صاحبة الجاكوار

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش
الزمان: 1989، ذات أربعاء.

المكان: كلية علوم التربية، الرباط.

في الطريق يخترق الصديقان مركب الحي الجامعي، يمشي (سي محمد) في خطوات رياضية واسعة، سريعة وواثقة، تتسارع خطواته وتتباطأ في إيقاع منتظم بشكل يتناغم مع هواجسه التي تمور بداخله، يمشي قاصدا، يده اليسرى تتأبط كتابا، وتنحشر في جيب بنطلونه أو في جيب سترته، سترته التي يحرص دوما على أن تكون ياقتها مرفوعة بشكل أنيق إلى الأعلى وكأنه يتقي برودة طقس افتراضي، عادة لا ينظر (سي محمد) إلى الواجهات الزجاجية، ولا تستوقفه لوحات الدعاية التجارية، حتى واجهات المكتبات لا تستوقفه إلا عندما يقرر اقتناء الكتب، ولكنه بالمقابل يتوقف فجأة، يتوقف صامتا للحظات، فيبدو حزينا، يشبك يديه أمامه في وضعية صمت وخشوع إجلالا لحرمة الموت والموتى عندما تمر الجنائز، وبنفس الصمت، ونفس الخشوع الهندوسي يتوقف في كل مرة تمر أمامه شاحنة (براسري المغرب) لنقل الخمور…

يوزعان الأدوار بينهما وكأنما يلعبان لعبة خفية، نوع من التواطؤ الصامت بينه وبين (المامون) والذي – من جهته – لم تكن تستوقفه إلا السيارات الفارهة والنساء الجميلات.

بعد سنوات طويلة من العمل والتدبير والادخار، نجح والده في بناء بيت جديد في (حي الورود)، بيت جميل، أنيق، وبمواصفات عصرية.

في الطريق يسأله (المامون).

– والدك رجل مكافح، وأفترض أنك سعيد بالبيت الجديد؟

يسجل (سي محمد) لحظة صمت، ثم يجيب دون أن يلتفت.

– هو فعلا رجل مكافح، ولكنني شخصيا لست سعيدا بذلك…

لاذ (سي محمد) بالصمت مرة أخرى، بدا وكأنه يهيئ تتمة أو تبريرا لجوابه، ولكنه بقي صامتا، لم يسأله (المامون)، افترض أن الأمر يتعلق بترتيب الأولويات، ورؤية الناس لحياتهم ومصيرهم، فبينما يفكر الآباء في الاستقرار، والتقاعد، والذهاب إلى الحج، والعودة بعدها إلى بيوتهم وقراهم، والاستعداد للموت بهدوء بجوار أهاليهم ومن يحبون، بالمقابل، يفكر الأبناء بطريقة مختلفة، يحلمون بالسفر والهجرة، والمغامرة، وركوب البحر، والبحث عن فرص النجاح والسعادة، واستكشاف الحياة في آفاق جديدة.

 

الساعة الرابعة، كان الصديقان على وشك حضور الحصة الأولى في اللغة الفرنسية وآدابها، دخلا البوابة الكبيرة للكلية، ثم توقفا، توقف (المامون) منبهرا وصامتا أمام سيارة (جاكوار) رياضية حمراء.
– وااااو… !!

– …؟

– أنظر ماذا ترى!؟

انخرط الصديقان بسرعة في رهان غريب.

– أتستطيع أن تفترض من يكون صاحب السيارة (الجاكوار)؟
– إنه ليس أستاذا على كل حال!!
كان أساتذة الكلية عادة يركبون سيارات من زمن مضى، بعضها عبارة عن تحف، قطع أثرية عفا عليها الزمن، بعضها يعود للستينيات والسبعينات من القرن الماضي!!
– أهو ذكر أم أنثى؟!
– لا أدري، ولكنني أفترض أنه شخص دنيوي بامتياز!!
– ماذا يعني ذلك؟
– أقصد أنه شخص يحب الحياة!!
– طيب، لنواصل لعبة الأسئلة، أهو شاب في مقتبل العمر؟ ثلاثيني؟ أربعيني؟ أم كهل خمسيني يشرف على التقاعد؟
– لنقل، إنه في …ربما…لا أدري!!
توجها توا إلى الكافتيريا، طلبا كأسي قهوة، وسجائر ديطاي، أشعل (سي محمد) سيجارته، واحتفظ (المامون) بسجائره في جيب سترته، فهو لا يدخن إلا ليلا، كطقس مرتبط بالقراءة والسهر.
الساعة الرابعة وبضع دقائق.

