شعراء روائيون.. نحو تأويلية ممكنة

شعراء روائيون.. نحو تأويلية ممكنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

                              إلى الصديق " مخلص الصغير" مدير " دار الشعر " بمدينة تطوان

خالد البقالي القاسمي

     يرتبط الشعر بعلاقات واضحة أحيانا وملتبسة أحيانا أخرى بغيره من الأنواع أو الأجناس الأدبية، بمعنى أن علاقته مع ضروب الإبداع الأخرى يطغى عليها مرة التعالي والتباعد، ويطغى عليها مرة أخرى التقارب والتقاطع، ويدعي كل من الشعر والرواية التفرد بحمل لواء الأدب، وتمثيل الريادة فيه، وعندما يكون الأديب شاعرا فهو يظل وفيا لاختياره التعبيري والإبداعي، ويكون مبرزا في مجاله، وعندما يكون الأديب روائيا فإنه يكون بصدد اختيار قول العالم بطريقة سردية تسعفه في بسط المقال بالصيغة التي تجعله يكون مقبولا ومفهوما من طرف المهتمين والمتلقين. يحتقن الموضوع، ويتعقد الأمر عندما نجد أنفسنا بصدد شعراء حققوا منجزا مهما في مجال الشعر ثم فجأة شرعوا في خوض تجربة كتابة الرواية، في هذا الإطار لا يبدو الموضوع عاديا، وطبيعيا، وبسيطا، ومقبولا بكل سهولة كما عبر عن ذلك بعض المبدعين والنقاد لدينا، فالموضوع يحتاج إلى تحليل، وتأطير، وإعادة صياغة المعطيات لكي نفهم جيدا عمق هذا الاختيار، ولا يرمي العنوان في الأصل إلا إلى فك الارتباط بينهما.   

    استسهال الأمر بالقول إن الموضوع لا يعدو أن يكون عبارة عن أديب يجوس خلال الشعر أحيانا، ويجوس خلال الرواية أحيانا أخرى، أو إن الموضوع لا يعدو أن يكون سياحة، أو غير ذلك من الآراء التي تتعامل مع المسألة بشيء من الاستخفاف، وعدم المسؤولية، غير مقبول بتاتا، والحال أنه لا يمكن أن نجوس بسهولة بين الشعر وبين الرواية، ولا يمكن أن نمارس السياحة أثناء كتابتنا للرواية بعد نظمنا للشعر، لأن الذي يجوس يكون سلوكه أشبه بالذي استثمر صدفة ساقتها له الظروف في الطريق، وكتابة الرواية بعد الشعر لا يمكن بتاتا أن تكون موضوع صدفة، ثم إن السياحة عبارة عن استرخاء وراحة، ولا علاقة للشعر والرواية بالاسترخاء والراحة، حيث هما معا يتطلبان العزم الشديد، والإرادة الأكيدة، والصلابة المرجوة، والتفرغ المأمول، واحترام المتلقي المنتظر.        

     إن كتابة الرواية بعد نظم الشعر تعود لعدة اعتبارات تمت عملية سياقها ضمن كثير من المنتديات والمناسبات، فالشعراء الروائيون الذين كتبوا الرواية بعد الشعر يرون أن الشعر في عالمنا العربي بدأ عهده ينحدر ويتراجع، حيث إنه تقريبا في تصورهم باد بعد أن ساد، وأصبحت الرواية هي المرشحة لخلافته، والاستحواذ على عروشه، بل إن الرواية فعلا تصدرت القول الأدبي بشتى تلاوينه، ثم إن كتابة الرواية مفيدة أكثر في الانتشار وتحقيق الشهرة المطلوبة من المبدعين، كما إن الرواية تمكن صاحبها من المشاركة باستمرار في المسابقات التي تدر الأموال الكثيرة، بمعنى أن الروائيين هجروا الشعر من أجل تحقيق الانتشار، ورفع رقم المبيعات، والحصول على فرصة الفوز بإحدى المسابقات المالية التي تسيل اللعاب، وهذه كلها آراء عبر عنها عدد من المبدعين، مع العلم أنها آراء فيها كثير من النسبية، والسذاجة، والسطحية، ومجانبة الصواب.             

     كتابة الرواية بعد كتابة الشعر نشاط، وإرادة، ورغبة، واختيار ضمن مجال الأدب، ولكن هذه الكتابة تظل محكومة بقواعد، لأن الفعل هذا ليس بالأمر السهل الذي يمكن للمبدع ممارسته بسهولة ويسر، بل إن الموضوع يندرج ضمن ما يسمى ” النقل ” La Transposition ، بمعنى نقل الفعل والنشاط من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، وكل نقل هو سفر، وتحول، وترحال، ومن البدهي للغاية أن تنجم عن هذا التحول تغيرات، وتبعات، وامتدادات، حيث من الضروري أن تطرأ على كتابة وإبداع المبدع تحولات، واختلافات واضحة، ومؤثرة، أهمها:

  • على مبدع الرواية بعد الشعر أن يتوقف عن التفكير بواسطة آليات نظم الشعر، ويستعد للانخراط في التفكير بواسطة آليات كتابة الرواية، ولن يستطيع باحث متمرس أن ينكر الاختلاف الواضح بين آليات نظم الشعر، وبين آليات كتابة الرواية.
  • على المبدع أن يدرك جليا بأنه بصدد كتابة الرواية بعد كتابة الشعر، وهما معا متجانسان من حيث الانتماء، ولكنهما في نفس الوقت عبارة عن إبداعين متمايزين من حيث الجوهر.                  
  • أن يكون المبدع ناضجا، مثقفا، ومفكرا بدرجة عميقة لكي يستطيع أن يتبين بخلفية فلسفية دقيقة، وعميقة بأن الشعر هو كذلك مؤهل دائما لكي يكون حاملا لأفكار خلاقة، وبأنه نوع من الفلسفة التي تضمر تارة، وتظهر تارة أخرى جدارة بالغة في اللعب باللغة، ونفس الشيء علي المبدع أن يمارسه، ويعايشه في كتابة الرواية. على المبدع المتنقل بين الشعر والرواية أن يدرك بدقة وعمق أنهما كلاهما لا يعرفان الحدود، وأنهما لا يخلدان إلى الراحة إلا في نقطة بعيدة كل البعد، ليس لها من وجهة نظر صائبة أي قرار.
  • على المبدع أن يكون مؤمنا إيمانا فكريا، وأخلاقيا بالمعنى الثقافي، أن كلا من الشعر والرواية ليس لهما اكتمال في جوهرهما، إنهما يشكلان موضوعا مفتوحا، جاهزا للتأويل.
  • مطلوب من المبدع أن يكون على بينة تامة، وواعية بأن تأويلية الشعر والرواية هي تأويلية تاريخية قبل أن تكون اجتماعية، لأن اللغة التي تكتب بها الرواية قد تكون عبارة عن علامات تتميز بالنضارة والجدة، وقد تكون مستنفذة ومستهلكة. ثم إن اللغة التي يكتب بها الشعر من الجميل جدا أن تكون مشعة بنور يفصح عن حقيقة كامنة في عمق حركيتها، ونضجها.
  • من الهام جدا أن لا يغفل المبدع المتنقل بين الشعر والرواية بأن العلاقة بينهما تتميز بتبادل الأقنعة، حيث من شدة وقوة متانة العلاقة بينهما، يبدو وكأن تلك القوة والمتانة قد أنتجتا ستارة شفافة بينهما، وأصيبتا بالهشاشة، الشيء الذي مكننا من الوقوف على توالي ظهور العلاقات الجاذبة بينهما، والتي ترمي كل واحدة منها إلى محاولة إقناعنا بجدوى نفاذ خطابها إلى عمق المطلوب، مقابل عقم خطاب الأخرى.

     كتابة الشعر أو الرواية لا يكفي فيهما الاختيار، بل يحتاج الإبداع فيهما إلى التوفر على ميزات خاصة ليست بتاتا قسمة عادلة بين الجميع، لكي تكتب الرواية من الضروري أن تكون صاحب فكر ثاقب واسع، وعليك أن تكون عقلانيا تستحضر عقلك بدرجة عالية من التوثب، بعكس الشعر، فهو لا يمكن أن يوصف بأقل من الجنون، وهنا يكمن سحر الموضوع، أي البراعة التي تجعل المبدع في عملية تنقله بين الشعر والرواية يستطيع إتقان تبادل الأدوار في تشغيل جانبه العقلي أحيانا، وفي لحظة فارقة يستحضر جانب الجنون فيه، إنها مفارقة لافتة في حياة المبدع، والحق أنها كفيلة فعلا بإنتاج الإبداع الحقيقي، لأن الأمر لا يحتاج إلى تأكيد أن كثيرا من الإبداع الشعري ليست له علاقة بالشعر الحقيقي، كما أن نصوصا روائية عديدة لم يكن لها من أثر في النفوس إلا تضييع الورق والجهود.

