صرح الخيال ومشروع الهوية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي قطب

العنوان العربي الذي اختاره الشاعر والمترجم بسام حجار لرواية “أم” التي كتبها سليم نصيب بالفرنسية هو “كان صرحا من خيال”، وهذه إحدى قضايا استراتيجية الترجمة أو مدى التغير في معالجة العلامات بين النص الأصلي ويطلق عليه النص المصدر، والنص المنقول ويسمى النص الهدف. وكلا العنوانين هنا يطرح رؤية ثقافية بصدد أم كلثوم تلك الشخصية التي يمكن وصفها بأنها عاكسة لمكونات الهوية المصرية العربية.

“أم” الموجز المختصر الجامع الضام هو اختيار سليم نصيب العربي الشامي الفرنسي الإقامة والعمل والحياة إنها بالنسبة إليه كأم، إنها الجذور التي يبحث فيها عن تلك الأمومة الشرقية البعيدة، حقا هذا هو اسم أم كلثوم في السياق الغربي الذي وقفت على أهم مسارحه في الأوليمبيا بباريس تشدو بالأطلال مستعيدة زمن حضاري عربي ضارب في تاريخ قديم له حضور عاطفي قومي بعد النكسة، إنها أم بالمعنى الثقافي بخاصة المفهوم المصري لدور الأم التي تتمثل في إيزيس بقدرتها على جمع شتات جسد الأب وإحياء وجوده وذكراه وأم كلثوم قامت بهذا الدور منذ بدايتها في عشرينيات القرن العشرين، لقد جمعت جسد الثقافة الذكورية واقتنصت بجاذبية ذكائها الريفي مشاعر أعلام الفكر المصري وأيقونات أنغامه، رعتها أسر عريقة ووضعها الشيخ أبو العلا – حبها الكبير – على الخط الذي ستنطلق في مضماره سابقة كل من حولها، وغذاها رامي أمين دار الكتب بالمكتبة العالمية العربية الشرقية والغربية، والمرتكز الذي انطلق منه سليم في قصة حب رامي لأم كلثوم هو رباعيات الخيام التي يبحث لها رامي عن صياغة عربية وصوت يقدمها فكأن طائر الشعر الشرقي الذي حلق في مخيلة رامي حط على نافذة أم كلثوم لتعبر تلك الروح المعذبة بمباهج حياة لا تكتمل أبدا وشوق لخلود روحي تستقر فيه حيرتها، أضف إلى ذلك صوت بيرم المعبر عن الشارع وإيقاع زكريا المتردد في الدروب والأزقة ومحاولة القصبجي القفز إلى العالمية وإدراك السنباطي لخصوصية ذاك الصوت الشاعر القادم مثله من القرية المصرية، كيف تتوفر في شخصية ما تلك القدرة العجيبة على استقطاب العقول الرهيبة المؤرقة بذاتها والباحثة عن مجدها؟! لقد ارتضى الجميع بأن يكونوا في الخلفية التي تتصدرها الست ذاك اللفظ المصري الخالص الذي لم يشر إلا لأم لكلثوم وكأنها جمعت سمات النسوية الشاملة القادرة على استيعاب تلك الطاقات المتألقة لتكون حلقة الوصل بين المثقفين والجماهير.

إنها بالفعل صرح الخيال كما وضع بسام حجار عنوانه، فأي مشروع عبقري ناجح لابد أن يكون نابعا من خيال، لقد استطاع ذاك الخيال أن يتشرب نهر التاريخ والواقع ويتدفق به راويا أشجار جديدة وكم من أجيال بعد أم كثلوم تحب وتتحدث وتعبر عن نفسها بعبارات أغانيها التي تجري مثل الأمثال، إننا في حاجة إلى الخيال ليدعم مشاريع الواقع ويصل بين الأجيال والطبقات وأشكال الثقافات النخبوية والشعبية كما فعلت أم كلثوم وبجوارها أمين مكتبة الغناء العربي أحمد رامي.

إن الصياغة العربية للرواية التي قام بها بسام حجار مشرقة ملهمة تستعيد زمن تكوين المترجم نفسه كأنه تماهى مع رامي وكأن أم كلثوم مست أعماقه فأصبح أحد عشاقها مع المجموعة التي وهبتها إبداعها وإن كان بالرواية بعض الأخطاء التاريخية تدعو للتأمل في المعالجات الروائية للتاريخ فبعض الشخصيات مثل بيرم وزكريا تعيش بعد النكسة مع أن الرواية تخضع لتصنيف الواقعية التاريخية وليست من الفانتازيا، والمؤلف الذي بذل جهدا كبيرا للإلمام بدقائق تفاصيل حياة رامي وأم كلثوم كان يستطيع تجنب ذلك بسهولة.     

 

 

مقالات من نفس القسم