د. رضا عطية
حين يكرر الكاتب نفسه ويلوك نفس تيماته ومقولاته السابقة.. فأين الإضافة وما الجدوى؟!
وحين تقع الصياغة السردية في شرك الإفراط الاستعاري كيف تفسد المعاني المتوخاة من الخطاب السردي؟
يناقش هذا المقال مسألة مدى نجاح أو إخفاق الإفراط الاستعاري في محاولة تحسين الكاتب/ـة لتيمة طالما ألحت عليها وكررتها، كيف تكون الاستعارة سلاحًا ذا حدين؟ وعددًا من المسائل الفنية الأخرى التي تناولتها في المقال مثل: كيف تستحيل أحيانا الشخصيات الروائية شخصيات كاريكاتورية تفتقد منطقًا فنيًّا يبرر أفعالها بمثل ما تفتقد الإقناع الفني. وغير ذلك من مسائل فنية ما يجعل الخطاب النقدي محاولة جادة لتقييم التجارب الإبداعية وتقويم ما قد يشوبها من قصور أو خلل، كمسعى لاستعادة الأداء النقدي جديته.
من جديد تعاود الروائية العراقية إنعام كجه جي، في روايتها الأحدث، صيف سويسري (2025)، العزف على أوتار الألم العراقي، بعد أربعة روايات لها: الحفيدة الأمريكية، طشاري، سواقي القلوب، النبيذة، سارت في مدار سرد مآسي الشتات العراقي وكتابة تاريخ التمزق العراقي سردًا، مع تركيز كبير على اغترابات الذات العراقية في مهاجرها ومنافيها وعلاقتها الإشكالية بوطنها، مكانها الأول، حنينًا إليها، وتذكارًا لاغتراباتها ومواجعها فيه، وعدم استطاعتها التكيُّف التام مع مكانها الآخر، وشعورها المستدام بقلق وجودي وافتقاد لاستقرار نفسي ونقصان تحقق، ما يجعل الذات العراقية شتيتة ممزقة بين ماضيها في مكانها الأول تأثرًا بذكرياتها الأليمة فيه وتعلقًا به، وحاضرها الآني في مكان آخر، منفى أو مهجر، لا تحس بطعم العيش فيه، بعيدًا عن وطنها.
ومع إلحاح إنعام كجه جي على تيمات الشتات العراقي التي كررتها في نصوصها الروائية السابقة، تضعها معاودة نفس التيمات ونصها الروائي الأحدث في اختبار غير يسير؛ إذ تكون مطالبة بتقديم رؤى جديدة في الموضوع الذي طالما استخدمته تيمة لنصوصها السابقة، ثمة حاجة للكاتب كي لا يقع في شرك تكرار نفسه وإعادة إنتاج نصه أن يقدم جديدًا ملموسًا حال دورانه في فلك موضوع أو تيمة عامة سبق أن قدمها، في غير نص له، ويكون التحدي أكبر حال أن تكون هذه التيمة هي الموضوع الرئيسي والقاسم المشترك لكل نصوصه تقريبًا.
الأيديولوجيا في مختبر المحو
ينعقد التلاقي الدرامي بين شخصيات هذه الحكاية في رواية صيف سويسري، بالتقاء أو بالأحرى تجميع أربعة عراقيين في مدينة بازل السويسرية صيفًا، بدعوة من إحدى شركات تصنيع العقارات الدوائية، وذلك لتجربة عقار جديد يعمل على تخليص الشخصيات من أية تعالقات عقائدية وأيديولوجية تربطها بماضيها، أو بالأحرى تخليص الشخصية من عرى ارتباطها بمكانها الأول، العراق، وجدانيًّا وأيديولوجيًّا، لتنفتح الحكاية على صراع هذه الشخصيات مع ماضيها العراقي، اجترارًا لذكرياتها فيه بما فيها من آمال تبددت وآلام تفاقمت وحنين معذَّب تشوقًا إليه، ليجنح المسار الحكائي للسرد نحو منعطف غرائبي يتمثل في اختبار إمكان أن يزيل عقار كميائي تكوينات وجدانية وعقائد مترسخة ويفك وشائج ارتباط أشخاص بوطنهم ويحل تعالقاتهم الشعورية به.
