شيرين أبوالنجا: الصداقة ليست ملحقاً ترفيهياً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن عبدالموجود

أصدقاء شيرين أبوالنجا محظوظون بها. لو جمعتك بها وأصدقاء «قعدة» سترى حرصها البالغ على تقسيم اهتمامها بالتساوى على الجميع. لديها من الحساسية ما يجعلها منتبهة لأدق التفاصيل، بما فيها اختلاف أصدقائها، ولو كنت غريباً ستشعر فى وجودها بروح طيّبة وجميلة، إذ أنها ستوجّه إليك ملحوظة ما، ربما سؤالاً، وربما تعليقاً على شىء ما، هذه البساطة المغلّفة بابتسامة هى مدخلها إلى الناس وإلى الحياة.

شيرين أبوالنجا، كذلك، مثقفة من طراز رفيع. تشارك منذ سنوات طويلة فى إثراء الحياة الثقافية بمقالاتها النقدية فى الصحف والمجلات، تكتب عن أعمال ترى أنها مهمة، لا فرق بالنسبة لها بين كاتب راسخ وآخر فى البدايات، فما يعنيها فقط هو النص. أكاديمية صاحبة أعمال مهمة «عاطفة الاختلاف»، «نسائى أم نسوى»، «مفهوم الوطن فى فكر الكاتبة العربية»، «من أوراق شاهندة مقلد»، «الحجاب بين المحلى والعولمى»، وغيرها، ماذا تلاحظون من العناوين؟ اهتماماً بقضايا المرأة؟ لا عجب إذن أنها ستتحدث هنا عن أربعة سيدات.

أسألها عن معنى الصداقة فتفاجئنى: «لا يوجد شىء اسمه صديق»، وتقول: «لم أفكر مطلقاً فى تعريف للصداقة إلا عندما طرحت أنت سؤالك، حقاً ما الصداقة؟ يُبدع البشر فى الكتابة عن الصداقة فى كلام منمق بليغ ملىء بالصور والاستعارات يموج بحرف التشبيه: كأن. (تجلس مع الصديق فتشعر كأنك….) ويلى ذلك الاستهلال توصيفٌ لعمل الصديق، فهو يُحبّك ويقبلك وينبهك ويحنو عليك ويستمع لك.. إلى آخر تلك الواجبات الصعبة حقيقة. وكأن الصداقة واجب يستدعى عملاً شاقاً منتظماً يكاد يكون بأجر. وكأن الصداقة قائمة على الاحتياج المباشر لتحقيق رغبات ما، علاقة نفعية تماماً: استمع لى لأنصت لك، امنحنى لأعطيك. ولماذا لا بد أن نُعرّف الصداقة بالاحتياج؟».

تؤكد شيرين من جديد أنها لا تملك تعريفاً للصداقة. وكل ما تعرفه هو استحالة تعريف العلاقة بينها وبين أصدقائها، فهى علاقة تفاعلية وأحياناً ما يصيبها الخمول، وهى علاقة طيبة وأحياناً ما تتلبّسها الشراسة، وهى علاقة جادة وأحياناً ما يخوض فيها الهزل، علاقة صاخبة ينتابها الهدوء أحياناً، علاقة لا تنظر داخلها ولا تضع تعريفات تهيم بإعجابها، بل هى علاقة تنظر للخارج وللسياق وتسعى إلى الوصول لمعنى ما وسط ركام هائل من العبث والفوضى: «الصداقة علاقة تغضب وتفرح، تضحكنى وتبكينى، تسعدنى وتشقينى، تفاجئنى وتحبطنى، تأخذ بيدى حين أتهاوى، وتسخر منى حين أبالغ، تطرح آراء أرفضها وأخرى تنتشلنى من ورطة، الصداقة حب وكره وغيرة وغبطة. الصداقة ببساطة هى شكل حياتنا ومسارها ومعناها. الصداقة ليست هواية نمارسها فى وقت الفراغ على المقهى، الصداقة هى الأساس الذى نحيا عليه وفى ظله. وليزداد الأمر تعقيداً دعنا نقول إن الصداقة ليست ترفاً أو اختياراً أو ملحقاً ترفيهياً. الصداقة هى الأصل وكل ما عداها ملحقات».

وتذكر شيرين مقولة نُسبت خطأ لأرسطو «صديقى العزيز لا يوجد شىء اسمه صديق»، وتقول إنها تتفق معها تماماً، فالصديق -كما تذهب- ليس إلا انعكاساً لجزء من الذات لم نتمكن من تحقيقه ولم ننجح فى الإمساك به، وهو بالتالى الأنا بكل أريحيتها، وهو الآخر أيضاً بكل غيريته. فى عناقنا للصديق كأننا نعانق أنفسنا ونهنئ أنفسنا على وجود الصديق الذى يؤكد صمود الذات أمام كل المتغيرات.

وتقول: «حين تسألنى: من هم أصدقاؤك؟ يأتى وقع السؤال مباغتاً ومزعجاً. فمن ناحية يتخذ السؤال صيغة تسعى إلى معرفة الخاص وكشفه، ومن ناحية أخرى يضعنى فى مأزق شديد. لماذا؟ لأنك عندما تحدد أصدقاءك فى موضوع كهذا منشور على صفحات الجريدة فأنت بشكل مبطن تطرد كل الآخرين من دائرة الصداقة، أو تقتل حتى احتمالية قيام صداقة، كأنك تقول للآخر: الدائرة مغلقة  ولم يعد بها مكان شاغر. وحقيقة الأمر أن الدائرة مفتوحة دائماً طالما نتنفس ونغادر السرير كل صباح. بل إننا لا نتوقف عن استكشاف الآخر كصديق محتمل إلى أن يثبت عدم قدرتنا على التفاعل الوحشى معه. لكن فى زمن الفيسبوك وإنستجرام  أصبح الكل أصدقاء، حتى أن الفيسبوك يرسل لك أسماء تحمل (طلب صداقة)، كما أنه يقترح عليك أصدقاء! ألم يجد مارك سوى صفة صديق ليجمع بها الناس سوياً؟ لهذا لا أكن الكثير من التقدير للفيسبوك، فقد أهدر معنى الصداقة وأفرغها من قيمتها، ثم قرر بعد ذلك أن يحدد لك عدد أصدقائك: تخيل أن لك 5000 آلاف صديق؟! والله هى الكوميديا بامتياز».

وتضيف: «أراك متحرقاً لإعادة السؤال: من هم أصدقاؤك؟ أم كنت تقول: أبرز أصدقائك؟ سأشفى فضولك قليلاً لكن دعنى أشرح لك لماذا هؤلاء وليس غيرهم. الصديق هو الصديق، ليس هناك البارز والمتوارى، لكن إذا كان موضوعك عن الصداقات التاريخية وأنت تقصد تلك الممتدة فى الزمن فأنا أقصد تلك التى شكّلت تاريخى وعدّلت مسارى ورؤيتى لعالم غير مفهوم. كل أصدقائى ساهموا فى هذا لكن إذا كان لا بد أن أختار لضيق المساحة لنفعل ذلك».

تبدأ شيرين برندة أبوبكر الأستاذة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة، والباحثة والمترجمة المعروفة: «لسنا من نفس الدفعة، بل أسبقها بسنة، لا أذكر بداية تعارفنا. ربما منذ 30 عاماً أو أكثر؟ وجود رندة فى حياتى وعائلتى وعملى بمثابة حجر إذا اقتلعته من مكانه اختل توازنى تماماً. أعرف أنها موجودة ويكفى، هل هناك شىء لم نتحدث عنه فى هذا العالم؟ لا أذكر أن هناك شيئاً تركناه بدون تفنيده، ولا أذكر أننا تقابلنا أى مرة أو تكلمنا دون أن نقول: وحشتينى، ولا أذكر أننا تشاجرنا أكثر من 42 ساعة (نعم أذكر الوقت جيداً). لا أحتاج إلى شرح أى شىء مع رندة ولا أحتاج إلى التبرير (أسخف فعل يفرضه علينا الآخرون). اشتركنا فى التدريس وفى العمل وفى الذهاب إلى السينما والمسرح، وعلى ذكر الأخير غلبنا الملل فى مسرحية ما، وكاد النوم أن يفضحنا وأفقنا على صوت تصفيق الجمهور فغادرنا بعد الفصل الأول وظللنا نضحك كثيراً بعدها. سافرنا سوياً وضحكنا وبكينا ولا يزال الأمل يحدونا فى غد أفضل».

وتذكر شيرين مقولة لدريدا من كتابه «سياسات الصداقة» وهى أن «الصداقة الحقة هى التى تضمن مستقبلاً سياسياً أفضل»، وتعقّب: «أتفق معه تماماً، فكوارثنا نابعة كلها من الغدر بالوعود وخيانة الأفكار. ورندة لا تتنازل عن المبدأ والفكرة حتى فى أصعب اللحظات، ستتابع الفكرة حتى النهاية وما بعد النهاية، وأكثر من مرة أشعر بالتعب فتدفعنى إلى النهوض. أنهض لأتجنّب شكلى المتهالك أمامها، أنهض لأننى لا أريد أن أخذلها. هل تعرف معنى أن تكبر امرأتان فى مجتمعنا معاً؟ هل تعرف مدى صعوبة الرحلة والرهان أن تصل بأقل الخسائر وبدون أى تنازل. فقط أرحنى وقل إنك تعرف، لكنك حتى لو قلت إنك تعرف  لن أصدقك فأنت رجل تمرح فى امتيازاتك النسبية بالطبع. لم يكن لدينا امتيازات ولم يسندنا أى رأسمال رمزى ولم تكن معنا أبجدية الطرق والمسالك. لم يكن لدينا سوى المحاولة والخطأ والكتب. ومع كل خطأ كنا نكبر درجة مع كل خطأ نتكاتف لنمنع جلد الذات. رندة هى نقطة ارتكازى التى تتسم بالدقة المتناهية، وأنا من اللواتى يشعرن بالملل من التحليل الدقيق. ألم أقل لك أن الصديق هو جزء مفقود من الذات؟».

