تقديم وترجمة: د. سارة حامد حواس
إنَّهُ شاعرٌ يعرفُ كيف يلعبُ بالكلماتِ ويطوِّعها لخدمةِ قصيدتِهِ، شاعرٌ معتزٌّ بديانته الهندوسية وببلده الهند، متأثرًا بهما، فعندما تقرأ قصائدَهُ ترى هذا الحبَّ والإعتزازَ منعكسيْنِ بقوةٍ في شِعرِهِ حيثُ يستخدمُ شعائرَهُما وطقوسَهُما في تشبيهاتٍ واستعاراتٍ وفي مواضعَ أخرى كرموزٍ للإشارةِ إلى أشياء بعينها.فعندما تقرأ قصائدَهُ تدركُ أنه شاعرٌ هنديٌّ هندوسيٌّ وأرى ذلك نوعًا من الكمالِ الذي لا بد أن يتوفَّرَ عند كلِّ شاعرٍ، فالشاعر ابن ثقافتِهِ وبيئتِهِ ومنهما تنبثقُ شعريتُهُ ومشاعرُهُ واتجاهاتُهُ، فالنص يظلُّ ناقصًا حتى يعكسَ الشَّاعرُ عليه كل ما يحملُهُ من ثقافةٍ ومعرفةٍ دنيويةٍ ودينيةٍ، كما أنه مهتمٌ بالأساطيرِ الآسيوية، وهذا جعلني أثناء ترجمتي لبعضِ قصائدِه أن أطَّلع عليها وأتعرَّفها من خلال البحثِ عنها ومعرفة ما يدُورُ حولها حتى يمكنُني الوصولُ إلى مقصد الشَّاعر من ذكر أسطورةٍ بعينها في هذا الموضع بالذات وهذا مكَّنني من التعرُّف بثقافةٍ مختلفةٍ لم أعرف عنها إلا القليل وحفَّزني أن أعرفَ عنها الكثير.
شوديبتو شاترجي يتبعُ أسلوبًا غير مباشرٍ في كتابتِهِ الشعرية، فقصائده تحملُ تأويلاتٍ كثيرةً على حسب رُؤية القارىء كما أنَّ قصائدَهُ مكثفةٌ مُوجزةٌ، لديه القدرةُ على قولِ الكثيرِ في سطورٍ شعريةٍ قليلةٍ ولكنَّها مُؤثِّرة وتوصلُ المعنى والشُّعور المطلوب للقارئ، وبرغم عدم مُباشرته في الكتابةِ الشعريةِ، فأسلوبه سلسٌ خالٍ من التعقيدِ، فالقارئ العادي يستطيعُ أن يقرأَهُ بسهولةٍ ويسرٍ من دُون تعقيدٍ أو معاظلةٍ.
شاترجي شاعرٌ حديثٌ يكتبُ شعرًا حرًّا غيرَ تقليديٍّ، متنوِّعٌ في اختياره لتيماتِ قصائدِهِ الشعريةِ، فتارةً يتحدثُ عن الحُبِّ والتفاؤل وتارةً أخرى يتحدَّثُ عن الموتِ والألمِ والوحدةِ، وهذا يُشكِّلُ طبيعةَ الإنسانِ المتقلبة، التي تتأرجحُ دومًا بين الشَّيء وضده.
استمتعتُ كثيرًا بقراءةِ وترجمةِ بعض قصائده إلى اللغة العربية، واستفدتُ كثيرًا من هذه التجربةِ وعندي اشتياقٌ وحب وشغفٌ لمعرفة المزيد عن الشِّعرِ الهنديِّ خُصوصًا بعد زيارتي لمدينتيْ كلكتا وجواهاتي في الهند في شهر نوفمبر الماضي عام ٢٠٢٤
من خلال حوارات الشاعر شوديبتو شاترجي في مجلاتٍ مختلفةٍ استشففتُ منه أنه شاعرٌ مؤمنٌ برسالتِهِ في الشِّعْر ويرى أنَّ الشِّعْرَ قادرٌ على تحويل حال مجتمع بأكمله من خلال تسليطِ الضَّوءِ على القضايا الاجتماعية والثقافية من خلال نقلِ المشاعرِ والتجاربِ إلى القصيدةِ باستخدامِ الصورِ الحيةِ والاستعاراتِ واللغةِ القويةِ فالشُّعراء لديهم القدرةُ على إثارةِ التعاطفِ وتحدِّي المعايير، ويري شوديبتو بوصفه طبيبًا أنَّ الشِّعْر يُعزِّزُ الذاكرةَ ويشجِّعُ على التأمُّل الذاتي وقال في حديثٍ له من قبل إن الدراسات أظهرت باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي أن الشِّعْرَ يُفعِّل الجُزءَ من الدماغ الذي ينشطُ أثناء أحلامِ اليقظةِ بينما يقرأ الشخصُ الشعر أو يستمعُ إليه فغالبا ما يبقى الشعرُ في عقل القارىء ممَّا يجعلُهُ يعيدُ القراءة أو حتى يحفظ الكلمات.