وكما يكشف السرد في حكيه عن إحدى شخصيات الرواية، “بشيرة حسون” وتلقيها لتلك الدعوة الغريبة، فإنَّ هذه الدعوة تفتح الباب للذات على همها العراقي ووضعها في المكان الآخر بعيدًا عن وطنها:
وعدتْ بشيرة حسون نفسها أن تستريح في بازل. جاءتها الدعوة الغريبة من دائرة رعاية المهاجرين وترددت في قبولها. لم تفهم الغرض من الإقامة الصحية في بلد مجاور. قيل لها إنَّها دورة صيفية للترويح عن النفس. ستتخلص من هواجسها القديمة وكوابيسها. تصبح قابلة للاندماج. وهي تنفر من فكرة الاندماج ولا ترى أنَّها مهاجرة. المُهاجر هو من قرر هجران مسقط الرأس دونما ضغوط. أما هي فلاجئة لا تملك قرارها. دُفعت إلى المغادرة دفعًا. (صيف سويسري، القاهرة، طبعة الدار المصرية اللبنانية، 2025، ص 24).
يبرز الصوت السرد مأساة الشخصية الروائية، “بشيرة حسون” التي تنطبق على حال الذات في مكانها الآخر، المتمثلة في استعصاء الاندماج مع المهجر والشعور بحال اللجوء لا الهجرة، وهو ما يلخص حال الذات العراقية في تمزُّقاتها في مكانها الآخر، بين عدم القدرة على التكيُّف التام مع مكانها الجديد وعدم استطاعتها نسيان ماضيها وطرح ذكرياتها في مكانها الأول، وقطع حبل التعلق المشيمي به ومحو أيديولوجياتها القارة في أعماقها من حياتها فيه، وهو ما ينعكس على انفعال الذات بمكانها الآخر وإمكان توافقها معه، وهو ما يتبدى من حديث شخصية “حاتم الحاتمي” عن مدينة “بازل” السويسرية، ملتقى المجموعة العراقية الخاضعة للتجربة الطبية:
سرتُ في شوارعها مأخوذًا بالنظام. تتحداني نظافة عدوانية غير مألوفة. تجعلني أحك جلد رقبتي. أتحسس آثار حبل وهمي. ثآليل من زمن ماضٍ. (…) لم أتآلف مع مدينيتي الجديدة في أيامي الأولى. وجدتها مضبوطة ضبط العقال على رؤوس المشايخ. متكتِّمة رزينة بنت ناس تعرف قيمة نفسها. تنتظر عريسًا أفضل ممن تقدَّم لها. حتى طباع أهلها عكس طباعي، أنا الميَّال إلى مرابع الفوضى. (ص9).
تبدو صدمة الذات المغتربة في مكانها الآخر بمثالية هذا المكان ونظامه ما يشعرها بعدم ألفتها له، وتكشف استعارة تمثيلية لمدينة بازل في وعي “حاتم”، العراقي الذي صدمه صرامة نظامها عن تشتت الذات في مكانها الآخر وارتباطها بمكانها الأول: (وجدتها مضبوطة ضبط العقال على رؤوس المشايخ) لتكشف هذه الاستعارة بمركزية المكان الأول القارة في وعي الذات المغتربة وتمثلُّها لمكانها الآخر، ليكون المكان الأول، الوطن، بظواهره وممارساته الحياتية والثقافية مرجعًا للذات في قياس وترجمة معطيات المكان الآخر وظواهره، كتمثيل نظام مدينة بازلبضبط العقال على رؤوس المشايخ، في استعارة تعكس إحالة الذات المغتربة لظاهرة الانضباط النظامي في المكان الآخر، إلى مظهر مادي يتعلق برمز من رموز مكانها الأول (المشايخ) وانضباط هيئتهم وملبسهم. ثم تغدو الاستعارة مركَّبة تضيف صورة أخرى مغايرة لمدينة بازل في شعور الذات المغتربة برزانة هذا المكان الآخر: (متكتِّمة رزينة بنت ناس تعرف قيمة نفسها. تنتظر عريسًا أفضل ممن تقدَّم لها)، في استعارة تبدو أقرب لوعي نسوي من شخصية كشخصية “حاتم الحاتمي” الذي قدَّمه الخطاب الروائي كضابط أمن ورفيق حزبي، غليظ القلب يمارس التعذيب والقتل بكل بساطة.
