د. محمد المسعودي
ماذا نقصد بشعرية البوح؟
وهل يمكن توظيف البوح بلغته الشعرية الشفيفة ليشكل متخيلا سرديا روائيا محكما؟
وكيف يشتغل البوح لبناء عوالم الرواية؟
هذه أسئلة ثلاثة ستكون مدخلنا إلى قراءة رواية “مرآة الروح”، وهي الرواية الثالثة للكاتبة اللبنانية لونا قصير بعد روايتيها: “بلاد القبلات”، الصادرة عن دار الفارابي سنة 2015، و”فراشة التوت” الصادرة عن دار أبعاد سنة 2016. وقد صدرت رواية “مرآة الروح” عن مؤسسة شاعر الفيحاء الثقافية سنة 2018.
نروم بشعرية البوح في الرواية ميل الساردة إلى جعل لعبة الكتابة السردية تقوم على الإفضاء بما في الذات (ذوات شخصياتها الروائية)، وبما يجول في خواطر هذه الشخصيات، وما يعتمل في أعماقها من مشاعر وما تضطرم به جوانحها من حالات وجدانية مختلفة، بحيث تصير هذه السمة جوهر الحكي ومدارَه. وبهذه الشاكلة تتحدد قسمات المتخيل وتتشكل العوالم الروائية. فما تجليات شعرية البوح في “مرآة الروح”؟
لعل مدار هذا البوح ومحوره ارتكز على شخصيات ثلاث هي: ياسمين ورمزي وهادي، باعتبارها شخصيات محورية في الرواية، وباعتبار أن الرواية تصنع متخيلها انطلاقا من رصد تقاطعات حيوات هذه الشخصيات الثلاث وتشابكها في قربها وبعدها. ومن هنا نرى أن مدار البوح وحضورَه المكثف -في هذا النص السردي- ارتكز على كشف حالات هذه الشخصيات النفسية، وتوزعها العاطفي، وانشدادها نحو الارتباط بالمواضعات الاجتماعية والنزوع إلى التمرد عليها، والانصياع لرغبات الجسد والخضوع للوازع الروحي. وخاصة لدى بطلة الرواية ياسمين. تقول الساردة مصورة لحظة بوح ياسمين ووقوفها عند حالة انتابتها، وهي في رحلة عمل بإسبانيا، وإثر دخولها تجربة لم تعرف مداها وآثارها عليها وعلى من يحيط بها:
“شعرت ياسمين بالذنب كيف تقول له كلمة “أحبك”، وكانت مع رجل آخر تضحك وتمرح. كيف نسيت بأن زوجها مريض، ويقبع في المنزل وحيدا على كرسيه، لا أمل له في الحياة سواها؟
ينتابها صراع قوي، تفكر بينها وبين نفسها: “لماذا أشعر بالذنب؟ ألا يحق لي أن أبتسم؟ أريد أن أضحك، أريد ان أعيش”.
وإذ برمزي يسألها:
-ياسمين ما بالك لا تجاوبينني؟ هل ما زِلت معي على الخط؟ أحبك..
-وأنا أحبكَ أيضا رمزي إلى اللقاء..
صراعها ما بين الخطيئة وعدمِها، قتَلَها. انتابها غضب من نفسها، انهالت ذنوب الدنيا على رأسها. ستخبر رمزي بما حصل معها.. لا.. لا ستكتم عنه ما حصل. إن أخبرته لن تتحمل نظرات اليأس في عينيه، تكره الضعف، تكره السكوت، تكره الموت.. وعدته بأنها ستمسح دموع الألم وتذهب معه إلى آخر الدنيا.. ستبقى مدى الحياة فراشته، وردته وحياته..” (الرواية، ص. 105-106)
يكشف هذا المقطع المستشهد به عن حضور لغة البوح وقسماتها الكبرى في صياغة البنية السردية في رواية “مرآة الروح”. وبهذه الشاكلة نرى أن هذا البوح يتم من خلال طرق فنية ثلاثة: الحوار والحوار الداخلي (المونولوج) والسرد الذي تضطلع به الساردة العارفة والعالمة بكل ما يجول في خواطر الشخصيات وفي أعماقها. وبهذه الكيفية تضافرت هذه الإمكانات الفنية جميعا لتكشف عن لحظة فارقة وتحول هام في حياة وسلوك ياسمين، وقد وقف هذا المشهد التصويري المستند إلى شعرية البوح عند أهم ما يعتمل في ذات الشخصية من نوازع نفسية وروحية، وتوزع بين حب زوجها رمزي المريض المقعد، وبين تجربة حب جسدي عابر جمعها بهادي. وقد دار الحوار بين ياسمين وزوجها رمزي هاتفيا، بينما غاصت الشخصية في حوار ذاتي صامت عبر عن صراعها النفسي وتطلعها إلى العيش، ورغبتها في الضحك والارتباط بالحياة، في حين أنها كانت تعمل على عدم إشعار زوجها المريض بما ينتابها من يأس وكآبة أحيانا. وهكذا نرى أن هذا المشهد الحواري السردي كان مشهدا متكاملا فنيا أدى البوح فيه دورا حيويا في تشكيل الحدث والغوص في نفسية الشخصيتين: ياسمين ورمزي. كما عمل على إبراز توتر الوضع والإشارة لما يمكن أن تتطور إليه وقائع الرواية.
