أمينة حسن
المنزل فارغ، ذهب الجميع إلى الخارج، أستغل الفرصة في الاستغراق في النوم، لا رغبة ولا خطط لدي، الوقت مبكر جدًا على فعل أي شيء، أستيقظ قرب الظهيرة على اتصال لا أجيب عنه من رقم غير مسجل على هاتفي، أحاول العودة إلى النوم مجددا فلا أفلح، انتصف النهار، كان من المفترض أن أكون مستيقظة بكامل طاقتي، لكن جسدي منهك كما لو كنت خرجت توا من معركة عنيفة، آثار الإجهاد تختلط ببقايا أحلام الصباح، أحيانًا أكاد أجزم أن جسدي ينتقل إلى عالم آخر موازٍ أحيا به حياة كاملة تستهلك أغلب طاقتي.
(اندماج)
أبقى في الفراش، أمسك بالهاتف قليلًا، الأخبار كلها مُحبِطة، أقوم أخيرًا لأعد أسهل إفطار ممكن مع فنجان القهوة، أقفز على أريكتي السوداء، أفتح التلفاز، أرتدي نظارة القراءة، وأمسك بالهاتف مجددًا، أتنقل بين برامج المحادثة، الأخبار، التواصل الاجتماعي، ومتابعة التلفاز بينما أتناول طعامي، يمضي الوقت، اقتربت الساعة من الثانية ظهرًا، يبدو أنه حان الموعد للقيام أخيرًا لإعداد وجبة الغذاء – المهمة اليومية المقدسة – كما يجب أيضًا الاعتناء بترتيب البيت قبل أن يعود الجميع، أتناول الرشفة الأخيرة من فنجان قهوتي الباردة، وأهم بالنهوض، حين حاولت الوقوف شعرت بجسدي يكاد يكون ملتصقًا بالأريكة، أحاول انتزاعه فأجد مقاومة غير مفهومة، وكأن أحدًا ما قد خاط في ملابسي نسيج من الخيوط المتشابكة كالذي يوجد في لاصق الأحذية الرياضية، حين ابتعدت عنها أخيرًا سمعت صوتًا يشبه فعلًا صوت فتح شريط “السكوتش”… تشك، بعض الخيوط الدقيقة الشفافة أجدها تتدلى من طرفي ذراعي، أتفقدها جيدًا وأحاول فركها وإزالتها فتؤلمني، أذهب سريعًا للاستحمام وتغيير ملابسي، بمجرد أن انهمرت المياه على جسدي بدأت تلك الشعيرات الرقيقة في التساقط على أرضية حوض الاستحمام، حتى ذابت في الماء، لا أفهم ماذا حدث توًا، محاولة التفسير تؤرقني بشدة، فقررت -على نحو مؤقت- أن أتجنب التفكير تمامًا ربما يختفي كل شيء من تلقاء نفسه، يتكرر الأمر في الأيام التالية، أبذل جهدًا أكبر في كل يوم عن الذي قبله لتحمل الألم المصاحب لتمزق الشعيرات، الذي كان يزداد تلقائيًا بدوره، لدرجة أنني كنت أحاول إنهاء المهام الضرورية دفعة واحدة لتجنب تكرار عملية النهوض مرات عديدة خلال اليوم الواحد، مرت عدة أسابيع، وصرت أعرف الآن أن تلك الشعيرات الدقيقة الشفافة تنبت من جسدي، تخترق ملابسي، وتتداخل مع مثيلات لها تنبت من أريكتي، تندمجان معًا مشكلتين نسيجًا واحدًا لا يحب الانفصال، حين أهم بالقيام أشعر بمقاومة ذلك النسيج لحركتي، فاستلقي لبضع دقائق أخرى، حين أحاول ثانية بشكل أكثر إصرارًا أشعر بتمزق تلك الشعيرات الرقيقة، مما يسبب لي وخزة مزعجة يستمر أثرها لبضع دقائق، مع كل يوم يمر تصبح عملية التخلي عن الأريكة أشد صعوبة، تزداد الشعيرات الشفافة قوة، وتصبح عملية الانفصال أكثر إيلامًا، أستطيع بالكاد أن أنهي الضروري فقط من الأعمال، وأعود سريعًا لأستسلم لاندماج الشعيرات، الخروج من المنزل كان أكثر الأمور إيلامًا إطلاقا لذا تجنبت المهام كلهم التي تستدعي النزول إلى الشارع، استخدم عذرًا مختلفًا في كل مرة حتى سئم مني الجميع، فلم يعد يطالبني أحد بفعل أي شيء، مضى على عدم خروجي من المنزل شهر تقريبًا، أتجنب أيضًا معظم المكالمات الهاتفية، كما أتناول الكثير من السكر، أصبحت الخيوط الشفافة أكثر غزارة وصلابة، بالكاد أصبح يمكنني التحرك بعيدًا عن الأريكة السوداء، أصبح على جميع من في البيت الاعتماد على أنفسهم في أداء الأعمال المنزلية، لم أعد أتابع “جروبات الواتس آب”، يحاول بعض الأصدقاء عرض محاولات للخروج، فأتجاهلها.
(وجه آخر)
الخيوط الدقيقة الشفافة التي تخرج من جسدي، وتربطني بالأريكة السوداء كانت قوتها تزداد كلما ازداد تعلقي بها، وكأن محبتي لها تمنحها القوة اللازمة للاستمرار، وكيف لا وهي تتمسك بي بإصرار ومحبة شديدة، تجنبني غدر الغرباء المحتمل، تضعني في كهف آمن لا يقربه أي مخلوق، تحتوي كل أحزاني وتتفهمها جيدًا، تمنحني إجازة من الحياة بكل ما تحمل من تعب، ماذا سيفتقد العالم إن اختفيت لبعض الوقت، الآن يمكنني النوم، والراحة لساعات أطول، متابعة كل المسلسلات المؤجلة، التحرر من كل المهام الإجبارية المقدسة، التوقف عن الجري وراء اللاشيء، وشرب قهوتي ساخنة.