بنية الشخصيات وصلاتها الدرامية
إذا كان من متطلبات التشكيل الفني للبناء السردي للحكاية الروائية أن تتسم بنية الشخوص في الرواية بالتنوع قدر الإمكان، وفي حدود مسار الحكاية، تحقيقًا لتوازن درامي بين فواعل السرد؛ حيث إنَّ الحكاية الروائية لابد وأن تمثِّل- على نحو ما- عالمًا متنوع الأقطاب- فإنَّ رواية صيف سويسري تقدم لنا ست شخصيات يمثَّلون خيوطًا متنوعة من نسيج الشخصية العراقية؛ حيث “حاتم الحاتمي” الرفيق الحزبي ومسؤول الأمن الكبير يمثل اليمين السياسي في العراق وكذلك يمثَّل الشخصية الريفية القادمة إلى العاصمة، تقابله “بشيرة حسون” اليسارية، في حين أنَّ “غزوان البابلي” الذي يمثَّل الأصولية الدينية المسلمة تقابله “دلاله” الآشورية التي تمثل تدينًا مسيحيًّا مبالغًا في تطرٌّفه، فهي مبشرة بطائفة مسيحية ترجع للبروتساتنية الأمريكية هي جماعة “شهود يهوة”، ثم جيل الشباب الذي عاش معظم عمره بعيدًا عن العراق ويمثله الدكتور “بلاسم” و”سندس” ابنة بشيرة.
وعلى تنوع هذه الشخصيات التي تمثِّل أطيافًا مختلفة من التكوين العراقي، فقد جاء تشكيل الصياغة السردية لهذه الشخصيات أقرب إلى “الكاريكتورية”، فجاءت معظم فصول الرواية أقرب إلى أن تكون بورتريهات لكل شخصية، يمكن للمتلقي أن يتوقع مسارات معظم الأحداث، إذ قدم السرد شخصيات الحكاية الروائية بالغة الحدية في أفكارها وتكويناتها النفسية والأيديولوجية، ما أوقع التشكُّل السردي للشخصيات، أحيانًا في تناقض منطقي أو على الأقل عدم اتساق منطق الشخصية في بعض تصرفاتها، كشخصية “حاتم الحاتمي” الذي يقدِّمه السرد شخصية غليظة، حادة، بالغة القسوة والعنف، حد استسهال ممارسة القتل وتنفيذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص في صديقه الأقرب، تلبية لمقتضيات منصبه، كما يصف السرد لحظة تنفيذه حكم الأعدام في رفاقه الحزبيين الذين اتهموا بالخيانة:
وقف حاتم أمام صف الخونة المفترضين ولم يعرف بينهم أبا محمد. صديقه ليس خائنًا وهو يعرف أنَّه بريء. نفذ ولا تناقش. الوجوه منتفخة والكدمات تمنع تمييز الملامح. كل العيون كانت عيني رفيق عمره. كل نظرات العتب المرّ نظراته. (…) أدى الواجب ونفَّذ الأمر. أطلق النار من سلاحه الحزبيّ مثل رجل آليٍّ. (ص ص49- 50).
وفي موضع آخر يصف السرد رد فعل حاتم الحاتمي على وفاة جاره وزميله “سالم” متأثرًا بأزمة قلبية جراء عدم احتماله الذهاب لتنفيذ حكم الإعدام في رفاقهم الحزبيين المتهمين بالخيانة من مواساته لابنة صديقه بعد وفاته:
خرج مسرعًا ليلتحق بالواجب قبل الظهيرة. عاتبته حاسته. ما كان يصحُّ أن يقول للبنت إنَّ أباها شهيد. لا بد وأنَّ الحزب سيعتبر الأب الميت متخاذلاً. (…) لا بد من تأجيل الهموم الخاصة. تأخير السكتات القلبية. نفِّذ ثم ناقش. (ص49).
غير أنَّ هذه الصورة الكاريكتورية بالغة الحدية لشخصية “حاتم الحاتمي” في آليته كترس يدور في عجلة نظام يصفي المشكوك فيهم بكل بساطة وإعلاء مبدأ (نفِّذ ثم ناقش) كتأكيد على ترسيخ مبدأ طاعة الأفراد وآليتهم في تنفيذ الأوامر العليا- كل هذا لا يتفق مع تهيئة التوفيق الحكائي للسرد للجذور التاريخية لعلاقة حاتم الحاتمي ببشيرة حسون، فتستعيد بشيرة تدخُّل الضابط الذي خلصّها من مصير بشع بالإعدام وقت التحقيق معها معصوبة العين حين كانت طالبة في البكالوريا:
“نفَّذ ثم ناغش”!
