صديقي العزيز علاء

صديقي العزيز علاء
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مجاهد الطيب

 (1)

الآن ، عندما أقترب من نصوص علاء يمثُل أمامي راو شعري ( بالمعنى الواسع للشعر ) ، هذا الراوي البادي منذ عمله الأول ( الجسد عالق بمشيئة حبر( يظل ممتدا نثرا  وشعرا مرورا بالتجربة الفارقة أمكنة ، الكتابات تصنع شريطا طويلا .الحياة أم الكتابة ؟  اللقطات البعيدة – بفضل الراوي الممتد – اكتسبت حسا يتبدل  ، التبدل يتصل بكون الشريط يتحرك ، بكون الحكاية هي الراوي ذاته ، الحكاية تتكرر بعض مشاهدها في أكثر من عمل ، كأنها تأتي لتشهد على أن الراوي لم يعد هو ، أن الشريط يتحرك بالفعل . الكتابة هنا تعول على الراوي أكثر من المرويّ. اللقطات التي تراكمت مع السنين تستهدف أول ما تستهدف – طبقًا لمقصد الراوي –   معاينة الراوي + السنين  بإزاء الحكاية . إذا استخدمنا تعبيرا من خطوط الضعف :معاينة ما أفضى إليه النزاع الطويل – كتابةً– بين ( الذات المراقِبة والذات المراقَبة ) .

الأب الذي لا يغيب إلا ليحضر يغري بقراءة مطولة . في هذا الشريط الطويل أكثر ما أسرني مشاهد الأم . 

(2 )

القراءة  تقطعها حكايات ومناقشات ،  تمتد القراءة تلضم أجزاء من النصوص بأجزاء من الحياة بشوارع ومقاهٍ ، بأصدقاء وأهالي داخل الكتابة وخارجها ، بكلام  في الصباح والمساء ، بوجوه سهرت مرة على قهوة صغيرة جدا ، لكن خارجها وِسْعًا استرحنا له ،  القهوة يقابلها حمام شعبي تخرج من إحدى زواياه عربات الفول في الصباح الباكر ، الباكر فعلا  ، ( ستجد هذا بطريقة ما في كتابة لمجدي الجابري وأخرى لعلاء وفي حكايات أخرى ) لماذا هذه الليلة بالذات ؟  لا تقف النصوص مفردة ، تستند إلى هواء طلق قد لا يرتبط بها مباشرة ، لكنه يمثُل فعلا  .

إذا تعب المقهى يكتمل الكلام في مقاه أخرى، إذا بدا أن الكلام لن ينتهي سيأخذنا مجدي الجابري إلى قهوة موسى عطية ، هي ليست قهوة سهرانة بالذات ، هي في قارة أخرى، ليلنا نهارها . يصبح لنا نهاران  .

 (3)

كان الكلام متوفرا ربما أكثر من اللازم ، الطلاقة على قدم وساق  ، يمكن أن تتعلم اللغة لو زرت الأتيليه وترددت على ندوات كثيرة كانت تُعقد ، كانت الذائقة ابنة الكلام وغيره تودِّع بطلاقة لا تُحسَد أمل دنقل ، وتحتفل بإعادة اكتشاف أدونيس وعفيفي مطر ،ضمن عمليات الإحلال والتبديل التي يقوم بها الوسط الثقافي من آن لآخر . كان ثمة معارك أدبية تذكِّر – بالحرف – بمعارك شعراء الديوان ، بـ (جسارة )العقاد في مواجهة شوقي ! تعتمد نفس المنطق- الإزاحة ، تذكِّر بقصيدة حجازي الشهيرة في مساجلته مع العقاد ، الملاحظةتتعلق بأن الزمان دار دورته الخاطئة أو المستحقة ، صار العقاد- بجهد ذاتي – رمزا للجمود ، وسيعود حجازي فيما بعد ليلعب دور العقاد ، وربما سيتقمص الرافعي نفسه !هل سيعود آخرون بعد حجازي أم أنَّ المشهد بكامله تفكك ؟ لم يعد له صاحب .تعدَّد ؟ هذاأفضل.