ولا تكتفي الساردة بتوظيف البوح من خلال هذه الأدوات الفنية التي لمسناها في المقطع السابق، وإنما تتوسل بآليات سردية فنية أخرى، منها الحلم ومناجاة الطبيعة وتوظيف الحكاية التي تستبطن الرمز والإشارة لتصير وسيلة بوح. ونلمس هذا التوظيف خاصة حينما تترصد حالة هادي الذي أغرم بياسمين، وصار يتمنى الارتباط بها دون أن يتحقق حلمه. وقد عانى هادي كثيرا من أجل معرفة سر صدود ياسمين عنه بعد إقبال قصير، غير أنها كانت شحيحة في بوحها لهادي بما تقاسيه، وشحيحة في إخباره بما تكنه له من عاطفة، وما تمتثل له من مواضعات اجتماعية، ومن ارتباط وجداني بزوجها رمزي الذي ظلت تحبه وتسعى للتخفيف من معاناته مع مرضه النادر الغريب، كما نلمس ذلك لدى رمزي الذي لا يكاد يصرح بمعاناته الصامتة لزوجته وبشكه في إخلاصها.
نأخذ من الرواية مشهدا تصور فيه الساردة إحساسات هادي ومعاناته، ثم نأخذ بعده مشهدا يقف عند معاناة رمزي. تقول:
“أوشك المساء أن يسدل ستاره، وإذ بنجمة مشعة تظهر، راح يحدق إليها قائلا:
-أيتها النجمة؟ أحببت امرأة لكنني لا أعلم إن كانت تبادلني هذا الحب. لقد تناسيت أشياء كثيرة أحزنتني، أخيرا تعرفت على حوريتي، لكنني أشعر بالخوف، لا أدري لماذا؟ هل أخاف أن يغدرني الوقت؟ لو كنت تعلمين شغفي بها أيتها النجمة لعذرتني.. ليتك تستطيعين أن تقولي لي إن كانت ستقبل بي كما أنا؟
راح يتساءل: هل أُصبت بالجنون؟ أتكلم مع نجمة ! ماذا أنتظر من نجمة في السماء؟؟” (الرواية، ص. 145)
هكذا تصبح النجمة شخصية فاعلة في مسار أحداث الرواية، وتصبح مناجاة هادي لهذه النجمة عنصرا فاعلا في كشف خبيئة نفسه، وما يعلنه للمقربين منه: صديقه جابر وخالته جوكندا وزوجها الطبيب خوسيه والممرضة ماجدة وحتى صديقة محبوبته هدى. ولما أعيته الحيلة لسماع اعتراف ياسمين بحبه، كانت نجمته التي يبثها لواعجه مرآته الروحية التي تجلي وهج لوعته وشدة أشواقه. وهكذا كانت الطبيعة مناط بوح، وعنصرا فاعلا في سيرورة الوقائع وبلورة رؤى الشخصيات: خاصة ياسمين في علاقتها أيضا بالبحر والنجوم، وهادي في ارتباطه بنجمته الهادية التي تتقبل نجواه وشكواه.
وقد ظل حضور هذه النجمة فاعلا طوال الرواية، وكانت مناجاتها بلسما لهادي تعوضه عن مناجاة محبوبته. ولم يكن ما يعتري هادي جنونا، وإنما كان تجليا من تجليات شخصيته العاشقة في صدق، الرومانسية في أهوائها ونزعاتها. ومن خلال مشاهد عدة كان البوح مهيمنا فيها، استطاعت الساردة كشف عمق شخصياتها، وما تعتريها من حالات وجدانية وتمزقات نفسية.
