. كفرٌ دون كفر. يوسِّع المدارك.
الحشود المريضة بالسليقة، أو المتشبثة بالظهور في حالة كرٍّ وفرٍّ مع مرض لم يعد له جاذبية مثل الذي كان في زمانٍ مضى. أراقبهم بارعين في التمارُض. لا أراقبني. أداة لإثبات الحرص على كسب مزيد من الوقت. الحرص فقط. جميعهم بارعون، حتى أولئك الذين يكادون يقابلون سحناتهم في مرآة الموت. زوجتي لن تموت. لن أتمارض بالنيابة عنها. قوافل المدَّعين لا ترغب بالموت. يُجارون نيَّاتهم المُبيتة بليلٍ، مستهدفين صعودًا رتيبا على درج سُلم مبنى عيادات التأمين الصحي الخارجية. زوجتي زميلة على نفس الدرجة. يعوجون رقابهم إلى أسفل، أو إلى اليمين. يتحاشون اليسار تفاديا للحشود المقابلة، النازلة بعد أن وثّقت ادعاءها بختم إضافي من اللجنة الطبية أو بكيس علاج من الصيدلية يكفي شهرا. لم يبق إلا الزعيق الجماعي: على هذا النحو، لا نستأهل التحويل إلى قسم آلات التعذيب حين نموت. يثنون سلاسل ظهورهم. تتعلَّق أذرعهم بالدرابزين خوفًا من سقوط لا يُعقل حدوثه. ينقلون سيقانهم كأنهم يحرِّكون رافعة بلدوزر بالحذر المهني المتَّبع، متأوهين بين رَفعة وأخرى. لا فرق بين مَن لم يجاوز العاشرة ومَن تخطى السبعين. مجرد الوجود يعني بلوغ سن الرشد وتحقُّق شرط التكليف. يعرضون أوراقهم بأختامها الزرقاء الدائرية التي تخشع لها الأبصار، حتى لا يشك أحدٌ في استحقاقهم لما تكبَّدوا ضراوة الصعود من أجله. زوجتي لن تموت. لا ألحظ علامات الخبو على جِلد وجهها الملتمع. ليس من قبل موتي، مثلما لم يكن من قبل موت عم زكريا.
أنا الآخَر أعرض أوراقا طازجة، وأشمُّ رائحة حبر طابعة كمبيوتر معمل التحاليل. النسب الفاضحة للخبايا المقفول عليها في متاهات خلايا الجسد، المحدِّدة للطبيعة الشريرة التي يكتسبها مع الوقت الدمُ الجاري والمتماوج في عروق زوجتي، فيصير الكلام عن خطر الموت المُداهم ذا منظور علمي وموجِّها للمشاعر. والأيام تصدِّق أو تكذِّب. واسمها الثلاثي مطبوع بالإنجليزي.
