صغيرة كنت حين أدركت أن للصباح رائحة، أتسلل من سريري بعد صلاة الفجر, لأقف في شرفة بيت جدي أنتظر ظهور الباعة الجائلين وهم يكملون صنع الطعام، بينما يشترى منهم المارة على الميدان، رائحة الفول النابت، الذي لم يرق لي يومًا، تمتزج برائحة الطعمية، والعدس الأصفر والكبد المحمر.
مذ كبرت لم أعد أستطيع ممارسة عادة التحديق في وجوه البشر، فبيت جدي في قرية صغيرة، مازال أهلها متمسكين بتقاليدهم, وجودي في الشرفة ربما يثير الشكوك. لأن نشر الغسيل مبرر منطقي, أحيانًا أبلل بعض الملابس حتى أقف لبضع دقائق أمارس خلالها عادتي القديمة.
لا أعلم لماذا يندهش البعض من أن لديّ مدونتين على الإنترنت، واحدة للإبداع الأدبي و أخرى للطبخ. أحب أن أطبخ, أن أصنع توليفات جديدة من البهارات والأعشاب العطرية تجعل رائحة طعامي أكثر إغراءً.
من وقفتي في شرفة بيت جدي ثم في مطبخ جدتي الضيق جدا, اكتشفت أن الطبخ إبداع لا يختلف كثيراً عن الكتابة, كل شخص لهُ مزيج و مزاج خاص يجعل مذاق أكله مختلفًا عن الآخرين, و هذا ما يدعونه “نـَفـَس”.
***
عطر الياسمين, نسيته وأنا أجهز حقيبة سفري، وها أنا أتحمل نتيجة فعلتي النكراء، النوم لا يقترب مني إلا إذا وضعت بضع نقاط منه على أنفي، دقائق أخطفها من عمر القلق لأنام.
الياسمين, رائحة الدنيا التي شممتها حين خرجت من الظلام, و هي تعويذة أمي التي صنعت شغفي بالعطور.
أمي كمعظم النساء المصريات متعلمة لكنها فضلت أن تهتم بزوجها و أبنائها. طويلة بيضاء ممشوقة القوام، يبدو أنه متعلق بالوراثة فجدتي لأمي كانت كذلك وأنا أيضًا جسدي غير قابل للسمنة.
رائع أن نرث عن أمهاتنا شيئاً أخر غير الأمراض والأفكار الغريبة غير القابلة للاندثار.
تستمد كريمان، أمي، ثقافتها الدينية والسياسية والاجتماعية من برامج “التوك شو”. و كنساء عربيات كثيرات, أَدمَنَت المسلسلات التركية التي جعلتها تتلفظ أحيانًا بكلمات باللهجة السورية.
كريمان تصدق كل من يتحدثون على الشاشة و تعتبرهم بشراً أفضل لأنهم النخبة, والنخبة عندها أولى بالتصديق, لذا صارت تسمع لتحفظ و تردد.
في أحد الأيام بينما تشاهد أحد البرامج, عطس الضيف قالت
“يرحمكم الله”.
استغربت ما فعلته، ظننت أنها قالتها تلقائيًا بحكم العادة, لكنها استطردت
“عارفة, الشيخ قال اليوم أن أحد صحابة الرسول سمع رجلاً يعطس على البر الثاني فركب المركب وعبر ليقول له يرحمك الله، وحين عاد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله رحمه بسبب ما فعل”.
سألتها “ماما الرسول كان في السعودية, و هي بلد تقع على بحر و خليج فكيف سمع الصحابي عطسة أخيه الإنسان؟”،
صمتت لحظات و كأني صدمتها.
“أه صح”..
و بقيت صامتة معظم الليل حتى ظننتها خاصمتني.
مظاهر الانعزال المجتمعي التي بدت واضحة في مصر لم تتمكن من السيطرة على أمي، التي مازالت تذهب لتزور أقرباءنا وترسل أطباق الطعام للجيران في المناسبات، تتودد لهم رغم أن لون باب بيتنا صار منسيًا لدى معظمهم.
يقولون أن للإنسان نصيباً من اسمه, أمي كريمان تلك الكريمة كاسمها, الرقيقة كعطرها.
***
صغيرة كنت حين شاهدت للمرة الأولى مذابح البوسنة و الهرسك المصورة على شريط فيديو أعطاها شخص منتمى للجماعة الإسلامية لأبى, في نفس الوقت كنت أسمع أغنية حميد الشاعري عن مذابح لبنان, بينما تمتلئ شاشة التلفزيون خلال نشرة الأخبار بصور مذابح فلسطين. عقلي البريء لم يحتمل بشاعة ما يرى, فتكونت لدى قناعة أن كل ما أشاهده يحدث في بلد واحد لها أسماء عدة.
في الليل, تظل صورة الجثث المنتفخة في الطرقات تلح على ذاكرتي, حين أغفو أحلم بما شاهدته خلال النهار, أصحوا مفزوعة أردد
“الله أكبر..الله أكبر”
فيأتي أبى لغرفتي, يضمني و يقرأ أية الكرسي و المعوذتان بينما تحضر أمي كوب من الماء المعطر بماء الورد.
***
“للكتابة سطوة ونشوة وشهوة…هي المجد الذي يمنحه الله للكاتب، من دونها هو مشعوذ مجنون”.
لا أذكر متى بدأت ممارسة فعل الكتابة, لكن وقائع مشهد لا ينسى بيني وأمي يمر برأسي كثيرًا.
حاولت يومًا أن أكتب قصيدة, كنت في المرحلة الثانوية وقتها, تركت الدفتر على مكتبي مفتوحًا وذهبت لأشاهد مسلسل “عائلة ونيس”، فإذا بأمي تعطيني الورقة بعد أن مزقتها من الدفتر.
“خذي قطعي هذه”.
لهجتها الآمرة أغضبتني, لماذا عليّ أن أمزقها؟ لم أسألها, أخذتها وأخفيتها عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقطع من رواية تصدر قريبا بعنوان “عطر شاه”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة