شعرٌ متناهٍ في كل مكان: بورخيس، خودوروفسكي، وبلعباس

borges1
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زكريا ديناوي

في عالمٍ تتسارع فيه الإيقاعات، ويتقلّص فيه الحيز المخصص للشعر، يبقى الفنّانون الحقيقيون أولئك الذين يحملون في داخلهم نزعة شعرية خالصة، حتى وإن لم يقتصر إنتاجهم على القصائد وحدها. الشعر، في جوهره، ليس مجرد أبيات موزونة أو كلمات متناغمة، بل هو رؤية للعالم، إحساس بالوجود، وطريقة خاصة للتعبير عن الجمال والخوف والتجربة الإنسانية. في هذا السياق، نجد ثلاثة مبدعين، ينتمون إلى أماكن وتجارب مختلفة، لكنهم يشتركون في سمة أساسية: تحويل العالم إلى شعر، سواء بالكلمات، أو بالصورة، أو بالموسيقى، أو حتى بالصمت. هؤلاء هم خورخي لويس بورخيس، أليخاندرو خودوروفسكي، وحكيم بلعباس.

بورخيس: الشعر كمعرفة لا تُعرّف

في خريف 1967، ألقى خورخي لويس بورخيس سلسلة محاضرات عن الشعر في جامعة هارفارد، كانت هذه الكلمات محفوظة في الأرشيف لأكثر من ثلاثين عامًا قبل أن تُنشر في كتاب صنعة الشعر، بترجمة صالح علماني. المحاضرات، رغم مرور عقود عليها، ما زالت تملك نفس الأهمية، لأنها تمسّ جوهر الشعر نفسه، وهو جوهرٌ لا يشيخ.

في أولى محاضراته، بدأ بورخيس بمفارقة: كيف يمكن لنا تعريف الشعر، ونحن نعرفه دون الحاجة إلى تعريف؟ يقول:

“إذا كان عليّ أن أُعرّف الشعر، وليس لدي الشعر كله، وكنت أشعر أنني غير متأكد، فإنني سأقول شيئًا من نوع: ‘الشعر هو التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية’. يمكن لهذا التعريف أن ينفع في معجم أو في كتاب تعليمي، أما نحن فيبدو لنا قليل الإقناع. فهناك شيء أكثر أهمية بكثير… شيء لا يشجعنا فقط على مواصلة تجريب الشعر، وإنما الاستمتاع به كذلك والإحساس بأننا نعرف كل شيء عنه.”

هذه الفكرة البورخيسية تكشف عن إحدى أعقد الإشكالات في فهم الشعر: فهو تجربة حسية ومعرفية في آنٍ واحد، وهو قريبٌ منا إلى حدّ أننا لا نقدر على وصفه، تمامًا كما لا يمكننا أن نصف مذاق القهوة لشخص لم يتذوقها من قبل.

بورخيس، المعروف بشغفه بالمكتبات والمتاهات، كان يرى الشعر كمزيج بين الذاكرة والخيال. لم يكن الشعر عنده مجرد صنعة لفظية، بل كان مفتاحًا لفهم العالم، وسيلة لاستكشاف الأبدية داخل اللحظة العابرة. في قصائده ونصوصه النثرية، غالبًا ما نجد إحالات إلى كتب مفقودة، نصوص متخيلة، أو حقائق تتداخل مع الأساطير، كما لو أن الشعر هو الوسيلة الوحيدة لإعادة تشكيل الزمن.

لم يكن بورخيس شاعرًا فقط، بل كان ناقدًا للتقاليد الشعرية نفسها. رأى أن الشعر ليس في التجريب الشكلي وحده، بل في القدرة على منح القارئ تلك “الرعشة الداخلية” التي يشعر بها عند قراءة سطر شعري حقيقي. لقد رفض الطرح الأكاديمي الجامد الذي يحاول تفسير الشعر وكأنه معادلة رياضية، لأن الشعر عنده لا يُفسَّر، بل يُعاش.

ومن هنا، كانت نظرة بورخيس إلى الشعر نظرةً فلسفية بقدر ما هي أدبية. كان يرى أن كل قصيدة هي انعكاسٌ لمجمل التجربة البشرية، وأن الشاعر، مهما كان حديثًا، فهو يردد أصداء شعراء سبقوه عبر القرون. وكأن كل بيت شعر يُكتب، كان قد كُتب من قبل، لكنه يولد من جديد عند كل قارئ يكتشفه لأول مرة.