القاعة 4.

دخلا القاعة متأخرين، نظر (المامون) جهة الأستاذة، ابتسم لها، ردت هي بابتسامة أخرى مشجعة، فهمت أنه كان يعتذر.
بدأ الدرس، وانخرطت السيدة في كلام جميل عن الأدب، ومتعة القراءة والكتب، وعن العلاقة الحميمية بين الأدب والفلسفة، وعلاقات التناص، والإنصات، والتواطؤ المتبادل بينهما، التواطؤ الذي يصل أحيانا إلى حدود السرقة الأدبية…

استحضرت (ت. س. إليوت) الذي يفضل السرقة الجيدة على الاقتباس الرديء…

وطبعا، لم تنس أن تمرر رسائل صريحة لمن يهمه الأمر من الطلبة، لم تخف تبرمها من الطلبة أصحاب التوجه الإسلامي المتطرف.

– كلامهم يخيفني، في كل مرة أسمعهم، أشعر أننا لم نخرج بعد من القرون الوسطى…

قالت أيضا.

– أنا محظوظة، وسعيدة مع ذلك، لأن طلبة الفلسفة عادة متهورون وغريبو الأطوار، ولكنهم منفتحون وأذكياء!!
ينصت (المامون) بإمعان، ينظر إليها، يتأملها، يسكتشفها، تبدو سيدة في حدود الخمسين أو تزيد قليلا، تحتفظ بتفاصيل جمال صامد يرفض الإنمحاء، تسريحة قصيرة وعصرية يمتزج فيها الشعر الأبيض والأسود في تناسق عجيب، ماكياج بألوان ضاجة وقوية، ماكياج لم ينجح في أن يخفي أركيولوجيا الزمن التي ارتسمت على وجهها، ولكنه متناغم، أنيق وبدون بهرجة، يبرز مكامن الجمال في شخصيتها، وطبعا لتكتمل الصورة كانت هناك تفاصيل أخرى: معطف كشمير أحمر، شال حريري أنيق مزين برسوم ماتيسية، وحذاء بكعب عال.

ثم في لحظة ما، فتحت السيدة حقيبتها، أخرجت رواية (الذاكرة الموشومة) للراحل (عبد الكبير الخطيبي)، وضعتها جانبا وراحت تتحدث عن المرأة، وصورة المرأة، وقضية الحرية، والتحرر في المغرب وفي العالم العربي – الإسلامي.

مرت لحظات أخرى، ثم، أخرجت من حقيبتها علبة سجائر (غولواز) أنيقة، وولاعة ذهبية، وهي تتحدث كانت تعبث بالولاعة بين أناملها في حركات رفيقة وهادئة، وتنظر بعيدا وكأنها تستلهم الوحي.

يفكر (المامون) في صمت.

– إنها تهيئنا نفسيا لتقبل الحدث!!
ثم أخيرا أشعلت سيجارتها بتصميم وأناة.

التفت (المامون) إلى صديقه.
– إنها صاحبة (الجاكوار)!!
– كيف عرفت؟!
– لا أدري، ولكنها هي!!

يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا، فقد مرت سنوات طويلة، وبقي (المامون) يحتفظ لتلك السيدة بذكرى طيبة، وفي كل مرة يخوض فيها نقاشا حول جوهر الحرية والتحرر، يستعيد دوما صورتها، صورة لسيدة أنيقة، ذكية، وهادئة هدوءا يخفي روحا قلقة، منفلتة ولا تستقر على حال.

آخر مرة التقى فيها الصديقان، انخرطا في نوستالجيا قوية، تحدثا كثيرا عن أيام الزمن الجميل، عن أيام الكلية، عن التمرد وفورة الشباب وجرثومة الكتب…

سأله (المامون).
– أتذكر الأستاذة (نوال السعداوي)؟

كان (المامون) من منحها اللقب إكراما لها.
تردد (سي محمد) قليلا، ابتسم وأجاب.

– من؟ آه… طبعا، صاحبة (الجاكوار)!!

 

 

مقالات من نفس القسم