وتقول: «الأكيد بسبب خفة الظل الذكية التى تتمتع بها رندة تتحول أحلك المواقف وأصعبها إلى طرفة. علمتنى رندة الهدوء واستقبال كل الأشياء بثبات انفعالى عالى الدرجة، هى بالتأكيد لم تقصد أن تعلمنى  لكنها الغيرة التى تشوب الصداقة فتود أن تكون أنت الآخر». 

ومن الدكتورة رندة إلى نجلاء بدير. تتساءل: «من لم يسمع بها؟ كم شخصاً أنقذت وكم مشكلة حلّت؟» وتقول: «لكننا لم نتقابل فى هذا السياق. كنت أقرأ لها فى مجلة (صباح الخير) وكانت بالنسبة لى نجمة يصعب مقابلتها، فلم أحاول، فقط واظبت على قراءة المجلة. إلى أن كان يوم لدىّ ميعاد مع صحفى قادم من بيروت، ولم تكن التليفونات المحمولة انتشرت بعد. رنّ هاتفى وأجبت فوجدت امرأة تقريباً تصرخ فىّ قائلة: (هتيجى ميعاد فلان ولا لأ؟) وأجبت أننى فى طريقى وسألتها من تكون، فقالت أنا اسمى نجلاء بدير، وأغلقت الخط. صُدمت. النجمة التى حلمت بها تصرخ فيّ. حكيت لكل من أعرفهم أن نجلاء بدير صرخت وأغلقت الخط، كل من يعرفها كان يضحك ويقول: (لا عادى مش قصدها، هى كده). بعد فترة تقابلنا وجهاً لوجه ومرة بعد مرة أدركت فعلاً أنها متميزة فى تلقائيتها الشديدة وتأكدت أنها (كده). لكن العلاقة بدأت من منطلق أمومى بحت، كنت أمر بظرف شديد السوء، وكنت أود بالفعل أن ألقى بحملى على أحد، تلقفت منى الحمل ببساطة وبدون أن تشعرنى أنه حمل. من هذه النقطة استمرت العلاقة الأمومية فترة لا بأس بها: لدىّ مشكلة فتحلها نجلاء. لا يُمكن أن أحدد النقطة التى تحولت فيها علاقتنا إلى صداقة قريبة، مريحة، مطمئنة إلى أعلى درجة. وعلى عكس رندة تماماً التى تتسم بالدقة والإخلاص للتميّز، تتسم نجلاء بالتلقائية الشديدة وعدم التخطيط لأى شىء. أنا التى أخطط يومى بالساعة والدقيقة أرى جزءاً منى فى نجلاء التى تدندن مع نفسها فى المحلات بصوت عال. غالباً ما كنت أشعر بالغيرة تجاه حريتها فى التعامل مع المساحة وتجاه كرم روحها الفائض. وكما تعلمت من رندة فضيلة الاستغناء تعلمت من نجلاء فضيلة التنازل، التنازل عن الأشياء التى يحتاجها غيرنا، لا للتكديس، لا للجمع والتملك. والأهم: لا لكسر الخواطر. أعتقد أن صداقتنا اكتسبت مستوى الندية عندما تعلمت التنازل لصالح الآخرين- بقدر الإمكان. وعندما بدأ بائع متجول فى قلب مدينة نيويورك يشرح لى مزايا بضاعته- التى لن أشتريها- كنت أستمع له باهتمام. تأففت صديقتى بعد ذلك وقالت: (ما الداعى لإهدار الوقت ونحن لن نشترى؟) فقلت: (جبر الخواطر على الله). عندها أدركت أن نجلاء  بدير ستبقى دائماً مؤشر على إمكانية استيعاب هذا العالم الكثير جداً (بتعبير الشاعر ويليام وردثورث). لا تتوانى نجلاء عن تأنيبي: تجاوزى التفاصيل. أحاول».