خودوروفسكي: الشاعر الذي صنع السينما كطقسٍ روحي

إذا كان بورخيس يرى الشعر في الكلمات، فإن أليخاندرو خودوروفسكي يجده في الصورة والحركة والطقس المسرحي الذي يختلط فيه الواقع بالخيال. هذا الفنان المتعدّد، الذي يحمل في داخله أرواح الشعراء والحالمين والمجانين، لم يقتصر على الكتابة أو الإخراج، بل صنع تجربة فنية متكاملة، تمتد من السينما إلى المسرح، ومن الأدب إلى فنّ التارو، حتى أصبح اسمه مرادفًا لنوعٍ من الفنّ الذي يكسر الحدود التقليدية، ويتحول إلى بحث صوفي عن الحقيقة.

خودوروفسكي، المولود في تشيلي لأبوين أوكرانيين، لم يكن فنانًا محليًا، بل كان كالمطر، يذهب حيث يحتاجونه. حياته سلسلة من الترحال، بين تشيلي وفرنسا والمكسيك والولايات المتحدة، وبين السينما والمسرح والفلسفة. يرى العالم كخشبة مسرح كبيرة، حيث تتداخل الذكريات بالعوالم السريالية، والرموز الدينية بالموروث الشعبي، والتجربة الشخصية بالأسطورة الجماعية.

لم يكن الفنّ بالنسبة له مجرّد مهنة، بل كان علاجًا نفسيًا وروحيًا. أفلامه كانت محاولة للتصالح مع الماضي، وخصوصًا مع والده الذي وصفه بـ”الوحش”. غادر أسرته صغيرًا ولم يعد لرؤيتهم أبدًا، لكن في فيلمه رقصة الواقع، حاول أن يعيد تشكيل ماضيه، ليُدخل بعض الإنسانية إلى شخصية والده. هذه الرغبة في التداخل بين الفنّ والحياة هي ما جعل أعماله تبدو وكأنها “علاج جماعي”، حيث ينقل المشاهد إلى عالمٍ غرائبي، لكنه مليء بحقائق دفينة عن النفس البشرية.

كان خودوروفسكي يسعى إلى الكمال، وهذا جعله يترك وراءه قائمة طويلة من المشاريع غير المنجزة، أشهرها محاولته اقتباس رواية الكثبان (Dune) لفرانك هربرت. هذا المشروع، الذي لو تحقق، كان سيجمع بين أورسون ويلز، هانز غيغر، بينك فلويد، وسلفادور دالي! لكن المنتجين تخلوّا عنه، ورغم ذلك، ظلّ المشروع مصدر إلهام لجيل كامل من المخرجين، ومن بينهم ديفيد لينش ودينيس فيلنوف.

“أنا لن أموت”

يقول خودوروفسكي: “أيّ شخص يعتقد أنه سيطعن في السنّ ويموت لديه مشكلة حقيقية.” كان يؤمن بأنه سيعيش 120 عامًا، ليس كادعاء، بل كحقيقة داخلية. لم يكن يرى الفن كعمل فردي، بل كطريقة لفهم الكون والإنسان. عندما توقّف عن صناعة الأفلام لمدة عشرين عامًا، اتجه إلى قراءة التارو وتأليف القصص المصوّرة، لكنه لم يتوقف عن رؤية الأحلام واستقبال الصور والرؤى التي تأتيه دون تخطيط.

بالنسبة له، الفنان الحقيقي لا يضع جدولًا زمنيًا، ولا يعلن مسبقًا ما سيفعله. الأشياء تأتيه من تلقاء ذاتها، كإلهامٍ مباشر من اللاوعي. لم يكن يخطط لشيء، لكنه كان دائمًا مستعدًا لاستقبال الفنّ في أي لحظة، سواء أكان ذلك في لقطة سينمائية، أم في قصيدة، أم حتى في صمتٍ عميق.

خودوروفسكي لم يكن مجرد مخرج أفلام أو كاتب سيناريو، بل كان شاعرًا يبحث عن الشعر في كل شيء، حتى في أكثر اللحظات جنونًا. كان يرى أن العالم افتقد إلى الشعر، لأنه تحوّل إلى تجارة. “الجميع يتكلّم عن الشعر، ولكن أحدًا لا يبتاع كتب الشعر. دور النشر لا تكترث للشعر لأنه لا يدر عليها الربح.”

