د. مصطفى عطية جمعة
(صالة منزل فسيحة، فيها أثاث منسق بشكل فني، نرى في المنتصف “أنتريه ” ذا زخارف إسلامية، ووسائد مريحة، وفي الخلف مكتبة مكتظة بالكتب وبالمجلدات والمجلات القديمة، وفي الركن الأيمن: أريكة طويلة للقراءة يضطجع فيها القارئ بشكل مريح، وفي الركن الأيسر تلفاز قديم، وعلى الحائط تتزاحم صور كثيرة، متعددة، للقطات من أفلام سينمائية، يظهر فيها وجه بطلنا في مراحل متعددة من عمره، في شبابه حيث نشاهد وجهه صافيا، وشعره لامعا، في لقطات من أفلام ” أبيض وأسود “، ثم وجهه وقد زحفت التجاعيد عليه، وخط الشيب رأسه ببطء، في لقطات ملونة من أفلام ومسرحيات. هذا هو البطل ” رمزي زكي “،وقد تخطى السبعين من العمر، بتجاعيد قليلة في الوجه مع آثار لعمليات تجميل وشدّ، وشعر مصفف بعناية، مصبوغ حديثا، بلمعة زاهية، يرتدي ” روب دي شامبر ” صناعة أوروبية، وتحته بيجامة حريرية. يضطجع على أريكة القراءة، ممسكا بمجلة فنية تعود إلى فترة الستينيات، يقرأ ما فيها، ثم يعلّق..”
رمزي: ” دور مميز أداه الفنان ” رمزي زكي ” في فيلمه الأخير ” قسوة الأيام”، فقد أجاد في دور الأب، وكان علامة مميزة، ونجح في تقديم دور العصامي المتسلق..(يتوقف عن القراءة، ثم ينهض، وكأنه يخاطب زوجته، متقمصا دور محمود حنفي في الفيلم)
الحمد لله يا ” عديلة “، ربنا أكرمني وعيّنني سعادة الوكيل ” عثمان بك ” في مكتبة مدرسة ” صلاح الدين الثانوية “، تعينت أمين مكتبة. (براحة) رحت اليوم، وتسلمت الشغل الجديد، وقابلت المدير. فعلا يا عديلة، المكتبة عالم ثان، طول عمري أحب الكتب، وودي أن أحيا وسطها. (ينظر لها متفحصا) أنا أفهم نظرتك يا عديلة، فعلا، عثمان بك أخذ المقابل مني، سنتان وأنا أكتب له المقالات في الجريدة، وينشرها باسمه، هههههههه. صدّقتُ كلامه في البداية (يغير صوته مقلدا عثمان بك بصوته الأجش): الكاتب الحقيقي يا محمود..الكاتب الصادق ؛ هدفه أن تصل أفكاره لكل الناس، سواء كانت باسمه أو باسم غيره. (يضحك ساخرا ويواصل مقلدا عثمان بك): هذا سر بيننا يا محمود، وسأكافئك عليه مكافأة سخية. (يعود لصوت محمود حنفي مع ضعف في النبرة): أنا تحت أمرك يا سعادة الوكيل، المهم رضاك عنّا. (يواصل) سنتان يا عديلة وأنا أقرأ مقالاتي في جرائد: المقطم، والنيل، والغد، وأسمع ثناء الناس عليها، وعلى عثمان بك، وكيل وزارة المعارف العمومية، ذي القلم البديع، والأفكار التقدمية، المحاربة للجهل والظلام وثقافة العصور الوسطى، والشهادة لله يا “عديلة “، عثمان بك كان رجلا ماهرا، ينتقي أكبر الجرائد في البلد، وينشر فيها، والشهادة لله أيضا، كان يعطيني مكافآت المقالات، ويقول لي: هذا حقك يا محمود، أنا أخذت حقي في إشادة الناس بي. بعت جهدي وأفكاري يا عديلة، مقابل أربعة أو خمسة جنيهات في الشهر (يضحك) لأول مرة يا عديلة أعرف ثمن القراءة والكتابة، هل تذكرين كلامك زمان، وأنت تقولين، اسرح يا محمود مع العمال في ميدان السيدة زينب وارمِ الكتاب، هل سنطعم الولدين ورقا؟
صوت عديلة: صحيح يا محمود يا ابن عمي، والمكافأة الكبيرة، أن عثمان بك عيّنك في وظيفة حكومية، وصرت مستخدما براتب كل شهر في أمان.
