د. محمد المسعودي
تشتغل رواية “جسر النعمانية” (منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2024)، انطلاقا من عدة تيمات نذكر من بينها: العبور والنزوح والهجرة، وصراع الحدود والإيديولجيات، وتعدد الهويات والإثنيات، والعنف، والاغتيال… وغيرها من الموضوعات التي تندرج في سياق سردية عامة يمكن تسميتها ب”سرديات الهوية” كما تنص عليها الدراسات الثقافية، وما يرتبط بها من أفق تخييلي سردي.
في صلب هذه الإشكالات تخوض رواية “جسر النعمانية” التي تجعل مسرحها فضاء متخيلا غير محدد على خارطة العالم الذي نعرفه، لكنه تمثيل سردي لهذا العالم، وتأويل فني لأهم قضاياه الإنسانية التي ازدادت طغيانا وبروزا مع الألفية الثالثة وتغول الرأسمالية المتوحشة والصهيونية العالمية. وهي قضايا تعرفها جميع الأمم، ومختلف الشعوب المعاصرة، إذ طغت الصراعات الإيديولوجية والعرقية والسياسية، وحولت الحياة إلى مستنقع عفن يصعب التنفس فيه، ويصعب تحقيق قيم الحرية والخير والمحبة والسلام فيه.
إننا في رواية “جسر النعمانية” أمام رواية تقدم تمثيلا سرديا عن أوضاع صراع (الذئاب القرمزية-الذئاب البيضاء) كان من أبرز ضحاياه أفراد عديدون من عائلة واحدة، وبعض ممن أحاط بهم من الجيران أو الأقارب، فضلا عن سكان قرى عديدة؛ وانتقل إلى مدن كثيرة، كما عبر الحدود إلى جغرافيات أخرى ليصير صراعا عالميا تدبره أياد معلنة وخفية. ومن ثم كانت له تداعيات على جميع الشخصيات الروائية، وعلى علاقاتها الاجتماعية، كما كانت له أبعاد دالة شكلت سردية غنية وممتعة في الرواية.
لن نلخص -في هذه الورقة- أحداث الرواية، ولن نقف عند تسلسلها وطريقة بنائها لأن هذا الأمر نتركه للقارئ، وحتى نحفزه على العودة إلى الرواية، بينما سنركز على موضوع قراءتنا بحيث نرصد ما يتصل بصراع الهويات في النص وتجلياته وآثاره على الإنسان الذي تمثله شخصيات الرواية وتقدم صورا متنوعة عن معاناته وعن تفاعله مع مجريات الوقائع والأحداث.
يركز السرد الروائي في “جسر النعمانية” على تمثيل قتال هوياتي وإثني واضح يعد بؤرة الرواية، وهو صراع تتدخل فيه أطراف متعددة تنتمي إلى بقعة ما من بقاع العالم من جهة، وتتصل بأطراف أخرى تؤدي أدوارا شتى في تأجيج النزاعات وتوجيهها حسب مصالحها، وهذه الأطراف الخارجية -المعلنة والخفية- تقوم بالدور الأبرز في هذا السياق من جهة ثانية. وبذلك، فإن الرواية تشكل من خلال هذا التضارب الهوياتي والإثني وتبعاته مجالا واسعا في متخيلها لتكشف من خلاله جوانب من الواقع الإنساني المعاصر الذي طغت عليه الصراعات والحروب بشكل خطير، وهي ظاهرة تستفحل يوما بعد يوم، وتزداد تواترا.
يقول السارد في مقطع دال من الرواية:
“الطريق من مطار أركانيا إلى قلب المدينة ليس الطريق الوحيد المزروع بالحواجز والسدود العسكرية للمراقبة والتفتيش. كل الطرق ومشارف المطارات ومحطات السكة الحديد ومداخل الموانئ وضعت تحت حالة تشبه حالة الطوارئ غير المعلنة، بالرغم من الدعاية الرسمية الواسعة لعملية حل الذئاب البيض والتغطية المكثفة للجان تسلم عتادها، على عكس منصات وقنوات وصفحات وجرائد مجموعة الحمدولة العالمية التي تجاهلت الخطوة تقريبا، وبدأت تدريجيا في التركيز على الموضوع الأهم، انشقاق جناح لوناس ماصي واعتباره الخط الرسمي للذئاب القرمزية. هكذا كتب بابلو غيريرو دياث في عدد من يومياته الشهيرة كرونيكاس ديلسور والمتواجدة على جميع منصات الشبكة التابعة للحمدولة واصفا لوناس ماصي بأسد أركانيا مع صورة ملونة له وهو يحيي وحدة من وحدات المليشيات التابعة له. بالرغم من أن الكثيرين علقوا على المقال واتهموه ب”البروباغندا” ووصفوا الصورة ب”المفبركة” إلا أن شعب بابلو كما يحلو لبعض المعلقين وصف متابعي كرونيكاس ديلسور، الذين تجاوزوا العشرين مليون متابع بكثير. بالرغم من كل هذا الإنزال الكبير للقوات العسكرية والشرطة إلى الشوارع لضبط الأمور، إلا أن الحوادث والصدامات كانت قد قلت بشكل ملفت..” (الرواية، ص. 487)
هكذا يقف هذا المشهد الذي يصور حالة استنفار في أركانيا في سياق محاولة السلطة فك قوة الذئاب البيض ليصور تلاعب الإعلام بالعقول والحقائق وليقدم صورة دقيقة عن تدخلات خفية في سير الأمور بالبلاد، هكذا ففي حين كان جانب من الإعلام يرصد حركة الجيش والشرطة ومحاولته الوقوف في وجه تحركات الذئاب البيض، كان نوع آخر من الإعلام يركز على انشقاق جناح لوناس ماصي عن الذئاب القرمزية واعتباره الخط الرسمي لهذه المنظمة السياسية في سياق محاولة دعائية لإذكاء فتيل الصراع وتأجيجه. ونلمس في المقطع كيف يقف السارد عند دور الإعلام سواء من خلال شبكات الحمدوله أو ما يتصل بها من مثل يوميات بابلو غيريرو دياث لتؤثر في مجريات الوقائع والأحداث، بما يجعل الصراعات الإثنية والهوياتية والسياسية بفعل فاعل وبدوافع اقتصادية إيديولوجية لمن يملك المال والشركات المختلفة والشبكات التواصلية الموجهة للعقول والأفراد والمؤسسات. وبهذه الإشارات الذكية نستشف نقدا واضحا للدور الخطير الذي تقوم به مختلف شبكات ومنصات “الإعلام” و”التواصل” في حياة الشعوب المعاصرة.
