شكسبير أم أخطاؤه؟ (2)

81.jpg
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

يرتبط الاستفهام الذي تبدو إجابته بديهية في وعي المدوّن ـ استنادًا إلى (حكمة السوق) ـ بسؤال (التقييم)؛ فهو بوصفه نسخة من القراء الآخرين الذين (ينتقدون) الكاتب كـ (منتج) إذا لم يوفر للقارئ الرضا والإشباع كـ (مستهلك)؛ يرى أن الدافع الأساسي لقراءة الرواية ـ شأن أي سلعة ـ هو رأي من سبق لهم قراءتها، حتى أنه يُمعن في تأكيد هذه (الحقيقة) ـ والتي يُبرزها كدور جوهري لموقع جودريدز ـ بتثبيت الثقة في أن حُكم الآخر قد يكون سببًا في تجاهل الكتاب .. ليس غريبًا بالطبع بل ومن المنطقي للغاية أن يستعمل المدوّن كلمة (الجودة) في حديثه عن العمل، سواء بإقرارها أو بنفيها من خلال التقييم بعدد النجوم.

ممدوح رزق

يرتبط الاستفهام الذي تبدو إجابته بديهية في وعي المدوّن ـ استنادًا إلى (حكمة السوق) ـ بسؤال (التقييم)؛ فهو بوصفه نسخة من القراء الآخرين الذين (ينتقدون) الكاتب كـ (منتج) إذا لم يوفر للقارئ الرضا والإشباع كـ (مستهلك)؛ يرى أن الدافع الأساسي لقراءة الرواية ـ شأن أي سلعة ـ هو رأي من سبق لهم قراءتها، حتى أنه يُمعن في تأكيد هذه (الحقيقة) ـ والتي يُبرزها كدور جوهري لموقع جودريدز ـ بتثبيت الثقة في أن حُكم الآخر قد يكون سببًا في تجاهل الكتاب .. ليس غريبًا بالطبع بل ومن المنطقي للغاية أن يستعمل المدوّن كلمة (الجودة) في حديثه عن العمل، سواء بإقرارها أو بنفيها من خلال التقييم بعدد النجوم.

لنتخيل أن القارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين قد بدأ يفكر في أن رأي قارئ آخر لا يجب أن يكون هو الدافع لقراءة رواية ما أو تجاهلها، أو أن يكون لهذا الرأي تأثيرًا على انطباعاته عنها حيث أن علاقته بالرواية لا يجب ـ كما تُعامل الأغراض الاستهلاكية الأخرى ـ أن تتشابه مع علاقات الآخرين بها؛ فالتأويل المستمر، والأداءات التخييلية المتغيرة، والخلق المتواصل للعالم السردي الذي يقوم به؛ ليست جميعها ممارسات متطابقة داخل ذهن كلي أو مزاج عام بل هوية ذاتية أو تاريخ فردي لا يتماثل مع هوية أخرى أو تاريخ آخر .. لنتخيل أن هذا القارئ قد استنتج بالتالي أن موقع كـ “جودريدز” يريد منه أن يكون ضد هذه الاستقلالية أي أن يكون “مستهلكًا” .. أن يفرض عليه دائمًا الإجابة على السؤال السحري: (هل أعجبك هذا الكتاب / المنتج؟) .. أن يزرع بداخله اليقين بأن (عدم الإعجاب) يرجع حتمًا إلى (عيوب أو خلل في صانع المنتج) .. أن يُطالبه طوال الوقت بتوثيق هذه الإدانة ليس كفرد بل كجزء من قطيع المستهلكين الذين يتنقلون من كتاب لآخر، ويخوضون تحديات القراءة، ويتصورون أنهم يقدمون الحقائق الحاسمة للأعمال الأدبية، كما يظنون أن مقارباتهم الذاتية لهذه الأعمال لا يتم تذويبها، وتغييب حدودها داخل المقاربات الأخرى، والذين يضمنون هكذا لآلة جودريدز أن تبقى وتحمي استثماراتها، وبالضرورة تحافظ على نجاحها .. لنتخيل أن هذا القارئ قد أدرك أن العلة الأولى تبدأ من (الانتقاد) الذي يتم استغلاله، أي إهداء الكينونة المنسحقة وجودًا ثأريًا مضاعفًا .. من كليشيه (خطأ الكاتب) الذي يتم اجتذاب القارئ من بداهته لمنحه السلطة، والتي ستصبح خاضعة بدورها لشروط القوة المعرفية التي أعطتها .. لنتخيل أن هذا القارئ قد قرر ألا يكون مستهلكًا، أي أن يحافظ على انفصال هويته عن القراء الآخرين، وأن يتخطى دوره كورقة رابحة لجودريدز عن طريق التخلي عن سلطة (التقييم) التي يمنحها الموقع له .. لنتخيل أن هذا القارئ قد اعتبر أن هذا التخلي هو نوع من الكفاح لأن يكون دائمًا في استعداد غريزي لتجاوز نفسه، أي أن يصير متعديًا لما يُشكّل هذه الهوية المنفصلة عن القراء الآخرين .. لنتخيل أن هذا القارئ قد بدأ يفكر في أن (وليم شكسبير) ليس حارسه الشخصي، وأن (روميو وجولييت) ليست تقريرًا أمنيًا عن كيفية التعامل مع التهديدات التي يواجهها سواء أقنعته هذه الكيفية أم لا .. على أي نحو بدأ هذا القارئ في إعطاء تعريفات مختلفة لـ (الكاتب) ولـ (العمل الأدبي)؟ .. لنقرأ أولا هذه السطور من مقالي عن رواية (هيا نشتر شاعرًا) لأفونسو كروش:

“إن ما يمكن أن تقترحه هذه الرواية للتأمل هو الأشكال الأخرى للاستهلاك التي لا تخضع إلى الاستعباد الرقمي التقليدي. أقصد هنا آليات التلقي والنقد التي تتعامل مع الفن كشيء عديم المنفعة إذا لم يحقق أهدافاً أو تأثيرات محددة، وهو الأمر الذي تدخل في نطاقه على سبيل المثال الرسائل الأخلاقية، والعواطف المتوقعة والمضمونة، والاستفادات المعرفية المباشرة، والأنظمة السردية المتماسكة المنطوية على صور من الحبكة يسهل الإمساك بخيوطها، وكذلك الغايات المثالية، والمعاني الواضحة، والبلاغة ذات الرونق الموسيقي المنضبط. إن حسابات الربح والخسارة لا تتعلق فقط بالغنائم العددية وإنما بالأطر والقوالب المتزمتة التي يُخضع أصحابها الفن إلى شروطها، فإما أن يتوافق وينسجم معها (الربح)، أو يتنافر ويتخاصم مع هذه الشروط (الخسارة).

(يقال في بعض الأحيان إن الخيال هو هروب مزعوم من الواقع «وكما قال إليوت، الإنسانية لا تتحمل كثيراً من الواقع»، كما أنه لم يصل إلينا أو أنه آلمنا ولذلك نحتاج إلى قليل من الخيال، كحاجتنا إلى المخدرات والترفيه. إذ يمكننا أن نكون نفعيين أكثر ونكتشف في الخيال نفعية أكبر غابت عن عالم النفس الذي يحدثنا عن الفظائع والمظالم. الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية).

هكذا أنهى أفونسو كروش روايته بما يشبه الخاتمة كتقرير دفاعي عن الخيال، وهو وإن كان يؤكد على أهميته – أي الخيال- في التطور البشري فإنه يضعنا في مواجهة الحدود الصارمة والمغلقة للذات، الأبعد من كونها نتيجة للنفعية الرأسمالية، والتي نجابه من خلفها الحضور المختلف للآخر، المصنّف كوجود عدائي، مهدِد، ليس لعدم قابليته للاستغلال في الحياة، وإنما لعدم القدرة على استهلاكه خيالياً أو ضمن الفن نفسه الذي وضعه كروش كجبهة مضادة للهيمنة النفعية”.

مقالات من نفس القسم