محمود (بحنق): كان الثمن غاليا، عملت رسالة ماجستير لولي النعمة، وأخذني إلى دكتور صديقه في الجامعة، علّمني الطريقة، وقال لي بعدها (يرفع صوته مقلدا عثمان بك): ماشاء الله عليك يا محمود، الدكتور حشمت يقول عنك: إنك أحسن من الأستاذ في الجامعة…، أريدك أن تكون معه، وتساعدني في رسالتي للماجستير، ومكافأتك كبيرة… جدا، ستكون موظفا بالحكومة، وستظل معي حتى تساعدني في الدكتوراه أيضا.
(يتوقف رمزي مستذكرا موقفا، ثم يضحك بخيلاء)
آه، لن أنسى هذا اليوم، الذي اقتحم عليّ – إنسان نكرة – هنا، مساعد مخرج شاب، يطرق باب شقتي، ويريد مقابلتي، يخبره الولد ” علوان ” الخادم أنني في خلوتي، لم يفهم الشاب ” الحمار ” معنى خلوة ” رمزي زكي “، الممثل الكبير، فألحّ في الطلب، وتطاول على ” علوان “، خرجتُ إليه من غرفة نومي، وبنظرة واحدة مني ثم لكمة في وجهه، جعلتُه يجثو على ركبتيه، وهو يقول بصوت مرتعد (يقلد صوت الشاب بنبرة مترددة خائفة): أيها الفنان العظيم، لقد أرسلني المخرج لأخبرك بتقديم موعد تصوير فيلم ” الغادة الحسناء ” غدا من الساعة الحادية عشرة، إلى الساعة التاسعة صباحا، وأنت لا ترد على هاتف المنزل، منذ ساعات.
(يواصل) حتى لو كان هذا السبب أيها الحقير، الكل في الوسط الفني يعلم خلوة رمزي زكي في بيته (يضحك) وكان جزاؤه ركلات ولكمات وشتائم. لا يعلمون هؤلاء الشباب أنني سليل عائلة ” زكي “، وأن جدي كان يمتلك أرضا يركض فيها بخيله طيلة النهار، فلا يأتي على آخرها..، الجهلاء لا يعرفون أن أرض عائلتي كانت زمام مركز ” ههيا ” في محافظة الشرقية، وحوله خمس عشرة قرية. أنا رمزي زكي، أسكن في شقة وسط القاهرة، في عمارة الإيموبيليا. لقد خرب الوسط الفني بأمثال هؤلاء، وغيرهم من الغسّالات اللائي تحولن إلى راقصات درجة ثالثة، ثم صرن ممثلات يملأ ردحهن كواليس المسارح والاستوديهات. ولكن الكل يعلم من هو رمزي زكي، والكل يتوقف عند اسمي، ورسمي، وشخصي، ثم يأتي هذا الرعديد، ويفسد خلوتي، وأنا أراجع دوري في فيلم ” الغادة الحسناء”. (كأنما يتذكر) ياه، لقد كنت متقمصا في هذا الفيلم دور ” سليم باشا السروجي”، عضو مجلس النواب. كم كنتُ رائعا وأنا أؤدي هذا الدور، كان منسجما مع شخصيتي وتكويني، أنا رمزي زكي، الذي ذهب لباريس لتعلّم القانون، فأغرم بالفن والمسرح في بلد الجن والملائكة، فعدت سابحا في غمرات الفن، كارها قيود القانون. (يتحرك رافعا يده لأعلى مستحضرا شخصيته في الفيلم، متعمدا النطق بعربية فصيحة كأنه في مرافعة بالمحكمة) أيتها الغادة الحسناء، لن أكون ألعوبة في يدك، سأحافظ على ما وصلت إليه من مركز ومكانة. أيتها الغادة اللعوب، لقد كنتِ الخطأ الوحيد في حياتي، حين تزوجتك وقد تجاوزت الخمسين من العمر، وأنت في العشرينيات، أنا في قمة نضجي العقلي والفكري، أقطف ثمار كدّي في العمل والسياسة، وأنتِ لاهية، عابثة، تفكرين في جمالك، تتباهين بفتنتك. حياتي منظمة كالساعة المنضبطة، وحياتك فارغة فوضوية كبندول الساعة الخرب.