     ولد الشاعر الألماني الكبير ” فريدريك هولدرلين ” 1770 – 1843 بمدينة ” لاوفن “، وبعد حياة حافلة، وسياحة طويلة عاد الشاعر من مدينة ” بوردو ” الفرنسية إلى ألمانيا وقد أصيب بانهيار عصبي أدى به إلى الجنون. لقد كتب ” هولدرلين ” أروع القصائد التي تغنى فيها بالطبيعة، والجمال، والحب، والحرية، والصداقة لفترة طويلة من حياته منزويا في صومعة وهو في حالة جنون. وقد قام الشاعر الفرنسي ” بيير جان جوف ” بجمع قصائده التي طبعت في دار غاليمار تحت عنوان ” قصائد الجنون الهولدرليني “، كما طبعت له الأعمال الكاملة في طبعة شتوتغارت الكبرى، وطبعة فرانكفورت.

     لقد وصل ” هولدرلين ” إلى النقطة التي ينقطع عنها التأويل، لأن التأويل لا يتوقف، ولا يقر له قرار حتى يتحول إلى تأويل التأويل كما ورد في الطرح النيتشوي، وينقطع التأويل فقط عندما يستهلك المؤول ( بفتح الواو ) عمقه وحقيقته التأويلية، أو عندما يجتاز عتبة المستحيل، إنه شيء خارق أشبه ما يكون بتجربة خطيرة جدا مثل تجربة الحمق، وهو ما عاشه الشاعر الألماني ” هولدرلين ” في الواقع الفعلي، وهنا نستنتج بوضوح أن الشعر الخالد الذي يصنف ضمن النصوص الشعرية المؤسسة الأصلية الكبرى التي يقاس عليها، ويبنى على هداها لا يمكن أن يكون إلا منتجا ( بفتح التاء ) لحالة الجنون. حالة الجنون هاته يقابلها فكر، وفلسفة، وعقل ” مارتن هايدغر “، لقد أدرك القيلسوف الألماني أن عقل ” هولدرلين ” الذي تحول إلى جنون اختزن كثيرا من الذخائر النفيسة التي كان يجد صعوبة بالغة في التعبير عنها وهو في حالة سوية، وعندما دخل مجال الاستثناء أصبحت تلك الذخائر جاهزة، مستوية لكي تنطلق من عقالها دون رقيب أو موجه، فانبثقت في حالة حرية مفعمة بالبهجة والانطلاق نصوصا شعرية خالدة تعكس فعلا حقيقة القول الشعري الذي يستشهد به ويقاس عليه، ولذلك انبرى الفيلسوف ” هايدغر ” بعدة الفلسفة والعقل واختار ” هولدرلين ” دون غيره من شعراء ألمانيا العظام لكي يقوم بتحليل قصائده، فقدم حول شعره بحثا في محاضرة عدت من تحف الفكر الألماني، بعنوان ” هولدرلين وجوهر الشعر أو ماهية الشعر “، واعتبر الفيلسوف أن الصدق المطلق مع الذات هو الذي أوصل الشاعر إلى الجنون، فسماه ” شاعر الشعر “، بمعنى الشاعر الحقيقي والفعلي، لأن شعره ينبض بسحر من اللغة والمعاني التي هي حصيلة نضج جلي خارق، كانت ثمرة تأويلية تاريخية مدمجة، جامعة بين منطق العقل، وسورة الجنون، فكان اختيار ” هايدغر ” لهذه النصوص لتحليلها ومقاربتها بواسطة آليات ” الهيرمونيطيقا ” اختيارا هادفا، ومقصودا. لقد أدرك الفيلسوف بأن الفرصة لا تعوض، وبأن اللحظة فارقة في التاريخ الإنساني من أجل تحليل الجنون بواسطة العقل، إنها تجربة فريدة، لقد كان الأمر يستحق العناء، فكانت النتائج ممتعة، ومفيدة، وزاخرة بتجربة رائدة تقارب الأدب بالفكر، وتزاوج بينهما في توليف نادر الحدوث. ولا أعتقد أن الشعر بعيد في هذه المعاني والصيغ عن الرواية.

     الشعر لحظة جنون، والرواية لحظة عقل، الشعر خروج عن المألوف، والرواية تدبير لهذا المألوف، الشاعر الروائي عليه أن يكون ملما بتجربة الفيلسوف الألماني مع الشاعر الألماني، لقد كان الفيلسوف يمتلك الآليات الفكرية الصارمة التي تؤهله لكي يجتاز عتبة الجنون ويعود منها بكل أمان، ولذلك كان بارعا في تحليل قصائد الشاعر. هناك خيط رفيع بين العقل والجنون، وشعراؤنا الروائيون ليس عليهم الاستهانة بالانتقال بين الشعر والرواية بكل بساطة، بل عليهم أن يدركوا جيدا أن الموضوع قد يؤدي إلى نتائج شخصية كارثية، كما قد يؤدي إلى نتائج عامة أكثر مرارة، أبسطها الخلط في الإبداع بين الشعر والرواية، فيصبح الشاعر الروائي مسخا بين أقرانه، مضللا في إبداعه.       

     إن كل تأويلية تاريخية هي عبارة عن اصطفاف ضمن الزمن التاريخي الذي يعكس التجربة الإنسانية الرفيعة في مجال الشعر، ومجال الرواية. للشعر مفهوم زماني محترم يختلف تماما عن الزمن العادي، والسطحي، والزائل، الزمن الشعري قد يكون خالدا، وبالخصوص عندما يمتح من الفني الجمالي بصيغة مباشرة، وللجمالي في هذا المجال زمانيته التي ترتبط جدليا باللازمانية، بمعنى أن التأويلية تفترض المحايثة بين نوعين من الزمانية الفنية، زمانية تاريخية، وزمانية فوق تاريخية، الزمانية الفنية فوق تاريخية يتحقق فيها الزمان المكتمل، هناك حيث يبنى الشعر على خلفية الجمالي المقدس وهي التي تسجل ضمنها تجربة الجنون حضورها الأبدي، بينما الزمانية التاريخية تبرز للعيان من خلال الزمان الحقيقي الظاهري ضمن الوجود، وهي التي تخول تحليل القول الشعري الخالد، وهي التي تكون كذلك مسعفة في بسط القول من خلال إنتاج المتون السردية الروائية.

     لا يشارك الشاعر والروائي في الكشف عن الحقيقة فقط، بل يشاركان كذلك في امتلاكها، بحيث كلما كنت طرفا في تلمس الحقيقة إلا وأصبحت مسؤولا عن صيانتها وحمايتها، والأمر في الأصل يعود إلى عملية الوعي بالذات، هذا الوعي الذي يخلق ليس نموذجا واحدا فقط بل عدة نماذج لتجلي الوجود، وتمثيل العالم والمستقبل، ويبدو هذا التصور قريبا جدا أكثر إلى الشعر منه إلى الرواية، وإن كان الإبداع الروائي هو كذلك بشموليته يهيمن على كل إبداع، بما في ذلك الشعر، حيث إن الشعر ينتج أو يخلق له وجودا خاصا لا يمكننا فهمه بتاتا إلا في إطار اللغة وداخلها، حتى ليخيل إلينا أحيانا كثيرة عندما نتتبع الشعر الخالد، والنصوص الشعرية الأصلية بأن اللغة عبارة عن كلية مهيمنة، كاسحة، تريد أن تقنعنا بشتى العلامات بأن كل شيء ما هو في نهاية المطاف إلا لغة فقط، وكأنها تجسد بعدا ساميا، مقدسا، متعاليا يبيح لها تمثيل الوجود والعالم بدون منازع، وقد تتفضل هذه اللغة الشعرية المفارقة على القول الروائي ببعض الإشراقات التي تساعد عند الجمع بينها وبين الحكاية على تشييد معمار رواية تتجاوز أفق انتظار أكبر المتفائلين. إن تعالي اللغة الشعرية بهذه الصيغة يجعلها لا تتطابق زمانيا دائما وكليا مع المعنى المقصود في القصيدة الشعرية، فهذه اللغة تتميز بالرحابة التي تجعل كل معنى مهما كانت حيويته عاجزا عن استيعاب علاماتها الخالدة والمشرقة، بينما في الرواية لا نجد العكس فقط، بل من الضروري والحيوي أن تتطابق اللغة الروائية مع المعنى المقصود والمراد في المتن السردي الروائي، وإلا فإن هذا العمل سيتحول إلى جوهر فني جمالي أثري باهت.

     إن الجمالية التي ينتجها الشعر، والفنية التي تنسجها الرواية، تجعل موضوع الانتقال بينهما أمرا صعبا للغاية، والمفروض أن يكون هذا الانتقال متوفرا على نوع من الوعي الفني والجمالي، لكي يكون المبدع في مستوى إنتاج نصوص تراوح بين الذات والموضوع،  وبإمكانها خلق عالم جديد، مثير، مربك، حالم، يدعو للبحث، والتفكير، والتحليل، والنقد،   والتأويل، وبإمكان تلك النصوص كذلك أن تكون في مستوى بناء تصور فعال للمستقبل.                                                    

           

مقالات من نفس القسم