وتسترسل: «وما بين رندة الدقيقة ونجلاء التلقائية تقف دينا جميل، الصحفية والمترجمة: تتأرجح بين هنا وهناك، وأتأرجح معها. مررنا بلحظات خلاف سياسى كبير، وقد أصبح المعتاد أن يخسر الأصدقاء بعضهم بسبب السياسة. لكننا صمدنا بالرغم من هول الموقف، كما أتذكره الآن. نمت صداقتنا فى ظل ظرف حزين خاص بدينا، ومباشرة اعترفت أمامها أنها لم تكن تروق لى. هكذا بدون سبب. وتحول هذا الموضوع حتى اليوم إلى نكتة نضحك عليها كل مرة بنفس القدر. دينا سلسة كموج البحر، ينتابها القلق على أقل الأشياء، تضحك من قلبها، حتى أشعر أن القلب ليس إلا ضحكة كبيرة. فى كل جلسة مع دينا أتأكد أنها تسمعنى بقلبها، أحاول أن أفعل مثلها، أن أسمع بقلبى وليس بعقلى، أن أحضن العالم بضحكتى، أحاول جاهدة. فى اللقاء بدينا دائما بهجة، وكلما شعرت بالحنين للعالم الخارجى بعد عزلة عمل أفكر فى دينا، وعندما أسافر ولو لفترة قصيرة أتواصل معها. وهو ما جعلنى أتساءل عن مغزى ذلك، فأدركت أن الشعور بالأمان الذى تمدنى به دينا هو جل ما أحتاجه فى السفر».

أما سحر الموجى فحكايتها حكاية. فى فترة التسعينيات (جيلهما) كان الجميع يخلط بينهما. فيقولون لها (سحر) ويقولون لها (شيرين): «لم أفهم السبب حتى يومنا هذا. خرجنا إلى العالم فى الوقت ذاته وبنفس الشروط التعجيزية الصعبة (ما أحلاها مقارنة بالآن). تلقينا نفس الاتهامات (بالمناسبة، على صفحات هذه الجريدة): البورجوازية، النسوية، غياب القضايا الكبرى، النظرية المستوردة من الغرب، حركة النقد لا تواكب الابداع…إلخ. لكن صغر السن هو ما أفادنا حينها إذ لم نهتم كثيراً، فكنت أكتب المقالات على ورق أصفر بالقلم الأسود وتكتب سحر قصصها على الكربون لقلة أماكن التصوير. تُنشر القصة ونفرح وكأننا كتبناها معاً، ويُنشر المقال وننتظر جائزة نوبل عليه. نتقاذف بأفكار، نسرح بالخيال، ثم نهبط إلى الواقع كاليتامى محاولين البحث عن مخرج، كنا بالتأكيد نبحث عن شىء، نسعى معا خلف حلم. كنا نتكلم بالساعات فى التليفون الأرضى لنشكل خريطة الأوجاع والأفراح سوياً، الخريطة التى قادتنا حوالى 15 عاماً إلى أن أدركنا أننا مررنا فوق المطبات الصناعية  بقليل من العنف وأكثر منه وجع وكثير من الفهم. ويوم حصولها على جائزة ساويرس عن رواية (مسك التل) اختبرت للمرة الأولى (وأتمنى ألا تكون الأخيرة) إحساس العدالة الشعرية. مع سحر فهمت كيف يكون الفنان، العزلة، الصمت، الارتباك، القلق والصراع مع الوقت. هذا الأخير هو العدو الذى يقف لنا بالمرصاد فى كل لحظة تمر. تبقى جملة سحر التى دائماً ما ترن فى أذنى: الجارح والمجروح يحصدان نفس الألم».

أسألها: «هل يمكن للشخص أن يعيش بدون أصدقاء؟» فتسألنى: «ماذا ترى أنت؟» وتجيب: «أصدقائى هم العائلة التى اخترتها بنفسى بإرادتى الكاملة، عائلة أحنّ لها وأخاف عليها وأتفهم مسؤوليتى تجاهها. نحن عائلة كبيرة ممتدة نحلم أن نعيش جميعاً تحت سقف واحد فى الوقت نفسه. هذه العائلة تعانى من تحديات كثيرة: زحام الشوارع وزحام الحياة. على الأقل ما يدفعنى إلى مواصلة المعركة هو يقينى أن هناك عقلاً أحاوره وقلباً أختبأ فيه وروحاً تسكن الصخب ويداً أستند إليها. هناك حائط صد من الأفكار والمشاعر يبقينى واقفة، فى هذا الحوار أدركت كم تعلمت من تلك الأرواح والعقول، ولا أعرف إن كنت قد أثّرت فيهم شكل مواز. ربما أسألهن يوماً ما».                  

 

    

مقالات من نفس القسم