(صوت الحسناء بنبرة أليمة) ولماذا تزوجتني وأنت تعتبرني خطأ في حياتك؟ لماذا أدخلتتي في نظام حياتك الذي لا خطأ فيه كما تقول؟
(صوت سليم بحدة) أردت أن أعيش شبابي الذي لم أعشه.. أردتك بهجة في حياتي الخالية من البهجة (بحزن) فاكتشفت أنك ترس خرب في الساعة، لو أبقيت عليكِ سيدمر باقي التروس.
(صوت الحسناء باكيا) أنت قاسٍ جامد روتيني، الإفطار الساعة السابعة والنصف صباحا، والغداء الساعة الثانية ظهرا، والعشاء الساعة الثامنة مساء، وعلى كل من في المنزل الالتزام بهذه التعليمات،والويل ثم الويل لمن يخالف هذا النظام.
(صوت سليم) نعم، لأنني حققت بهذا النظام كل ما أريد، ها أنا عضو منذ عشرين عاما في مجلس النواب، ونائب رئيس حزب الأحرار، وأحمل كل أعبائه على كتفيّ، وضيف دائم في حفلات الخاصة الملكية ؛ لمولانا أدام الله بقاءه، وحافظت على ممتلكات عائلتي في الأراضي والقصور والعمارات وزدت عليها.
(صوت الحسناء وهي تكفكف الدمع) وماذا تريد مني الآن، بعد زواج سبع سنوات أثمر طفلا بريئا؟
(صوت سليم بكل ثقة) أريدك أن تخرجي من حياتي أيتها اللعوب، اتركي ابنك يعيش في أمان، لقد لوّثتِ حياته ؛ لن أغفر لك عشقك لضابط سلاح الجو الملكي. فاذهبي إلى الجحيم معه، واتركي الجنة هنا التي تتمناها أية فتاة.
(صوت الحسناء) أنت وحش، بشع، مغرور..
(صوت رمزي) هذا أنا سليم باشا.. (متلجلجا) هذا أنا.. رمزي بك زكي، ما هذا؟ كأنني هو، وكأنه أنا ! يوجد شبه كبير بيننا، ولعل هذا سبب النجاح المدوي للفيلم…، وقتها قال لي مخرج الفيلم ” محمود ماهر “: أنه كان يراني طبيعيا تماما. (يتلجلج) هل أنا بهذه الوحشية؟ التي تحرم أما من ابنها، وكانت لذتي أن آخذ هذه الحسناء من حبيبها الضابط، لقد رأيتهما جالسينِ في محل “جروبّي ” وسط البلد، كانا يتضاحكان ببراءة، يميل عليها ويهمس في أذنيها، فتبتسم في استحياء، لم ينشغلا بنظرات رواد المحل، وهم أجانب أو من الطبقة الارستقراطية في مصر..، كأنهما في عالم آخر.
صوت الحسناء: كنتَ أنانيا، أردت أن تستحوذ عليّ، وأنت تعلم أن قلبي مع رجل آخر، ضغطتَ على أخي..
يقاطعها: ههههه، أخوك هذا، كان موظفا صغيرا في الوزارة عندي بدرجة سابعة، والآن صار درجة ثانية، وعلى مشارف الأولى، كلما مرّ عام على زواجنا، ترقّى درجة ؛ وحصل على المزيد من العلاوات (بتكبر) لقد أدخلتُ السعادة على جميع أفراد عائلتك، الكل استفاد من زواجك مني. هل تنكرين ذلك؟ أنتظر ردك أيتها الحسناء اللعوب.
(يتغير صوت الحسناء إلى صوت زوجته نادية، بنبرة دالة على سنها الشاب)
اهدأ يا رمزي، قصدي يا أستاذ رمزي، هكذا كان يجب عليّ أن أناديك، رغم أنني زوجتك، ولم أجرؤ أن أناديك باسمك – أمام الناس – مثل كل زوجة، لم أجد فرقا كبيرا بين رمزي الفنان الذي كنت أراه في الاستوديو، وأنبهر بأدائه، وتقمصه للشخصية بشكل رهيب.. وبين رمزي الزوج في المنزل.