عندما قرأت حواراته شعرتُ أن مهنتَهُ كطبيبٍ أثَّرتْ عليه تأثيرًا إيجابيًّا جعلته يُقدِّرُ قيمةَ الشِّعْر أكثر ويفهمُ ويعي تأثيرَهُ الكبيرَ سواء على الشَّاعر أو قارىء الشِّعْر.
سيرة الشاعر:
شوديبتو شاترجي ولد في كلكتا بالهند في عام١٩٧٦، طبيب في معهديْ راماكريشنا ميسيون سيفا براتيسان وفيفيكاناندا للعلوم الطبية. يشترك في الكثير من الأنشطة الاجتماعية الخيرية لمؤسسة راماكريشنا، جمعية غاندي سيفا (منظمة عمرها ٧٥ عاما تخدم مرضى السرطان والفقراء في المجتمع) وسيفاسرام دكمين كلكتا (دار أيتام عمرها ١٠٠ عام)،كما يعمل أمينا للجمعية الدولية للدراسات والأبحاث بين الثقافات إيزيزار.
له عشرة كتب شعرية كما أنه مترجم محترف، له الكثير من الترجمات فقد ترجم دهرامبادا لجاوتام بوذا وشعر كارل ماركس إلى اللغة البنغالية ونشر العديد من الأوراق البحثية حول الأدب والثقافة والسلام في كتب ومجلات دولية.
يعمل محررا في مجلتيْ ”الثقافة والبحث’ بالإنجليزية و”كريستي وأنيفسا” باللغة البنغالية، كما حاز على جوائز كبيرة مختلفة كوسام راشتريا تشيكيتسا سيفا بوشان في عام ٢٠٢١ لخدمة الفقراء في المناطق العشوائية في كلكتا والأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة خلال جائحة كوفيد وجائزة تميز دول جنوب آسيا عام ٢٠٢٢ لمساهمته في مجال الأدب والثقافة وجائزة المؤلفين المتميزين في الهند عام ٢٠٢١ لكُتَّاب الشعر كما تلقى تدريبا في الموسيقى الكلاسيكية الهندية لمدة عشرين عاما وأخرج بعض الأفلام الوثائقية.
وهنا أربع قصائد للشاعر:
لحنٌ (Tune)
اُنظري إلى بِركَتِكِ العمِيقةِ
كم غُرفةً بنيتُها داخلَكِ
اختلطَ شكٌّ مع ظِلِّ
تمتدُّ جِراحٌ على الجدارِ
نحنُ نعشقُ الماءَ
نتعلَّمُ كيفَ نطفُو
نتعلَّم كيف نغرَقُ أكثرَ
دعيني أقف بجوار حُزنِكِ
دعينِي أرى كيفَ يمكنُكِ
الوصُولُ إلى القمَّةِ.
”هذا الجسدُ حقيقيٌّ، هذا الجسدُ رائعٌ”
بيرل بيلي
**
أنتِ (You)
تعاليْ لنتحدَّى العقلَ بوعيِنا البسيطِ
نرسُمُ يوميًّا استعاراتٍ مُشتعلةً
على جسدِ المعبدِ
تضعِينَ قدميْكِ في ماءِ الصَّندلِ
سيحلُّ المساءُ في حزنِ عُشبٍ بعيدٍ
مرَّةً أُخرى،أحْضِرِي الآنَ النهرَ الجافَ المُنزَّهَ
إلى الماءِ.
سأجعلُكِ لي دُونَ سِواكِ
في ضجيجٍ مُقدَّرٍ عميقٍ.