فعل أمر بقى راكدًا في ذاكرتها أعوامًا. ثلاث كلمات خلّصتها من مصير أسود. تلذُّذ المحقّق وهو يبلغها بأن قرارًا صدر بإعدامها. (ص124).
فيتبدى أنَّ تدخل شخصية بالغة القسوة مثل شخصية حاتم الحاتمي الذي قدمه السرد ككائن أقرب إلى الآلية، في تنفيذ أوامر الحزب والقيادة العليا، مهما بلغت من بشاعة ودموية كتنفيذ حكم الإعدام في أقرب الرفاق والأصدقاء، وكذلك احترازه وندمه من إبداء تعاطفه مواساةً لابنة رفيقه الحزبي وجاره حين لم يحتمل صدمة اختياره في فرقة تنفيذ أحكام الأعدام في رفاقهم الحزبيين الموشى بهم- لا يتسق ولا يتفق منطقيًّا مع تدخُّله إنقاذًا لفتاة كلِّف بمراقبتها ثم قبض عليها، ليخلِّصها من حكم بالإعدام، فبدا أنَّ ترتيب الصياغة السردية لتلاقي شخصيات الرواية بعضهم بالآخر قد جاء متعسفًا وضعيفًا في منطق هذا التلاقي أحيانًا. إضافةً إلى ذلك، يجيء التقاء شخصيتي “حاتم الحاتمي” القادم من ألمانيا، و”بشيرة حسون” القادمة من سويسرا، ضمن مجموعة رباعية اختيرت لخوض الاختبارات تجريبًا لعقار طبي في مدينة “بازل” السويسرية من قبيل المصادفات بالغة الندرة وفقًا لقانون الاحتمالات، ما يقلل من متانة منطق تلاقي الشخصيات في الحكاية الروائية.
ويقدَّم السرد شخصية “دلاله” المبشَّرة الآشورية بحدة مفرِطة في رسم شخصيتها وانتمائها العقائدي:
مخبولة مستعدة لأن تهجر دنياها كلها في سبيل ما نذرت نفسها له. (…) تخرج في الأمسيات الباردة وتقرع الأبواب على الناس. الأقارب والغرباء. تحمل حقيبة المنشورات وتخاطبهم مثل راهبة. توزِّع عليهم كتيبات تدعو البشر الغافلين إلى أن يكونوا من شهود يهوه. (ص100).
وعلى حدة الشخصية وجموحها في رسم السرد لمبالغتها في اعتقادها التديني، فإنِّ ما يقدمه السرد في علاقتها بالزوج “مانو” أو “مانويل” لاعب الكرة ومدرب المنتخب العراقي يمثل تصعيدًا في مبالغات الشخصية:
يعود مانويل من تدريبات فريقه ولا يجد كؤوسه وميدالياته على رف المكتبة. أخذتها زوجته إلى تجار الأنتيكة وتسلمت ثمنها. كأس البطولة الفلانية بكذا ألف دينار. كل شيء يهون في سبيل عقيدتها. وهو عاجز إزاء دلاله. (ص102).
وبغض النظر عن عدم دقة الرسم السردي لأشياء الزوج التي تبددها الزوجة؛ حيث إنَّ كرة القدم لعبة جماعية وحال فوز الفريق ببطولات فيها لا يحصل اللاعبون على كؤوس هذه البطولات التي تودع في الأندية الفائزة أو الاتحادات الرياضية حال فوز المنتخبات- فإنَّ رسم شخصية الزوج بهذه المسالمة والمثالية إزاء إهدار زوجته لأعز وأغلى أشيائه هو وقوع آخر في شرك الرسم الكاريكتوري للشخصية، بيد أنَّ هذه المثالية المفرطة فيما يرسمه السرد لشخصية الزوج في احتماله شطط زوجته التديني وآثاره السلبية عليه، لا يتسق مع موقف الزوج بعدما دبر خروجًا له ولزوجته من العراق، حماية لها وفرارًا من مساءلة أمنية على أفعالها:
وصلا النرويج على أمل أن يلحق بهما الأولاد. لم يكن الاشتياق سبب كآبة دلاله. أحزنها أنَّها لا تفهم لغة البلد ولا تحسن التبشير بين جيرانها. وانتقل سوء المزاج إلى مانويل. لم يستوعب الانحدار من خانة البطل المحبوب إلى درك النكرات. عاد إلى بغداد وحاول استعادة شعبيته. (ص103).