(رمزي زاعقا): أنتِ يا نادية مرة ثانية، ألا تكفين عن اقتحام خلوتي؟ تعبت من صوتك الذي لا يفارقني في يقظتي.. وفي منامي، أيتها اللعوب التي خلبتْ عقلي (يتذكر) آه، كم كنتِ رائعة وأنا أراكِ خلف الكواليس، كنت في الثانية والخمسين، وأنت في الثانية والعشرين، أيتها الجميلة، ذات العود المخملي. أنهي تصوير المشهد، فتسرعين بالتصفيق لي، وتهتفين بإبداعي، شككت في نواياكِ، ولكنك كنتِ صافية العينين وأنت تتعلقين برقبتي، وكلماتك تصبّ متتالية. أخبرتني أنك جئت من ريف ” المنصورة “، هربتِ من زوجة عمك التي أذاقتك الهوان، فعملت في القاهرة خادمة، وشاء حظكِ أن تعملي عند المعلمة “سماسم” في شارع محمد علي، ثم صرتِ راقصة..، ثم ممثلة على يديّ. أيتها الجميلة، جئتني في كهولتي، أعدتِ شبابي إليّ، أو هكذا تخيلتُ، كان يوم زواجنا غريبا، دعوتك للعشاء في مطعم ” ألفي بك “، كنتِ تنظرين إليّ متيمة بالحب، وتغمزين إلي، أشعلتني همساتك، وعندما ألمحت لك أن نذهب للمنزل سويا، بان الغضب في قسماتك، وهممت أن تذهبي عني، اشتعلت أعماقي، ناديت النادل، سألته عن أقرب مأذون، فأرشدني إلى بيته في شارع التوفيقية…، ههههه، فوجئ المأذون بمن يطرق باب شقته الساعة الواحدة صباحا، وعندما رآني، هتف: الفنان العظيم رمزي زكي، لا أصدق عيني، دعاني للدخول، ودون مقدمات طلبت منه أن يزوجني ” نادية ” الآن…، بهت الرجل، وهو يطالع شيب رأسي ووقاري، وهيئتي العالية، وينظر لهذه الفتاة التي كانت في عمر ابنتي. ولكن نظراتي الحاسمة، جعلته ينادي على البوّاب، الذي فهم المقصود، وجاء ومعه شاهد آخر، وتم الزواج، وسعدوا جميعا بالمبلغ الكبير الذي أعطيتهم، وبكونهم شاهدين على زواج رمزي زكي والفنانة الصاعدة – هكذا قدمتها لهم – الفنانة ” نادية “، وافقت جميلتي أن يكون زواجنا سريا، وعشنا أياما صاخبة في شقتي، أعدتُ فيها خادمي ” علوان ” إلى بلده، وأحضرنا خادمة تقضي النهار وتبيت في بيتها في منطقة ” الترجمان ” ليلا، بعد خمسة شهور تسرب الخبر إلى الوسط الفني، لا أعرف من سرّبه، ولكنني اضطررت أن أعترف به، إنقاذا لسمعتي.
صوت نادية: أنا التي أبلغتهم، وصرت زوجة الفنان الكبير رمزي زكي.
(يضحك وكأنه لم يسمعها) قلت لزملائي الفنانين عندما سألوني: يا حسّاد، أنا أجدد شبابي، وأحسن من الحرام.
(يخاطبها) كنت ذكية أيتها الحسناء، استطعتِ أن تفرضي نفسك في كل أعمالي، وسمّوني أنا وأنتِ ” الثنائي المتضاد “، ههههههه، كانت هذه التسمية من شاب صحفي لعين، هو أول من لاحظ أن نادية معي في كل فيلم، فكتب هذا المصطلح، ولما اتصلت برئيس التحرير اعتذر بشدة، وأحالني على الصحفي الذي اعتذر بدوره، وقال إنه سبق صحفي، ابن الـ…، ولكنه أعجبني في رده عندما سألته فقال لي (يقلد صوته): هي ضدك في كل شيء، أنت متجهم، وهي ضاحكة، أنت رزين، وهي شقية، أنت كهل وهي صبية، ما رأيك أيها الفنان الكبير؟ (صوت رمزي) فعلا، يا ولد كانت ملاحظتك ذكية.(يصمت هنيهة) بصراحة، البنت نادية شابة وصغيرة، أعادتني لزمن مضى، لأيام الشباب. التي لم أعشها، فعلا لم أعشها كما عاشها الشباب مثلي، كنت حبيس القصر، لا أعرف إلا الحديقة الواسعة، والخدم ذوي البشرة السوداء الواقفين عن مقربة، في انتظار أية إشارة أو طلب مني، ومعي السائق عندما أذهب للمدرسة، أنا من عشت في أحد قصور “الفجالة”، كنت مشتاقا إلى الأحياء الشعبية، إلى النساء المرتديات الملاءات ” اللّف “، لذا كنت أستمتع بكلام البنت ” عيشة ” الخدامة عندنا في القصر، آه، كنت تجنني بدلعها، وغنجها، كنت أتلصص عليها وهي تغني في المطبخ. (بصوت زاعق): هل أحببتها؟ لابد أن أعترف أنني عشقتها، وطبعا لم أتزوجها لأنني لا أريد أن أقدم قصة ابن الباشا الذي يتزوج الخدامة، وأضع سمعة عائلتي في الحضيض. لقد أخذتني ” نادية ” المجنونة إلى عالم شعبي، ومرات كنت أناديها بعيشة.. تسألني عن سبب تغيير الاسم، كنت أقول لها: أدلعك بطريقتي. والحقيقة أنني أشبع ما كان بنفسي، وأعيش أياما افتقدتها.. لقد فهمت مرادي،وارتديتِ جلابية بيتية، وربطتِ شعرك بطرحة قطنية، وكنت تتظاهرين بالنوم جانب المطبخ، حين آتي متأخرا…، فأشعر بسخونتك.
صوت نادية: كنت تهذي بكل شيء وأنت معي (تضحك بغنج).
رمزي زكي (يواصل): كنت أخشى أن أسير في الشارع وأنت معي، وأفضل أن نكون في السيارة، رغم إصرارك أن تصحبيني، وتقولين أنا أفتخر بك يا رمزي، أو يا ” رموزة “. أيتها الجميلة الشقية، ثلاث سنوات عمر زواجنا، وكان الفراق بيننا، ثم طلبتِ الطلاق، لقد انتهت مهمتي كما فهمت من كلامك. لم أكن أتصور أنك تستطيعين البعد عني، أنا الذي صنعتك، في ثلاث سنوات صرت أيتها العفريتة نجمة، تشاركين في السينما، والمسرح، وصار الكل يتحدث عن النجمة الشقية الصاعدة، وقد امتلكتِ دهاء عجوز في الخمسين. أيتها الشيطانة، ذهبتِ عني، وعدتُ للوحدة ثانية، جاءني الولد علوان من البلد، وصار البيت جافا، والحياة يابسة، وعدت إلى صراخي، وكنت أنادي الولد علوان وأهذي له: غدا ستأتي نادية راكعة، باكية، نادمة. المجنونة تريد أن تعيش وحدها في الوسط الفني بشراسته ومساوماته، توقعت أن تعودي سريعا أو بطيئا، المهم سترجعين. كيف ستتعاملين مع المنتجين والمخرجين من غيري؟ وكل مؤهلاتك شهادة الإعدادية، مع براعتك في ” هز الوسط “. ولكن مرت الشهور والسنون، لم تعودي، تتقدمين من فيلم لآخر، ومن مسرحية لأخرى. كنت أتسلل وأنا أغطي وجهي بكوفية، وأشاهدك على المسرح. تميزتِ بأدوار الغنج، فتثيرين الجمهور بفستان فوق الركبة، ومشية متمايلة، وشعر يتطاير، والشباب يصرخ عندما تقولين (يقلّد صوتها): ” آه يا قلبي، آه يا عقلي، ولعتني يا مضروب “، والغريب أنك تبرعين في أدوار الخدامة، وتحوّلت من أدوار الرقص والإغراء إلى البطولة الثانية ثم.. (بحسرة) إلى البطولة الأولى، ها أنا في نهاية السبعينيات وقد أقفر البيت من الزائرين، وسكت الهاتف عن الرنين، وأنتِ كما أنتِ، في شباب دائم كما وصفكِ أحد الصحفيين في مجلة ” الكواكب “، وهو يصف سمات النجاح لدى النجمة الصاعدة ” نادية فهمي “، ولا أعرف من أين جاءك لقب ” فهمي “، وأنا أعلم اسم أبيك ” بسطاويسي السيد عبد المولى “، آه، صرتِ أنت ” نجمة الشعب “، ياه، لقد أطلقوا عليك الصحفيون عشرات الألقاب، مرة يسمونك ” الفنانة الشاملة ” طبعا: شاملة للرقص والتمثيل وأشياء أخرى، ومرة يسمونك ” نجمة الشباك “، ومرة ” شمس الفن “، والغريب أن زوجك الحالي والذي لا أعرف رقم ترتيبه بين أزواجك المتعاقبين، يسير وراءك، وهو مدير أعمالك، والآن صار المنتج والمسوّق لأفلامك الأخيرة.
(يتأمل في إحدى الصور المعلّقة وهي صورة ملونة حديثة، حيث يرتدي جلبابا بلديا، وعليه معطف أسود، ويضحك بخبث) لماذا علّقتُ هذه الصورة هنا؟ ياه، هذه مشاركتي في فيلم ” أربع نساء ورجل “، معقول، أنا أتعاون معك أيتها الشقية، بكل ما أحمله لك. لقد استعطتِ أن تقنعيني أن أشارك، وأن أعود بقوة إلى ساحة السينما، كان هذا من عشر سنوات، وكان دوري جديدا فعلا، سمسار عمال وحريم، لا، سمسار حريم،(يتغير صوته إلى الحديث باللهجة الريفية وهو يخاطب عدة فتيات ورجال): ” منصور بك ” المحامي، وهو ابن بلدنا، وربنا فتح عليه، وصار عنده مكتب كبير في مركز البدرشين، من منكم يريد الخير والنعيم كله؟ بصراحة يا جماعة عندنا أربعة رجال من الخليج ” مريشين بملايين، وعاوزين أربع بنات قمرات، مين اللي نفسها في عشرين ألف جنيه؟ وعيشة هنية، ومركبة رخيّة، يلا يا حبايب، وكل المطلوب البنت الحلوة بالهدوم اللي عليها، وساعتها طاقة القدر تتفتح لها “. (يسكت، ويأخذ نَفَسه، ويواصل بصوته المعتاد): كان دوري هو دور خولي الأرض في قرية، يستغل عمله للتعرف على الفتيات الجميلات وتقديمها إلى الخليجيين وطلاب الزواج المؤقت في أجازة الصيف، في الفيلم، زوّجت أربع بنات أقل من 18 سنة لأربع رجال تخطوا الستين، أحدهم دار حول البنت ” تحيّة “، وأعجب كثيرا بجسمها من الأمام والخلف، كان المقابل لي ألف جنيه عن توريد كل بنت، وثلاثة آلاف جنيه لمنصور المحامي لكتابة العقد العرفي، وطبعا حق السمسرة والعقد على العريس. (يضحك) استطاعت ” نادية ” أن تسوّق الفيلم، وهللت الصحافة والمجلات وكل الأقلام التي تقبض رواتب شهرية منها للفيلم، ولدوري الجديد فيه. (يمسك بإحدى الصحف القديمة ويقرأ) ” لأول مرة الفنان رمزي زكي في دور شعبي “، ” رمزي زكي يدين سمسرة الصبايا في فيلم جديد “، ” رمزي زكي يحصد جائزة أفضل ممثل ثان مع نجمة الشعب نادية فهمي ” (يضحك) وهل كنت أدين السمسرة أم كنت أروّج لها؟ لا أعلم، فسينما هذه الأيام مائعة، لا تعرف رسالتها، وإنما قصة شائقة، مع مشاهد ساخنة، مع نهاية فاجعة، وقبل ذلك وبعده دعاية مواكبة. ياه، لقد قبلتُ العمل بشروطهم، ونجحت نادية في إعادتي للساحة الفنية بعد غياب سنوات عنها (يتذكر) كان إعلان الفيلم في التلفزيون مشهدي وأنا أغني والبنات في الغيط حولي، وصوت المعلق يقول: “لأول مرة، الفنان الكبير رمزي زكي في دور الخولي “، هذا هو الدور الذي فهمته من السيناريست، والحقيقة أنه دور القواد، واكتشفت ذلك بعد توقيع العقد، وأنا أحفظ الدور، وأستمع للمخرج الشاب، الذي همس لي أن يكون