ونتبين من خلال قراءة الرواية أن عبد النور مزين لا يقدم رؤيته النقدية والتحليلية لهذه الصراعات وتجلياتها وتشابكاتها من خلال سرد تسجيلي مباشر، ولا من خلال ثقل فكري حواري يلقيه على لسان شخصياته، كما نجد في بعض النصوص الروائية التسجيلية أو السرديات التي تجنح نحو الفكر وتبتعد عن الفن، في حال معالجتها مثل هذه التيمات الشائكة؛ وإنما يسوق رؤيته الروائية من خلال وجهات نظر شخصياته ومن خلال تفاعلها فيما بينها، وهي تخوض صراعاتها الوجودية، وتترجم عن اختلافاتها الإنسانية والإيديولوجية. فمن خلال محكيات خاصة بعدد هائل من الشخصيات تقدم لنا الرواية مشهدا بانوراميا موسعا للإشكال الجوهري فيها، كما تصنع عالمها المتخيل وفق بناء درامي يجمع الملهاة والمأساة في ضفيرة فنية محكمة ومعمار سردي حيوي لافت للنظر في السردية العربية الجديدة.
فهل حكاية “جسر النعمانية” هي حكاية واحدة أم حكايا عدة؟ وهل محور الرواية شخصية واحدة بطلة أم شخصيات عديدة تقتسم فيما بينها البطولة في سياق الصراع الدائر؟ وهل الصراع في هذا النص صراع من أجل وطن ما أم صراع قرابة وإثنيات عرقية ما؟ بمعنى آخر هل هو صراح موحا وناصر ابني العم وأسرتيهما أم هو صراع السعيد والكبير وتزيري وغيرها من شخصيات الرواية؟ وهل هو صراع “الذئاب القرمزية” ومن عاداها وناوءها؟
مما لا شك فيه أن الرواية، وهي تخوض في تصوير هذا الصراع في سياق خيالي مفترض تجعل سرديتها شاملة لقضايا وإشكالات إنسانية كثيرة تتجلى في محكيات مفصلية كبرى تتخللها أخرى صغرى، وعبر تضافر هذه المحكيات جميعا وغناها تصنع الرواية عوالمها المتخيلة، وتقدم صورا متنوعة لمعاناة أوطان وشخصيات ومؤسسات في ظل واقع ملتبس متفجر قوامه الموت والفجيعة والفراق والهجرة والنفي والتهديد المستمر للحياة، ومن ثم كانت “جسر النعمانية” بمثابة نشيد لانتصار الحياة وقيمها الإيجابية. ومن ثم كانت رواية معنية بمآلات الإنسان ومآلات القيم الإنسانية في واقع مأزوم مشروط بتحكم أياد شريرة تتحكم ظاهرا وعلنا في مصائر الأفراد والأمم.
ومن هنا يمكنني القول إن الرواية هي حكاية ناصر وتزيري والسعيد والكبير وماوية وموحا ومسك وآمنة وشريفة والصافية وأم السعيد وأم مسك.. وغيرها من الشخصيات التي تعد تمثيلا للإنسان المعاصر، كما أنها حكاية الأماكن المتخيلة في تمثيلها لمدن وقرى نعرفها في مساحات جغرافية شتى، وحكايات مقاهي وبيوت وفضاءات متنوعة، لكنها تبقى رواية “الجسر”: جسر النعمانية الذي شكل بؤرة في المحكي الروائي، وهاجسا أساس لأحد أبرز شخصياتها، وهو السعيد. ومن ثم يعتبر هذا الجسر رمزا لاستمرار الحياة والانتصار لها، ورمزا للأمل والتشبث به، إنه جسر الاستمرار والبقاء، تماما كما حضر في روايتي “جسر على نهر درينا” و”حين تركنا الجسر” للروائيين إيفو أندرتش وعبد الرحمن منيف.
انطلاقا من كل ما سبق نؤكد أن رواية “جسر النعمانية” رواية تشتغل من أفق قضايا فكرية وفنية متعددة ومتنوعة تنخرط في تصوير واقع حياتنا المعاصرة عبر متخيل يتقاطع مع الواقع لكنه يشكل رؤية خاصة بالروائي تعبر عن وجهة نظره، وتأملاته إبداعيا فيما يجري حوله. ومما لا شك فيه أن رواية “جسر النعمانية” هي امتداد للأفق الجمالي في رواية الكاتب السابقة “رسائل زمن العاصفة”، بل هي مغامرة فنية على مستوى الصياغة تغيت التفوق على النص الأول وتجاوزه. وقد نجح عبد النور مزين في تحقيق هذا الرهان في نصه الجديد بإمكاناته التعبيرية والفنية الغنية.