الإشارةُ المشئُومةُ صاحيةٌ كالأوبانيشاد*
لقد بعتِ العُزلةَ مع قصصٍ أُسطُوريةٍ
الآنَ أصبحتِ لا حدَّ لكِ
عُدتِ إلى موطِنِكِ
أعبُدُكِ
في عالمٍ عميقٍ ميِّتٍ.
”انظرْ بعُمقٍ داخلكَ، تلكَ هي حياتُكَ”
مايكل جونسالفيس
………………..
*الأوبانيشاد: الجزءُ الأخيرُ في مجموعةٍ من الكتابات الهندوسية التي تسمى الفيدات (جمع فيدا) وتُكوِّنُ الأوبانيشاد جزءًا أساسيًّا من مصادرِ الديانةِ الهندُوسية،كما أثَّرتْ في معظم الفلسفاتِ الهنديةِ، ويُطلقُ عليها أحيانًا اسم الفيدنتا، وتعني الكلمة تجميع الفيدا .أما كلمة أوبانيشاد فتعني الجلوس بالقُرب من.
**
نساءٌ (Woman)
في غَمرَةِ الصَّخَبِ
نلمَسُ شَفَا السَّماءِ
نتَبادَلُ أحاديثَ سريَّةٍ في شُرفَةٍ
وكلماتِ حُبٍّ في الخفاءِ.
كُلُّ أعشَابِ جسدٍ مُتألِّمٍ
تغْمُرُ الوَجْهَ وسعَادته
الآن،أنتَ تُحطِّمُ الضِّفةَ
والمياهُ تَتَدفَّقُ من المَرَضِ.
يأتي المَرضُ
اللا نهائِيُّ كإخلاصِكِ
ينهارُ السَّقفُ كأنقَاضِ رُوحٍ ميِّتةٍ
تعال، مع ظلٍّ غيرِ مُجَسَّدٍ
نحتَفِظُ بقصَّةٍ واهيةٍ عن جنينٍ
وبيتِ الرَّاهبِ الطِّينيِّ.
في نومِكَ الأخير
حطِّم السِّلكَ الشَّائِكَ ومدينةَ النِسَاءِ.
”يا شوبوتي،هذه الحياةُ حقيقيةٌ، ومجهولةٌ وغيرُ قابلةٍ للنقاشِ وغيرُ مُحدَّدَةٍ”.
بودليتشاري أفاتار.
**
الثقة (Trust)
غَارِقُونَ الآنَ في مياهِ الصَّندَلِ
دُموعٌ زرقَاءُ ساهِرةٌ
في إيمانٍ وأسَى.
بعد رَاحةٍ في سَنَةٍ مُتوَقِّدَةٍ
كَزَهرَةِ لُوتس
إذا سَقَطَّ من السَّاقِ
فلتُرَحِبْ بالمَوتِ
في هذا المسَاءِ المُلوَّنِ.
قُلْ للحياةِ الحَبيبةِ
”فلنُصبِحَ مُبهِجِينَ”
قُل لكتابِ ”جيتا”*
”فلنُشبِع جُوعَ غيمةٍ وشَمْسٍ ورعدٍ
مُختَبِئٌ في ضُلوعِنا”
”فلنُرحِّب بريحٍ بائِسةٍ
وبكُلِّ المُشكلاتِ البحرَيةِ”
فعندما تمتزِجُ ليلةٌ مُعتِمةٌ ضبابيةٌ
بشظايا خيالٍ
نتركُ خلفَنا نُقطةً مركزيةً من صراعٍ
مُخيفٍ وعدمِ ثَقَةٍ.
”أنتَ وحيدٌ في العالمِ،ولكنَّكَ العَالَمُ لشخصٍ وحيدٍ”.
بيل ويلسون
………………………….
*كتاب جيتا: البهاغافاد جيتا أو بْهَغْفَدْ جيتا (بالسنسكريتية: भगवद्गीता)، و(بالإنجليزية: The Bhagavad Gita)، هو الكتاب المقدس في الهندوسية، وهو الحوار الذي جرى بين السيد أو الرب المبارك كريشنا وأرجونا عند بداية المعركة، وهو عبارة عن 700 بيت أو آية تقع في ثمانية عشر فصلًا، ويعود تاريخه إلى قرابة الألف الثالث قبل الميلاد.