أدائي خفيفا سريعا، مثل البهلوان. وعندما أديت بعض المشاهد، صرخت ” نادية ” وهي تقول: أنت أستاذ وفنان عظيم، الله يرحم أيام زمان. وهتف المخرج: فعلا، الموهبة الكبيرة لا تعرف السن، ولا تتأثر بالبعد عن الشاشة سنوات (يضحك) نادية قالت لي: ستعود بقوة يا أستاذ، الكل سيجري خلفك. وفعلا، ركضوا جميعا خلفي، وازداد رنين التليفون، وكانت مسلسلات في استديوهات تونس واليونان وعجمان، وأفلام في القاهرة ولبنان، كانت أدوارا صغيرة، ومتوسطة، ولكنها مؤثرة، وعندما اشتد انحناء ظهري، خبا الضوء ثانية، وهدأ التليفون والموبيل، ثم صمت.
(صوت نسائي) نسيتني يا رمزي، نسيتني.
(ينتبه) ” اعتماد “، ” اعتماد “، لا لم أبتعد عنك، أنتِ في.. نفسي (بصدق) أعترف لك أيتها الزوجة الوفية أنني ظلمتك، نعم ظلمتك، تزوجتك لأن أمي طلبت مني الزواج، وهي التي اختارتك لي، كم أحببتك يا أمي ! وكم أحببتك أكثر عندما حضرتِ أول بطولة مسرحية لي، على مسرح العتبة، رغم معارضة أبي، ووقفتِ بعد انتهاء العرض، والجمهور يعلي تصفيقه لي، تقولين لهم: هذا ابني، رمزي ابني. ونزلت من على خشبة المسرح عندما أشرتِ لي، وحضنتِني وسط الجمهور الذي صرخ وهو ينظر للسيدة الأرستقراطية، وحول رقبتها فرو من أفخم محلات أوروبا. وبجانبها كنتِ أنتِ يا اعتماد مع خالتي، كانت نظراتك مليئة بالإعجاب، وعندما عدنا في سيارة واحدة، كنت بجانبي، وفي يوم الجمعة كانت العائلة تحتفل بخطبتنا معا، وعانقتني أمي وهي تقول: اعتماد من العائلة، بنت أصول، تحميك وتحفظ شرفك، وهي ابنة خالتك، لو أغضبتها يوما، تذكر أنك تغضبني. وأظن أنني لم أغضبك يوما
(صوت اعتماد) ليتك أغضبتني، وصالحتني، كانت حياتنا عادية، تزوجتك لأنني أردت أن أخرج من حياة العائلات الارستقراطية الروتينية.
(رمزي) ولهذا طلبتِ الطلاق بعد سنوات، أقصد بعد خمس سنوات. ظننتك أنك تتوقين للإنجاب بعدما…، ليتكِ قلتِ هذا، كنت مثلك مشتاقا لهذه الحياة، ولهذا أنتِ تزوجتِ من مهندس بعيد عن العائلة، وقالت أمي مرارا لي وهي تؤنبني: صار وجهها ضاحكا، ولا نراها إلا مع ولديها.
سنوات طويلة مرت، ثم تلقيتُ منكِ بطاقة دعوة رقيقة بوصفي أحد رموز العائلة ومشاهيرها، لأحضر حفل زواج ابنك، قلتِ لي وقتها: لقد اخترتُ حياتي يا رمزي وأنا سعيدة بها، هل اخترتَ حياتكَ أنت؟ بان الغضب بوجهي، فصالحتِني ببراءة: أنا أحترم عشرتنا يا رمزي، وليتك تعيش مثلما أنا عشت، ولأني أعرفك جيدا، أقول لك ودي أن تعيش حياة كما تريد أنت.
بعدها بأشهر، تزوجت من نادية، ومارست صخبا متأخرا. ولكنه مجرد صخب.
(إظلام)