وبالانتقال إلى كيفية بوح رمزي بما يعانيه نجد الساردة تقول:
“في ليلة انعكست الأدوار وأراد رمزي أن يخبرها بقصة، فقال لها:
-ياسمين.. أريد أن أروي لك الليلة قصة أخبرتني إياها والدتي..
ابتسمت ياسمين متفاجئة..
-أنت اليوم ستخبرني رواية ! كلي آذان صاغية..
-في يوم من الأيام قصد شاب رجلا ذاع صيته بحكمته، أراد أن يشكو له همه، عندما وصل هذا الأخير إلى منزله، استقبله أجمل استقبال وسأله:
-قل يا ابني، ما الذي يشغل بالك؟
-أيها الرجل الحكيم.. تزوجت من فتاة أحبها كثيرا، تمنيت في مرات كثيرة أن أهديها أشياء كثيرة. لكنني أصبت بمرض، أنفقت كل ما لدي من مال ولم أُشف، إلى أن أصبحت فقير الحال، قلبي تحطم من الحزن لعدم مقدرتي على إسعاد زوجتي، وتحقيق ما حلمنا به..
فقال له الرجل الحكيم:
-أكمل يا بني..
صمت رمزي قليلا، ثم راح يكمل قصته:
-أيها الحكيم.. زوجتي لا تتأفف، صمتها الجارح يحفر في قلبي جرحا كبيرا، وبدأت أشعر بأن حبها لي بدأ يتلاشى من قلبها. كرهت نفسي، حاولت أن أتركها في سبيلها، لكنني لم أستطع، أختنق شوقا من تعلقي بها. عطرها يسري في دمي، وعطري يبوخ عند بزوغ كل صباح، أجلس عند نافذتي، أنتظر عصفورا شاردا ليرفرف، عله يواسيني، لا يلبث أن يبتعد بعد ثوان. أنتظر ساعات وساعات لحين عودة حبيبتي، أخاف أن تأتي وأكون قد رحلت من غير أن أضمها ولو لمرة واحدة.. أشعر بالاختناق أيها الحكيم، ليتني أستطيع أن أفجر عشقي لها في صرخة، في عتاب، في قبلة، في ضمة.. أتساءل إن كان طيفي سيلاحقها إن رحلتُ عنها؟ هل ستجد الحب في وجوه المارة؟ هل ستسامح أنانيتي؟ هل يجب أن أطلق سراحها وأخلصها من حياتها البائسة، أم أتركها تتعذب في حيرتها، وهي تغني لي كل ليلة لأغفو..
تدحرجت دموع ياسمين واختفت من الحزن. لقد فهمت قصد رمزي.. اقتربت منه وقالت له:
-أريد أن أغفو بالقرب منك الليلة.. أنا خائفة”. (الرواية، ص.256-257)
من خلال الحكاية/ القصة التي يرويها رمزي يسعى إلى البوح بما يتوزعه من شعور بين أن يتشبث بزوجته التي يحبها، وبين أن يدعها لشأنها حتى تختار طريقا يحقق لها بعض السعادة التي حرمت منها. وهو في الآن نفسه ينقل لها عتابه بطريقة رمزية وبإشارات سريعة دالة. وبهذه الكيفية كانت الحكاية أداة بوح، وعنصرا آخر من عناصر بناء عوالم الرواية، وتشكيل سرديتها، وقد استطاعت هذه الحكاية كشف ما يختلج في نفسية رمزي، وما يتآكله من هواجس. وقد تمكن عبر هذه الحكاية من تحريك مشاعر زوجته، وإثارة مخاوفها، بحيث فكرت في تغيير سلوكاتها ومنح زوجها رعاية أكبر ووقتا أطول. وبذلك كانت الحكاية لعبة بوح أدت دورا حيويا في الرواية.
انطلاقا من كل ما سبق نتبين أن شعرية البوح في رواية “مرآة الروح” تشكلت من خلال أدوات فنية متنوعة استطاعت الساردة بوساطتها بناء عالم روائي محكم القسمات، وتشكيل متخيل سردي قوامه الغوص في وجدان الشخصيات وحالاتها النفسية. وهي رواية كتبت بلغة سلسة جميلة وأسلوب سردي سريع الإيقاع.