**
في عيادة (أخصائي القلب)، أعطتني الممرضة مزقة ورقية صغيرة، مكتوب فيها (59). يسبقني إلى الطبيب ثمانية وخمسون. يلقي نظرة على التحاليل، يقول كلمته، فأعيد تخطيط حياتي وحياة زوجتي. الطبيب لم يصل بعد. الممرضة أصرت على أن أتناول المزقة. قلت إنني لن أكشف، والمريضة ليست معي: فقط يرى التحاليل التي طلبها. ظلت تدافع عن يقينها بأني لا أصلح إلا مُشارًا إليه برقم (59). احتدتْ قليلا: من فضلك، أقعد يا أستاذ (59)، عندي أرقام كثيرة غيرك. أظن أنها مدَّت كفها اليسرى، وفتحت كفِّي اليمنى، ثم بأصابع يدها اليمنى ألصقت المزقة في الوسط من باطن كفي المفتوحة. وأظن أني شعرت بالدم الأنثوي الدافئ يَسري في أوردة يدها. هل يحيلني الشعور بدفء دمها إلى آلة من آلات التعذيب؟
مقاعد الانتظار مشغولة. الواقفون أضعاف مضاعفة. والطُّرقة تفصل بين عيادة القلب وعيادة الرمد. اختلط الموجوعون بقلوبهم مع الموجوعين بأبصارهم. انتظرتُ بالقرب من امرأة فارعة، في الأربعين، تطالع بطاقة التأمين بغلافها الأخضر. إحدى عينيها محجوبة بالشاش، وشفتاها مدهونتان بالبنفسجي الخفيف، المقارب للون بلوزتها. رمقتني بعين واحدة، حزينة، ومهدِّدة بألا أقترب أكثر. تخيلتُها مُدرِّسة اقتصاد منزلي في إحدى المدارس الإعدادية. ستظل تعلِّم البنات طريقة عمل الحلاوة الحُمصية والسمسمية إلى أن يأتيها أجَلها قبل أن تصل لسنِّ المعاش. ألم تعرف سكة دواوين الحكومة الصحية مبكرا؟ لقد اختطفتُ نظرة إلى بطاقتها. ربما ليس بها إلا صفحة فارغة. لا بد أنها تأتي كل شهر، بخطاب تأمين مختوم بختم المدرسة، دون أن ترتاد نفس العيادة شهرين متتالين. كعب دائر على عِلات الجسد. لم أقترب من بنطلونها الجينز الشعبي، محكوم المقاس على ساقيها الطويلتين وفخذيها العريضتين. ولأجل خاطر عينها السليمة، حرَّكتُ كتفي، وصعَّرتُ خدِّي، فصرت لا أرى منها شيئا، وصارت لا ترى مني إلا قفاي. هيَّأ لي ذلك فرصة التفكير في أن الحياة طبقاتٌ من الانتظار، بعضها فوق بعض. مراحل محتومة، مشهورة، يتم الانتقال بينها بسلامٍ مؤلم، وبطء خادع، ورغم هذا تحلُّ كلُّ مرحلة، في كل مرة، كمفاجأة غير متوقعة. وهناك، دائما، الانتظار الأكبر، الأخير. أخصائي القلب لم يصل. أخصائي العيون يؤدي عمله منذ نصف ساعة. أرقام العيون تدخل وتخرج. ممرضة القلب تجادل وافدًا جديدا: الطبيب لا يرى إلا ستين حالة، التعليمات يا فندم، يا عديم الرقم. أتيتُ في الوقت الأخير مثلما آتِي دائما. كدتُ ألا أحوز رقما. تمنيت لو أسمع نداءً على (59)، وإنْ للعرض في عيادة الرمد. خرجت مدرِّسة الاقتصاد المنزلي بعينين متجاورتين، مفتوحتين، وفيهما حَوَلٌ. لم تبص إحداهما ناحيتي.
كان أخصائي القلب بشوشا. أحاول تذكيره بالحالة. زوجتي كانت هنا قبل عشرة أيام. المرأة البيضاء المحجَّبة، التي سترتْ فمها بيدها وهي تضحك، لأن الطبيب الآخر كاد يقع على ظهره بسبب عدم توازن أرجل الكرسي. ابتسم، وقال: نعم، أظن أني أذكر. أخذ نتيجة التحاليل. أبعدها عن عينيه لأنه كان خلع النظارة وتركها على المكتب. تمعَّنَ في النسَب. يقرأ بصوت عال، بالإنجليزية. انسحبت بشاشته من المشهد، وأنا هششت الذبابة. قال: القلب في خطر. أزاح الورقة من أمام وجهه، ليراها زميله الجالس إلى المكتب نفسه. لم يكد يرى حتى صفَّر، ونادى على النهار: يا نهار أزرق! كنت واقفا فقعدت، أو كنت قاعدا فوقفت. سألتهما، وقد تجلَّط ريقي: هل تموت زوجتي؟
قالت: هل قرأت الفاتحة؟
قلت: ولا الضالين، آمين.
لها، ولعم زكريا، وللآخرين.