يأتي تخلي الزوج “مانويل” عن زوجته وعدم استطاعته الاستمرار في بقائه معها في المكان الآخر، النرويج، لعدم احتماله أن يُحرم من نجوميته وجماهيريته- منافيًا ومناقضًا لما صوره السرد من تمريره بيع زوجته لكؤوسه وميدالياته التي هي تذكارات أمجاده وبطولاته دونما أي رد فعل غاضب، ما يفقد منطق التوليف الحكائي اتساقه، جراء مبالغة التشكيل السردي في صياغته لشطط الشخصيات أحيانًا، ما يجعل ثمة شبكة الأحداث والأفعال التي تصدر عن شخصيات الحكاية الروائية مهترئة في منطق ترابطها التتابعي وتصاعدها الدرامي، فلا يمكن بناء حدث مثل عودة الزوج “مانويل” إلى بلاده لعدم احتماله العيش بدون تحقيق ذاته وإشباع رغباته في النجومية والجماهيرية، مؤثرًا الحفاظ على شعبيته وشهرته على حدث سابق يتمثَّل في عدم إبدائه ردًا لفعل بيع زوجته لأشيائه العزيزة، كؤوس وميداليات بطولاته.
وبمثل هذه المبالغات المفرِطة في رسم الشخصية بحدية كاريكتورية تفقدهًا عمقًا دراميًّا وتسلبها ما تحتاجه من إقناع واقعي ترسم الصياغة السردية شخصية “مانويل” كلاعب كرة فائق المهارة:
وفي أحياء الفقراء لا يولد لاعب مثله كلَّ يومٍ. في قدمه مغناطيس يسحب إليها الكرة. يدور حولها حتى تدوخ. يجري بها في خط متعرج ويصل إلى المرمى. يصوِّبها طلقة في الهدف. أدار ظهره للحارس، في واحدة من المباريات، وطوَّح بالكرة إلى الخلف. طارت من فوق رأسه واستقرت في الشبكة. لم يسجِّل أحدٌ قبله هدفًا بالمقلوب. صار اسمها تسديدة مانويل. (ص98).
فتجاوزت كاريكتورية الشخصية، كما هنا في هذا المقطع، إلى “كارتونية” حركاتها، في مبالغة وصفية لمهارة الشخصية/ اللاعب التهديفية حيث يسجِّل هدفًا بصورة كارتونية أقرب إلى مسلسل كارتون “كابتن ماجد” في مبالغة سردية لم تفد السرد ولم تضف إلى تشكيل الشخصية، بل إنَّها، في المقابل، تُضعِف السرد بمثل هذا الإفراط في التصوير الكارتوني والرسم الكاريكتوري للشخصيات الذي يسلبها كثيرًا من واقعيتها المطلوبة، ويضعف قدرة التخييل السردي على الإقناع الفني.
لغة السرد وارتكازها الاستعاري
تعتمد إنعام كجه جي في روايتها صيف سويسري لغة وصفية للسرد عبر أصوات الحكاية، إما بضمير المتكلِّم مثلما يحكي “حاتم الحاتمي” عن نفسه، أو بضمير الغائب عندما يحكي الرواي العليم عن باقي الشخصيات وتكاد لا تختلف لغة حاتم الحاتمي عن لغة الرواي العليم في السرد عن شخصيات الرواية الأخرى، وجاءت لغة الوصف السردي في الرواية لغة بورتريهية في رسم الشخصيات، كما تعتمد لغة الوصف السردي بشكل لافت على التشكيلات الاستعارية التي تشغل مساحة غير قليلة من رقعة اللغة الساردة.