في عالم أصبح كل شيء فيه قابلًا للبيع، بقى الشعر هو الفنّ الوحيد الذي لم يتحوّل إلى “بزنس”. ربما لهذا السبب كان خودوروفسكي يشعر بأنه آخر الشعراء الحقيقيين في زمنٍ لم يعد يهتمّ بالشعر.

حكيم بلعباس: السينما كمرآةٍ للروح

إذا كان بورخيس يكتب الشعر بالكلمات، وخودوروفسكي يرسمه بالصور السريالية، فإن حكيم بلعباس يعثر عليه في نبض الحياة اليومية، في الذاكرة الجماعية، وفي التفاصيل التي تبدو عادية لكنها تحمل في طياتها قصصًا عميقة عن الإنسان والمجتمع. بلعباس ليس مجرد مخرج سينمائي، بل هو شاعر سينمائي، يلتقط بكاميرته مشاهد تعكس التناقضات الداخلية للبشر، تمامًا كما يفعل الشعر بالكلمات.

بدأ حكيم بلعباس مشواره الفني بأفلام وثائقية، مثل عش في القيظ (1996)، دائمًا على استعداد (1997)، وراعي وبندقية (1998). في هذه الأعمال، كان أقرب إلى المؤرخ الذي يبحث في الذاكرة الجماعية، يرصد التفاصيل المهملة، ويعيد ترتيبها لتصبح جزءًا من سردية أكبر عن الإنسان المغربي.

لكن سرعان ما انتقل إلى السينما الروائية، حيث بدأ في نسج عوالمه الخاصة، من خلال أفلام مثل ثلاثة ملائكة بأجنحة مهشّمة (2001)، أخبر الماء (2002)، خيط الروح (2003)، علاش البحر؟ (2006)، وهذه الأيادي (2008). في هذه الأفلام، لم يكن بلعباس مهتمًا فقط بالحكاية، بل بالطريقة التي تُحكى بها، بالصورة التي تتشكل داخل ذاكرة المشاهد، بالإحساس الذي يتركه الفيلم بعد انتهائه.

رغم أن بلعباس درس وعمل في أماكن مختلفة، إلا أن عالمه السينمائي ظل مرتبطًا بأصوله، بمدينة أبي الجعد، التي يعتبرها “بئرًا لا ينضب ماؤها”. هنا، في هذه المدينة الصغيرة، نشأ وبدأ في تكوين وعيه الفني، من خلال السينما التي كان يشاهدها في قاعة والده السينمائية، ومن خلال التجوال الليلي في الأزقة رفقة مصطفى، مشغّل آلات العرض في القاعة.

يقول بلعباس إن مصطفى كان يملك “نظرة حدسية ثاقبة عن طبيعة البشر، وعن الشرط الإنساني”. كان يرى أن لو انهارت جدران المنازل ليلاً، لانكشف كل شيء، ولرأينا مدى حبّنا لبعضنا البعض، ومدى أذيتنا لهم في الوقت نفسه. هذه الفكرة، فكرة الجدران المنهارة، أصبحت عنصرًا أساسيًا في سينما بلعباس، حيث يسعى دائمًا إلى كشف الطبقات الخفية في العلاقات الإنسانية، وإلى إظهار التناقضات التي تعيش داخل كل فرد.

بلعباس ليس مخرجًا تقليديًا، فهو لا يعتمد فقط على السيناريو والحوار، بل يستمد إلهامه من مصادر متعددة: الأدب الإنجليزي والعربي والفرنسي، الموسيقى التي نشأ عليها، والأفلام التي وشمت ذاكرته. هذا الخليط من التأثيرات يجعل أفلامه تبدو وكأنها قطع شعرية مصوّرة، حيث تمتزج الصورة بالكلمة، والصمت بالموسيقى، والواقع بالحلم.

أفلامه ليست سهلة، لأنها تتطلب من المشاهد أن يكون شريكًا في عملية التأويل، أن يبحث عن المعنى بين التفاصيل، أن يصغي للصمت كما يصغي للكلمات. هذه السينما، التي تتجاوز السرد التقليدي، تضع بلعباس في مصافّ المخرجين الذين يستخدمون الصورة كأداةٍ فلسفية، كتأملٍ في الوجود، وكبحثٍ عن الحقيقة التي تختبئ في أكثر اللحظات اليومية بساطة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار