أيمن مصطفى الأسمر
مجدي القشاوي.. مثقف مصري من مواليد عزبة البرج بدمياط، محب للحياة والناس، متنوع الاهتمامات، واسع الاطلاع، يهتم بالأدب والسينما والموسيقى وغيرها من المعارف والعلوم والفنون، عمل بالقاهرة محررا ثقافيا لسنوات ثم عاد بعدها إلى دمياط، أعرفه وأخاه د / ماهر القشاوي منذ عقدين أو أكثر، وقد لا أكون صديقا مقربا له لكنه بتأثير روحه الجميلة يعتبرني كذلك، أهداني منذ أسابيع “شروط الوردة”، وهي مجموعة قصصية صدرت عن دار العين للنشر، وتمثل الإصدار الأول لصاحبها، تضم المجموعة سبعة عشر قصة، وهي قصص تؤكد الموهبة الكبيرة لكاتبها، وسعة اطلاعه وعمقه، وتفرده الواضح عن غيره من الكتاب، وتحمل خلاصة تجربته التراكمية مع الحياة والناس، وما أكتبه اليوم ليس إلا قراءة سريعة أجتهد كي أشير فيها إشارات سريعة – لما وصلني – من ترددات تلك المجموعة المميزة، وسأحاول أن ألخص ذلك في نقاط مختصرة.
1- يمتلك الكاتب رؤية واضحة لما يريد أن يتناوله من موضوعات، وهي رؤية نابعة ولا شك من اكتمال النضج والتراكم الحياتي والمعرفي الذي أشرت إليه من قبل.
2- يحكم الكاتب سيطرته على عناصر قصصه من البداية إلى النهاية؛ الفكرة – الشخصيات – المكان – الزمان .. الخ، لكنه لا يشعرنا بذلك، فتتدفق القصة كنهر هادئ من المنبع إلى المصب.
3- تتميز القصص جميعها ببناء سردي متماسك يذكرك على الفور بالعمارة، فهي بالفعل عمارة سردية راسخة وجميلة في آن واحد.
4- يمزج الكاتب ببراعة بين الواقع الذي استمد منه أعماله والخيال الذي يحلق به وبنا إلى آفاق رحبة تتجاوز الواقع وتحلله تحليلا دقيقا، ويجنح أحيانا إلى الغرابة والإيهام، لكنهما سبيله لإشراكنا معه في فعل الخلق والإبداع.
5- تعج قصص المجموعة بصور جمالية متشابكة ومركبة تؤكد تمكنه اللغوي، وتشكل أركانا قوية للبناء السردي المتماسك الذي ذكرته من قبل.
سأتناول بعضا من قصص المجموعة كنماذج لتوضيح ما ذكرته سابقا، وعلى القراء الغوص في أعماق المجموعة لاكتشاف المزيد من مكامن الجمال والجودة فيها.
ينسحبون من العين:
يرى بطل القصة حلما غرائبيا فيربطه عند استيقاظه بما روته أمه منذ سنوات عن طقوس وعادات تمارس في بعض المجتمعات لتحدي الموت والتحايل على سطوته، وللانفلات من روتين حياته اليومي يتجه إلى البحر، يلتقي في الطريق برجل أكبر منه سنا، فتبدأ بينهما صداقة من نوع خاص، يفتح له الرجل صندوق حكاياته، ويشركه في تفاصيل حياته، ويسدي إليه الكثير من النصائح:
“قلل قدر ما تستطيع من صداقاتك .. من نساء يفيض صدرك لهن بالوجد .. لا تتزوج .. وإن فعلت لا تنجب أبناء، وإن كان؛ فطفل واحد، لا اثنان ..”.
ثم يقول في نهاية نفس المقطع:
“.. سيقل عدد الموتى الذين ترى موتهم، سيقل عدد من ينسحبون من عينيك .. تهرب من أصماغ يتركها وراءهم الراحلون، وتنغرس فيها أقدامنا وأرواحنا، ولا نخرج منها أبدا .. تستطيع عندها أن تفلت من سيرة الموت والموتى”.
فهل التقى بطلنا بالرجل فعلا؟ أم التقى بنفسه ولكن في مرحلة سنية لاحقة، حيث الموت الذي نتحايل عليه لنفلت منه ينتظرنا لا محالة في نهاية المطاف.
تفتح القصة أبوابا كثيرة للتأمل والولوج إلى داخل النفس البشرية، وتطرح تساؤلات عديدة عن الموت والحياة.
تلمس أيامها على مهل:
يطلعنا السارد على تفاصيل حياة المرأة الوحيدة “كارهة اللحوم”، المحبة لسقيا القطط والكلاب والعصافير، يشركنا في حكايتها، وفي طقوس حياتها، فنتعرف على أسباب انفصالها عن زوجها، وهجرة ابنها الوحيد إلى كندا، ونتسلل ببطء إلى دهاليز علاقتها المحيرة مع جارها القاضي المنعزل:
“لأكثر من مرة تساءلت: لم يستثنيها من أسوار عزلته؟ ومع كل إجابة يقع سن برجلها على نقطة مختلفة، وتظل من فوقها ترسم الدوائر التي تظن دقتها، وفي اليوم الثاني تضعها على نقطة أخرى وتبدأ رسم دوائر جديدة. الجيرة المباشرة، يقينه المكتمل أنها لا تريد منه شيئا، إعجابه بحكايتها مع كلاب وقطط المنطقة، واهتمامه بتفاصيل حركتها، اهتماما يجعلها تتوقع أن تصحو ذات يوم لتجده وقد سبقها للسقيا، سأم يكتمل داخله من الوحدة، رغبة أن يكون هناك من يطمئن على بقائه بنفس الحياة، أو .. ربما إعجابه بها. مرات فكرت في ذلك، واندهشت من تفكيرها، بينها وبين نفسها، وبصدق لا تحتاج إلى إثباته لأحد، تشعر باستغناء عن الرجال”.
أما القاضي فيحكي هو حكايته عنها:
“لمرة وحيدة، وفي أثناء مغادرتها، قبلتني من الوجنتين كزوجة تقبل زوجها باعتياد. اضطربت للغاية، وهي لم تنتبه لا لقبلتها ولا لردة فعلي. يومها اعترفت لنفسي بأني أحبها. وفي أيام أخرى تناولنا فيها الغذاء معا. رددت نفس الاعتراف، لكنني في كل الإفطارات لا أفعل”.
هكذا تأخذنا القصة برفق إلى عالم مفقود، وأناس مندثرين، ومسحة رومانسية هادئة لا يخطئها القلب.
جملا:
يأخذنا الكاتب إلى عالم غريب وحياة أغرب، هو عالم وحياة المرأة البدوية “جملا”، ذلك العالم وتلك الحياة التي قد تكون غريبة عما ألفناه واعتدنا عليه، لكنه عالم موجود بالفعل يوازى عالمنا وحياتنا، ويتقاطع معهما أحيانا، وهذا ما حدث مع رفيقها الذي عرفته طفلا ثم رجلا:
“بيني وبين جملا نفس الفرق العمري الذي بينها وبين سلمى؛ خمسة عشر عاما؛ أنا الآن في الأربعين وهي في الخامسة والخمسين، قوتها وشعرها الأسود يقربان الفارق بيننا إلى النصف، ويساعد شعري الأبيض في ذلك. كانت شجرة شامخة رغم الرياح التي ضربتها، لا أعرف كيف توافقنا، للمرة الألف؛ أقول لنفسي جملا لا تفسر، ثم أبدأ من جديد في البحث عن العناوين. كانت عوالمنا كاملة التباين، لكننا نطبخ لبعضنا أكلات شهية، والنار في الكانون دائما في المستوى المثالي”.
في ختام قصته “شروط الوردة” يتساءل بطلها:
“ما شروط الفرح، شروط الوردة والإنبات”.
يتركنا مجدي القشاوي دون الإجابة على هذا التساؤل، لكنه يوحي إلينا أن شروط الكتابة الجميلة، والحياة الجميلة، هي نفسها شروط الوردة والإنبات.
نوفمبر 2024