ومما تؤديه الاستعارة من وظائف في لغة الوصف السردي عند إنعام كجه جي في صيف سويسري التعبير عن الشخصيات ومواقفها وتكويناتها، ويغلب على معظم البنية الاستعارية في هذه الرواية سمت التركيب، بتعدد المشبَه به أو بتعبير المشبَّه به عن حال مركَّب للمشبَّه، كما في الوصف السردي المعتمد بشكل أساسي على الاستعارة لشخصيتي الدكتور “بلاسم”، و”سندس”، وتجيء شخصية الدكتور “بلاسم”، أو “حلال العقد”، كما لقبته “سندس”، ابنة بشيرة، لتمثِّل مع شخصية “سندس” جيلاً شابًا قضى الشطر الأكبر من عمره بعيدًا عن العراق، ولم يعرف الشطط العقائدي واللوثة الأيديولوجية كما أصاب الأجيال السابقة، وبالمثل تأتي شخصية “سندس” تمثيلاً لجيل عراقي لم يصبه داء الأدلجة ويكون عمل الدكتور بلاسم هو متابعة المجموعة المختارة لاختبار الدواء الذي سيُجرَّب عليهم لتخليصهم من معتنقاتهم الأيديولوجية:
كان يساعدهم وهم يقومون بالتنقيب داخل ماضي كلٍّ منهم. تقشير الثمرة المهترئة. ولم يكن الوصول إلى النواة يسيرًا. وهناك سندس، المخلوقة المختلفة. نبع الماء الصافي في بحيرة متعكرة. (ص ص42- 43).
في تعبير لغة الوصف السردي عن السمت المائز لشحصيتي الدكتور “بلاسم”، وسندس في علاقة كلِّ منهما بالآخرين، مجموعة العراقين الأربعة الذين أتوا بهم إلى مدينة “بازل” السويسرية لخوض اختبار تجريب عقار كميائي يشفيهم من ماضيهم الأيديولوجي والعقائدي، ثمة اعتماد على استعارتين مركَّبتين، كما في وصف “سندس”: (نبع الماء الصافي في بحيرة متعكرة) لتعبِّر الاستعارة المركَّبة القائمة على التجسيد عن التقابل الحاد بين شخصية “سندس” الفتاة الشابة في صفائها الفكري في مقابل تلوُّث الآخرين، الذين يمثِّلون جيل عراقي كهل تلوَّث بالأيديولجيات، فجاءت الاستعارة)-رغم استهلاكها- دقيقة ومعبِّرة عن التقابل الشديد بين حالة الصفاء التكويني في مقابل التلوث الشخصي بالأيديولجيات، أما الاستعارة الأولى التي تمثِّل لعمل الدكتور بلاسم على تخليص مجموعة العراقيين من تعالقات ماضٍ صعب ومعقَّد نفسيًّا وإنسانيًّا، فجاءت الاستعارة المركَّبة التي أرادت التعبير عن اهتراء الشخصية العراقية، جراء ما قاسته من ويلات وما عاينته من أهوال طاحنة من ناحية، وصعوبة المهمة المطلوب تأديتها باجترار هؤلاء لدواخلهم النفسية والبوح بما في أعماقهم الشعورية: (تقشير الثمرة المهترئة. ولم يكن الوصول إلى النواة يسيرًا) باستخدام استعارة الثمرة المهترئة كمشبَّه به- موفقًا في التعبير عن مأساة الشخصية العراقية في اهترائها النفسي كثمرة مهترئة، لكنَّ المعنى الآخر الذي قصدته الصياغة السردية من صعوبة عملية التنقيب النفسي في دواخل شخصيات معقَّدة تراكمت بداخلها آثار الأزمات والمحن لم تكن استعارة الثمرة المهترئة في صعوبة الوصول إلى نواتها موفقة؛ حيث إنَّ اهتراء الثمرة يعني رخاوتها وبالتالي يكون من السهولة الوصول إلى نواتها، لذا جاءت الاستعارة المركَّبة غير موفقة في التعبير عن كامل مقاصد الاستهدافات الدلالية للسرد.
لذا فقد بدت رواية صيف سويسري كـ”طبخة بائتة” لم تفلح بهارات الاستعارة والتوشية اللفظية في تحسين مذاقها!
…………………………………….
(*) نشر هذا المقال في صيغته الأولى في صحيفة “المصري اليوم” بتاريخ 12 نوفمبر 2025، وهذه النسخة من المقال مزيدة ومتوسعة.