هنا أنا جنين في رحم أم حانية لن يسوئني شيء، حين يحاول أي شخص إخراجي من شرنقتي الشفافة، أشعر بعدم الرغبة في الاستجابة له، أتفهم بالطبع رغبة الجميع في مساعدتي لأعود كما كنت، ممتلئة بالحيوية، النشاط، والتفاؤل لكنني لم أعد أستطيع فعل هذا مجددًا، يريحني التخلي عن كل شيء، حين تقرر الحياة، فإن عليك أن تخوض بعضًا من المعارك، قد تعود منتصرًا من البعض، وقد تنهزم من البعض الآخر، أحيانًا تصبح النجاة من بعض الهزائم مشقة هائلة على القلب المتعب، هنا لا معارك ولا مغامرات، وربما لا حياة أيضًا.
(خروج)
مع كل تلك الأسابيع بدون أي نشاط يذكر بدأت أشعر بعدم قدرتي على الحركة، أَصْبَحَتْ أقل محاولة مني للنهوض أو حتى تغيير وضعية الجلوس تلاقي مقاومة كبيرة من الخيوط المحببة، بدأت تصيبني آلام في نهاية العمود الفقري، أعاني انزلاق غضروفي قديم أصابني منذ عشر سنوات تقريبًا، عادت آلامه تداهمني مجددًا، أشعر وكأن هناك شوكة حادة تُدَقّ بعنف أسفل ظهري، بالكاد أستطيع الجلوس قليلًا أو التقلب على أحد الجانبين في محاولة مني لتغيير وضع الجلوس ربما يقلل ذلك من الإحساس بالألم.
في إحدى المرات التي حاولت فيها القيام لممارسة شيء من تمرينات الإطالة التي أوصاني بها الطبيب سابقًا، عاقبتني الخيوط الدقيقة الشفافة بتحولها لإبر صلبة انغرست على مدى جسدي كله، فأصابتني بما يشبه الحريق.
كانت الخيوط الدقيقة حساسة جدًا لأي محاولة للحركة، لذا لزمت السكون بعدها لبضعة أيام كهدنة كي تعود الخيوط لهدوئها، استلزم الأمر تناول جرعات إضافية من المسكنات، لكن إلى متى يمكنني تحمل كل تلك الآلام؟ لا يمكن أن يستمر هذا الحال طويلًا.
أتت صغيرتي ككل صباح لإعطائي المسكنات، أخبرتني أن لديها بنهاية الأسبوع مباراة هامة تودني أن أحضرها إذا سمحت حالتي الصحية، لا بد أن هذه علامة ما، أشرت إليها بهدوء شديد أن تنفذ جيدًا ما أقول، حين يأتي المساء عليها أن تتأكد من أنني دخلت في نوم عميق، وتأتي بمقص كبير وحاد جدًا، ربما كالذي نقوم به شجرة البرتقال في الحديقة، تدخله بهدوء شديد أسفل ذراعي، وتقص بسرعة كل الشعيرات الدقيقة مرة واحدة، فتتحرر يدي بشكل تام، عندها سأستيقظ، ونكمل سويًا قص باقي الشعيرات، أهم شيء المباغتة والسرعة، كما أكدتها أيضًا أن تكثف من جرعة مسكن ما قبل النوم في تلك الليلة.
أستيقظ على ألم شديد، وبعض النزيف، آخذ المقص من يدها، وأبدأ بتحرير باقي الجسد، انتبه النسيج لمحاولتي الهروب، فبدأ يعطي تعليماته لباقي الشعيرات بالتصلب، لكنني أعرف تمامًا أن تنفيذ هذا سيحتاج إلى عدة دقائق، فسارعت بقص الشعيرات بالذراع الآخر، والساقين، احتجت مساعدتها في قص الشعيرات بالظهر والكتفين، والتي بدأت في التصلب قليلًا؛ مما تسبب في زيادة وتيرة النزيف، لكن لا يهم….
أستطيع الآن الحركة بحرية رغم الألم، ذهبت للاستحمام، لا تزال هناك بعض من بقايا شعيرات ضامرة تنبت من جسدي، أعرف أنها ستسقط مع الوقت، داومت على الخروج اليومي للجري في شمس الصباح الباكر، والعودة لأخذ حمام مطول دافئ، اختفت الشعيرات بعد عدة أسابيع، مخلفة بقايا من خلايا ضامرة لا يزال يمكن رؤيتها على سطح الجلد.
صديق للعائلة يملك ورشة لتصنيع الأثاث أطلب منه أخذ الأريكة وتجديدها ربما يمكنه إزالة آثار التخلي عنها وعني.
حين عادت أريكتي للبيت صار لونها رماديًا، أنظر إليها بحنين وتخوف، كلما جلست عليها شعرت بقطرات من العرق البارد تنبت بطول عمودي الفقري وأطرافي، أتحسس ذراعي للتأكد من أن الخلايا الضامرة لم ينبت منها أي شعيرات دقيقة شفافة، لا أستطيع الجلوس عليها طويلًا، فقط بضع دقائق للراحة بعدها أسارع بالذهاب للاستحمام، أخلع كل ملابسي، أغمر جسدي بالمياه، أرتدي “تيشرت”، بنطالًا، وحذاءً رياضيًا حديثًا ذا رباط خيطي وأخرج مسرعةً إلى الركض.