في كتابه (بحبرٍ خفي) يتحدث عبد الفتاح كيليطو، في الاستهلال بخصوص مايُكتب بحبرٍخفي، والذي يتحول الى كتابة غير مرئية، إلا بوسائل تكشف “لامرئيتها” .وهو هنا يحاول التصدي لفكرة الامتلاء الذي يتحول إلى فراغ بسبب الإضمار في النصوص، لكنه في كتابه يقوم بمحاولة جادة لإظهار “مضمرات النص” من خلال البحث في الطبقات الأعمق.
وفي رواية جار النبي الحلو( حلم على نهر) هناك مضمرات مكتوبة بحبر خفي، على القارئ تعريضها لحرارة البحث، لكي يكشف ما يحاول الكاتب إخفائه. والحقيقة أني كنت قد كتبت بحماسة بعد لقائي الأول بتجربة جار النبي الحلو في روايته (العجوزان) والتي لم تكن بالنسية لي من السرديات المعقدة لا في لغتها ولا اسلوبها ولا حبكتها، ولا في تعدد طبقات القراءة في متنها الحكائي، بل هي عمل من النوع الذي ينطوي على لطف شديد، شيء يشبه خفقة الريح الباردة في جو خانق، ابتعد فيها الكاتب عن السرديات الكبرى، وانحاز لتلك اللمسة الانسانية شديدة الرهافة، فجاءت الرواية كما لو أنها جرس انذار يحذرنا من ضياعنا في الصخب واللهاث خلف الأضواء، ويدعونا كي نعود إلى عاطفتنا النزيهة التي أرهقها الركض خلف صور الاستهلاك بوميضها الكاذب. رواية عن اللحظات الإنسانية المشحونة بالرقة، احتفت بالسيرة المشتركة لصديقين محالين على التقاعد، يعيش كل منهما وحيدا في شقته، تقابل هذه العاطفة لغة متقشفة، بسيطة، بدون زوائد او تعقيدات.
ولم يكن ذلك كافيا لكي اتعرف أكثر على تجربة جار النبي الحلو، فكان لابد لي أن أقوم بمحاولة أخرى لتعزيز علاقتي بتجربته، قراءة عمل قديم مثلا، فاقترحت على نفسي رواية (حلم على نهر) وهي رواية صدرت قبل أكثر من 22 عامًا.
العمل هنا مختلف عن رواية ( العجوزان) فقد تعقد قليلاً فيه بناء الجملة، وتعددت فيه مستويات القول، وتحملت الحكاية رموزا، ودخلت في المتن قضايا عامة على شكل إشارات ومؤثرات، وكان لابد لي أن أذهب في النهاية إلى طبقات أعمق لكي أمسك بمقاصد القول.
كانت الملاحظة الأولى أن البطل الفردي في بنية النص تحول إلى جماعة تحاول أن تصنع شروطًا لديمومة حلم مشترك على ضفة النهر( النيل حارس مصر من الشمال الى الجنوب). مستجيبة للتغييرات التي طرأت على العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان لابد من توجيه الكاميرا في اكثر المناطق بعدا عن التوقع لكي نلتقط صورة واضحة للعمل. فبطل رواية (حلم على نهر) يظهر في البداية كما لو أنه يخرج من كتاب الف ليلة وليلة، وهو يحتفظ فعلا ببعض الكتب منها كتاب الليالي، وهذا الأمر جعله أكثر استعدادا لتلقي الأحلام من غيره، فهو يمتلك المعرفة التي جعلت الصياد يختاره، ليلقي عليه وصية الحلم، وفنيته في البداية، وحتى اللغة كانت تحيل ألى أجواء كتاب الليالي، لكن السرد يتغير في الفصل التالي حيث انتقل الحلم من منطقة المنامات وأحلام اليقظة والخيالات الى الواقع، الوقت الذي قرر قيه البطل بناء بيته على ضفة النهر. استجابة لوصية الصياد الذي خرج من النهر على بغلته، هنا تحدث تحولات في اللغة من الشعرية الى المتقشفة، الى نوع من المونولوج الشبيه بالرثاء، وهو المنطقة الاخيرة في الحكاية، والتي يمكن وصفها بمنطقة الخيبة.
.
والحكاية في مستواها الأول تبدو بسيطة، رجل يدعي (سيد) يخرج من بيت العائلة الذي يقع في أحدى حارات مدينة المحلة الكبرى، مع اولاده وزوجته متتبعا حلمه في أن يكون له بيت على نهر هو واحد ن فروع النيل، بيت ربما صار قصرا فيه حديقة، اشجار فواكه وازهار، وقد اثث فضاء مبهجا لهذا البيت حيث تحيط به الشوارع الفسيجة فيما بعد، والبيوت الغافية تحت ظلال الأشجار.
وعلى مدى خمسة وعشرين عاما، هو زمن الحكاية، يواصل البطل حلمه في بناء بيته الذي تغيرت صورته مع الوقت، استجابة لتغير العالم من حوله، لقد كان يريده قصرا تحيط به الاشجار وتنغش فضاءاته رائحة الورد. يحده من الشمال والجنوب طريق واسعة نظيفة، و كان هذا الحلم متزامنا مع هطول التغييرات التي كان من مظاهرها وصول الماء الى القرى والكهرباء وبناء المدارس للفلاحين، والاشارة هنا إلى الثورة التي نقلت مصر من عهد الملكية الى الجمهورية، وكان واضحا موقف البطل منها، فقد ظهر كارها للانكليز والباشوات والملك، مناصرا للعهد الجديد باعتباره حلما، لكن هذا الحلم انحرف إلى منطقة الخيبة عندما تم ردم النهر.
هنا من هذه النقطة ( النهر) يمكن لنا اعتبارها رأس الخيط الذي سوف يقودنا الى مقاصد النص الأساسة، فالنهر هو مصر، هو الحضارة والتاريخ والحياة والناس، وهو المكان التي تخرج منه الأحلام ايضا، كما حدث للبطل في الفصل الاول، إذ أنه تلقى أحلامه من صياد يخرج على بغلته من قاع النهر، لهذا ينتهي حلم البطل عندما يُردم النهر ويذهب الصياد، فيتحول المكان الحلمي المشبع برائحة الورد، وأشجار الرمان والبرتقال الى فضاء تخنقه رائحة العفن القادمة مع انتشار العشوائيات ومخلفات المصانع، حيث تظهر الخيبة في سرد الفصول الأخيرة.
لقد كتب جار النبي في هذه الرواية تاريخ مدينة المحلة الكبرى وهي مزروعة في منطقة الحلم قبل بناء البيت، لكنه في النهاية عرض لنا الفساد الذي شمل الصورة أمام زحف مدفوع بقوة الأنانية والاستهلاك، واستبدال الأرض والحقول بما لايشوه الحلم ويجلب العفن، في النهاية وجدتُ أن هذه الرواية هي خطاب انكسار لجيل من الحالمين بعالم افضل، وبيان تصدع نفسي يعبر عن خيبة المصريين، لقد وقف بطل الحكاية (سيد) مخذولا أمام ابنه (جابر) والذي لم يكن سوى تمثيل للجيل الجديد، جيل النهر المردوم الذي لم يعد ممكنا انتظار صياد يخرج منه ليلقي على الناس وصايا الحلم.