أهم ما لفتني إلى علاء في اللقاءات الأولى ( قبل الجسد عالق بقليل وبعده بقليل ) ، أنه كان يتوقف أثناء الكلام مع نشاط زائد للغة الجسد ،يقوم فجأة ، يضع رجلا على رجل فجأة ،  ينظر إليك راجيا أن تفهم ( بالحدس )  أو تنتظر بتفهم لما سوف يقوله وإن طال الانتظار  ، يتوقف أثناء الكلام ليرفع رأسه إلى السماء ، كأنها ستمطر الكلمات المناسبة ! يتعثر باحثا عن طلاقة لم تحضر بعد ، يصر على استخدام ” الطلاقة ” الغائبة لأنها أقرب إليه. الطلاقة ، في شكلها الأشيع -كمهارة ، لا تتعلق بالدقة ، ترتبط أكثر  بالتفعيل الأمثل لمعجمك (وإن ضاق) ، لأنماط التعبير السائدة وقدرتك على أن تقول جديدا بالقديم . بدا لي علاء هنا مُصرّا على التلعثم ، حتي يقضي الله أمرا ، بالنسبة لي كان هذا محببا ليس لأنه – فقط – يحتفل بالفردية ، لكن لأن النقاش والحالة هذه يتخير– عن عمد – نكهة الصداقات الحقيقية ، التعلم ، التعويل على سرد خاص ، وإن كان حاضرا بغيابه  ، الفرار بالصمت وبالتلعثم من السردية العمومية. هل في هذا ما يفسر أن ديوان علاء الأول كان شخصيا بامتياز؟ كان هربا من مآس عمومية حضرت في شعر كثير ، منه ما هو رفيع وحقيقي  ، لكن كل ما هناك أن آخرين– في زمن ذهب بالفعل –  قالوه  ، هل يمكن أن تبدأ من نفس البداية ؟ ليس هذا هو السؤال ، ربما يكون : هل الشعر يستجيب لشواغل قائليه  أم لتصوراتهم عن الشواغل التي تليق بالشعر ، الحقيقة  هي ليست شواغلهم بصفاء  ، ما يليق بالشعر لا يسبق الكتابة . انحسم السؤال في التسعينيات .لا أقصد هنا ديوان علاء فقط ، هناكنصوص شعرية  أخرى أصرّت ، في هذا الزمن الذي يبدو بعيدا الآن – أن تكتب عما تعرفه ؛ لأن ( العام ) صار في عزلة دون أن يدري ! ،صار أقرب إلى تراث ، صارت أسرار طلاقته – مبكرا – في عهدة  الباحثين ، ومن قبل وهذا هو الأهم في عهدة المغرمين بالشعر العابرين لفكرة الجيل والعصر وما شابه ، الزاهدين فيما حوله من قضايا ومعارك ليست منه. محبو الشعر أحيانا ينقذون الشعر من الشعراء أنفسهم .

(4)

في ألم خفيف تحضر يويو في الخطابات  الشفيفة، صمتها يحفظ الجمع ، وينشر إيقاعا هادئا يفرض نفسه لكونه عمارا داخليا بالأساس  ، وهي من قبل تصون – بصمت من طراز رفيع – الكلام ! الكلام الذي سوف يتسلمه  أحد أبنائها لكونه ” الحِنيِّن “، يتمكن من فك شفراته . الابن الذي يتوقع موتها قبل الآوان ، يتوقعه لأنه الحادثة الأكثر ألما . يكتب علاء في خطوط الضعف قبل وفاة أمه بنحو عشر سنوات ( موتها منذ زمن بعيد هوالجارف ، لذا حفرت فيه بعمق ، وصنعت له مشاهد كأن وجودي  لن يتحقق بألم أقوى من هذا الألم)

في  مشهد هام من مشاهد هذا الشريط الطويل سيرسل إليَّ علاء ديوانه تصبحين على خير (أقرب دوواين علاء إليَّ ) …. .

كنا نجلس أنا وعلاء مرة في الجاليرى ( مكان عمله ) دخل فتاة يعرفها علاء ولا أعرفها صبَّحتْ ، سألتْ عن شيء ما ولاحظت أننا منخرطان في كلام لا يبدو له آخر  ، فأستأذنتْ بأدب جم ، واختفت لكن حضورها لم يخفت إلا بعد وقت ،  وهذا ما غيَّر دفة الكلام قلنا معا  بلغة هذا الزمن ( فيها حاجة كويسة ، مش عارف ، مش فكرة الحضور بالذات  ، فيها طِيْبة؟) استقررنا على كلمة الطيبة ،  كنا نتكلم عبر ترددين مختلفين . سار الكلام في مسارات محببة إلا أن ( الطِيْبة ) ظلت بعيدة ، غادرت مع الفتاة ، الطيبة التي كنا نعنيها ساعتها ولم نوفق في تسميتها ، والتي اندلعت بفضل الفتاة  قد تنفع صاحبها لكن بشرط ألا يفكر في ذلك أبدا وإن بينه وبين نفسه . لماذا اتذكر هذا الآن ، لأن السيدة يسرية الجميعي ( ورد الاسم بالكامل  في خطوط الضعف )  أحد الظهورات الحية للطيبة ، هل أعرفها جيدا ؟  في أطراف الحديث القليلة التي  تجاذبناها ، في ردها على التليفون لما يكون علاء خارج البيت ينطلق صوتها بترحاب وحماس يخصك ولا يخصك ، ( لا يخصك ) هذه هي بالضبط برهان  الطيبة ، استعداد للمحبة في كل الظروف واللي يجيبه ربنا بعد كده خير إن شاء الله (إزيك…عاااامل إيه ؟ عايزين نبقى نشوفكوا ) ، هي تزعق  في التليفون ، ليست تلك الزعقة المرتبطة  بنشأة التليفون ، أعني تشككالمتكلم في أن بوسعه أن يكلم البعيد جدا بنفس النبرة ، لكن هناك شيئا آخر أهم هي تصرخ لتصل طيبتها كاملة ، الكلام في حد ذاته ، الكلام عموما ليس هو المهم ، لأن ما يلتقط الطيبة هو بكل بساطة أمر يتعلق بـ ( القلب وما يريد ) .

كنت اتكلم عن تصبحين على خير ، فورًا أثناء القراءة وخلالها ، قام حوار طويل بيني وبين علاء  (في غيابه) ، ربما كان أهم الحوارات.

أحيانا تعطل إرادةَ القلب إراداتٌ تبدو كأنها من القلب .أحببت هذا الديوان ، بكل هدوء ، دون  تشويش ، بإرادة القلب .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم