شرفتى لا تطل على السماء

ناهد السيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناهد السيد

قسمت أعواد البامبو اثنتين اثنتين فى أنحاء البيت كما أشارت له صديقته الأجنبية، فقد جاءنى مبتهجا وكأنه  حصل على كنز دفين حمله إليّ من جزر المالديف، وأنا أعلم جيدا أنه إنسان بسيط من أقاصى القرى التى لا تعرف إلا أعواد المسك والبخور وسنابل القمح، لم ينتبه للحظة أن بيتنا يمتلئ بأعواد البامبو التى طالما سخر منى لشرائها حتى أنى أخفيت عنه ثمنها لكى لا أدخل فى متاهة “ضيعتى فلوسى” مشبها إياها بخرزانة الخوص، وضعتها فى زجاجات بلوريه تنعقد عليها فيونكة حمراء لتزداد طاقتها وتنشر محبتها بعيدا حتى خارج البيت أيضا، لكنى وضعتها بلا عدد ولم أحصها، وضعتها ببركة الحظ والحب والنعمة ..لعلى أخطأت فى إدارة طاقتها، لعلى أدرت وجهة – هذا اللاكى بامبو- صوب باب الخروج فقط ..يجوز! ..

 الآن أعدت ترتيبها كما أشارت صديقته بالظبط وقسمتهما إلى اثنتين فى كل قارورة، فالاثنتان تشعان بالحب، والخمسة تجلب السعادة والتسعة أعواد للرزق .. لكنى أخترت الحب وآمنت به .. ماذا بعد؟ لابد أن أسقيهما من صبر لا ينفد، وسماحة لا تذوب، وتجل وعذوبة وإشراق .

رحت أنظف أوراقها كل يوم وليلة، وأضع ماء الورد فى بلورته لينتعش، وأرمى إليه بحصى بلورى يضىء عتمته فى الليل.. أعرف إنه يحب الضوء ويخشي الظلمة.. أعرف أنه يعشق الليل لكنه يأتنس بضوء النهار ليتجلى ويملأ عينيه من المحبين حوله.. أعرف أنه حين تنساب رائحته أذوب عشقا.. لكنى لم أعرف انه يتلقلق فى وقفته ببيتى.. تغزه حصواتى البلوريه تخنقه رائحه ماء الورد.. تجمد مشاعره تلك القطرات التى أنثرها عليه يوميا لكى أزيل ترابا قد علق به من بعيد أو  قريب.. كنت أنوى ألا أدع ترابا يطوله أو حتى يلتف حوله، كنت أقصد إنعاش صدره بروائح عذبة، لا يلتصق بها دخان طبيخ غشيم، ويصمه ويزعجه صراخ أطفال لا تلتئم طلباتهم، كنت أحاول أن تنبت على أوراقه  أحلام طالما انتظرت صك الظهور والعلنية والتنفيذ، تنفض غبار سجنها وتنتعش، حتى وإن كان ثمن عمل شاق .. كنت أظنه عندما يميل على أنه يداعب خدى.. لم أشك للحظة أنه كان يعتدل فى جلسته فقط.. كان بضا أخضر صلبا ترعرع وأثمر واسعدتنى نضارته، فرحت أذوب أكثر وأكثر.. حتى أننى عشقت مسكنه تلك الزجاجه البلوريه التى تحتويه ..طمعت أن يكون سكنى إلى جواره، ولذت اليه كما يلوذ العبد لربه، وعندما غطست فى مائه انتقلت إليّ مشاعره دون أن يدرى، أدركت كم كنت أخنقه، وظننت انى احتويه ، كم كان أسيرا يضرب جذوره فى بلورتى، لكنه يحلق بفروعه بعيدا عنى، ليشم رائحة أخرى ويتندى بقطرات أكثر طزاجة، ويهيم بوجهه، بينما ينشق جذره من المنتصف، نصف يعشق الحرية والنصف الآخر يفضل البقاء بالسكن، لم تكن لديه يدان ليمسك عصاه من المنتصف ففردت له كفوفى لأمسك له عصاه.. لكنه ظل ينزلق نحو الحرية، ترفرف فروعه كالأجنحة، بينما أمسك به من الجذر كى يظل يتنفس.. لم يدر بعد أنه إذا ترك الجذر مات! سيفرح قليلا برفرفته فى الهواء لكنه لن يتنفسه، فهو ليس هواءه وليست مجرته.. لازال فى عينى صغيرا يلوذ بالفرار حيث اليد التى تمتد اليه بقطعه حلوى.. طبقت عليه كف يدى حتى شرخه انزلاقه .. ومع ذلك حلق !

 .. ظللت أنظر إلى تحليقه وقلبى يرفرف أخشى عليه من الوقوع .. وأقول فى سرى فى أمان الله

..كم كنت طفلا رائعا مطيعا مشاكسا وديعا يخفى صفات طيبه ويظهر انياب تحميه من العبث والملل والغرابة .. هنيئا لك حريتك.. لا تنظر خلفك صديقى.. فلم أعد أملك شرفه تطل على السماء.. فقط أحتفظ ببلوراتى الصخرية فى قارورتها الفارغة واستمتع بلمعانها كلما أشرقت ذكرياتى عليها.

مقالات من نفس القسم