شعبان يوسف صاحب “مقعد ثابت” فى القلب
جمال فتحى
قرأنا كثيرا وعرفنا وسمعنا حكايات وروايات عن نبل وعظمة وعطاء الكثير من آباء وأجداد الثقافة والإبداع والتنوير المصرى، سواء مما تركوه من تراث أدبى ونقدى وإبداعى وفلسفى وغيره، أو مما رواه وحكاه لنا فى جلسات خاصة أو عامة وفى مناسبات متنوعة أجيال أكبر منا عمرا وأسعد من حظا.
ورغم أن الحياة لم تبخل علينا تماما ووفرت لنا لقاءات حية ومباشرة مع مبدعين وكتاب ومفكرين وأساتذة كبار، مثل محمود أمين العالم (ونصر أبو زيد ومحمود درويش قبل رحيلهما)، وكذلك عبد المعطى حجازى وجابر عصفور وبهاء طاهر وسيد حجاب وغيرهم (أطال الله فى أعمارهم). فقد حرمنا فى المقابل لحداثة السن ولأسباب أخرى أن نلتقى أجداد وآباء من المثقفين والمبدعين والتنويريين، مثل طه حسين والعقاد وسلامة موسى وعبد الرحمن بدوى والشرقاوى ومحفوظ وعبد الصبور ودنقل رحمهم الله جميعا.
وقد قرأنا وسمعنا عن عظمة هؤلاء وإخلاصهم النادر للكلمة وشرف معاركهم وضراوة صراعاتهم مع الحياة ومع منغصات الكتابة والإبداع، وعن علاقاتهم الإنسانية التى لم تسقط ثوابتها تحت أقدام خيولهم حتى فى لحظات هزائمهم المريرة، وقد كنت دائم السؤال لنفسى ترى هل انقطع دابر هؤلاء الناس وراحت خصالهم، واندثر نبلهم وعز كرمهم وتلاشى عطاءهم؟ !بيد أن ذلك غير صحيح.
وإذا كان المشهد الثقافى والأدبى الآن ومنذ سنوات يتمدد ويتسع، وتساعده أدوات الميديا فى ذلك، حتى صار الكتاب والمبدعون والنقاد والمثقفون مئات بل لا أبالغ إن قلت ألوفا، فهناك وجوه قليلة ستظل دائما وأبدا علامات وأيقونات خاصة نقف طويلا أمامها وأمام ما تشعه من معان وقيم ورمزية، من هذه الوجوه وجه المثقف والشاعر والإنسان النبيل شعبان يوسف، الذى يمكن اعتبار اسمه ماركة أدبية وثقافية وإبداعية مسجلة، وهو الوجه الذى يخفى خلف ملامحه الكثير من العذوبة والبراءة التى تتدفق منسابة بمجرد أن تنفلت ابتسامته وهو يحدثك.
شعبان هو أبرز وأميز الأبناء الذين حملوا جينات النبل والزهد والترفع من هؤلاء الأجداد، وقد جسد فى نظرى منذ عرفته وهى معرفة متواضعة إن جاز التعبير، لم تصل إلى حد الصداقة لكنها تنطوى على محطات ربما تسمح لى بالحديث.
فهو الشاعر المبدع صاحب الصوت الشعرى المختلف، والناقد ذو الرؤية الرهيفة، والمؤرخ الأدبى الذى يظل ينبش فى دهاليز التاريخ عن حقيقة ما لم يصل إليها أحد، ليقدمها لنا بفرح طفولى عذب، وأظن أن إسهاماته الإبداعية والنقدية وكتاباته المتنوعة لا تحتاج إلى إشارة أو تعريف، وقد ضرب مثلا طوال مسيرته للمثقف الفاعل الحقيقى الذى يؤمن بأهمية دوره، وقدم عمليا البرهان غير عابىء بالتفاهات الصغيرة، عندما استطاع فى وطن كبير بحجم مصر يسود الظلام معظم أرجائه، أن يضىء بقعة صغيرة عرفت بورشة الزيتون، ظلت وستظل تقاوم الظلام الذى يعم الأرجاء، مؤمنا أن إضاءة شمعة أفضل كثيرا من لعن الظلام,
فيما ظل طوال سنواته يمارس الكرم والعطف والمحبة تجاه صغار السن والموهبة من المبدعين؛ فلم يتأفف ولم ينهر ولم يتعال بل فتح ذراعيه للجميع وكتب عن الجميع، وشد على يد الصغير قبل الكبير، واضعا نفسه ووقته ومعرفته وإبداعه رهن الطلب دائما، وقدم فى ورشته الأدبية الصغار واحتفى بالكبار فلم ينس منهم أحد، وهى والله صفات النبلاء التى عرفناها من الكتب والسير الذاتية والحكايات الشفهية المروية عبر الأجيال، ويأتى الاحتفال ببلوغه الستين – أمد الله فى عمره – منذ أيام فى دار الكتب وسط نخبة من المبدعين والنقاد والأصدقاء والأحبة أقل ما يستحق من جانبـ ودليل كبير من جانب آخر على صدق ما نقول وهو ما لم نأت فيه بجديد.. فتحية صادقة لك من القلب أيها المبدع والمثقف الكبير وأطال الله فى عمرك.