نجاة علي
لطالما تصورتُ أن الشعر مشروع فردي، وأن مصطلح “الأجيال” الذي يروق لبعض النقاد أن ينظروا للشعراء من خلاله، هو أشبه بشرفة ضيقة الاتساع تجعلهم يرونه كتلة واحدة، وهذا أمر يزعجني إلى حد بعيد. وأجدني أنظر لهذا التصور على أنه خرافة، وإن كان يريح أصحابه من بذل الجهد لتمييز خصوصية كل تجربة شعرية على حدة، وهو أمر سينتهي حتما إلى افتقاد الدقة والعدالة أيضًا. فقد تحولتْ فكرة “الجيل” ليافطة كبيرة يُوضع تحتها الجيد والرديء على حد سواء. وفي أحيان أخرى، يتخذ البعض من هذه اللافتة وسيلة للإعلاء من شأن بعض النماذج، فيتمكنوا من صناعة “أيقونات كاذبة” للأسف، تسقط مع الزمن، حيث يتم إعادة الفرز مرة أخرى.
في ظني أن فترة التسعينيات كانت فترة تحولات هائلة في مصر، وأن عددًا من الأسماء المهمة شعريًا ممن أطلق عليهم “جيل التسعينيات”، رغم تحفظي على هذا المصطلح، قد تمكنتْ من أن تبلور تيارًا أدبيًا جديدًا في الكتابة، وحركتْ المياه الراكدة آنذاك، وتركت أثرا بعيدا مازال ممتدًا إلى اليوم. ومازالت الأجيال الأحدث سنًا تعيد قراءة أعمالهم وتجد فيها ما يدهشهم شعريًا.
وحين أعود بذاكراتي إلى الوراء أجدني أنظر بكثير من الإعجاب، لما قدّمه عدد من الشعراء الذين أثروا بقوة في تلك الفترة، فقد صنعوا نقلة هائلة بدواوينهم التي كانت بمثابة تمرد كبير على أساليب وأنماط شعرية كانت سائدة قبلهم .
لعلي رأيتُ وقتها أن هذه الكتابة الشعرية تتوافق مع رؤيتي لمفهوم الشعر الذي كان يخايلني، وارتبط عندي بسؤال شغلني كثيرا آنذاك، وهو سؤال “الفردية”، وكيف تتحقق من خلال فعل الكتابة، كنتُ أيضًا منحازة أكثر إلى “كتابة الذات” بالمعنى الفلسفي. وأسعدني أن الشعر قد تخلص أخيرًا من كثير من المهام التي أثقلتْه، وأسقطته في فخاخ الأيديولوجية فسلبته روحه. فصار مع ذلك التيار الشعري الجديد في قصيدة النثر أكثر حرية وتعبيرًا عن الذات الفردية وأسئلتها المؤرقة في مواجهة عالم متشظٍ، تساقطت فيه كل النظريات الكبرى التي ادعتْ طويلا إمكانية قراءة العالم وتفسيره.
وما زلتُ أذكر بكثير من الفرح في سنوات الجامعة الأولى كيف تعرفتُ على عدد من كتابات شعراء تلك الفترة من خلال زملائي بالجامعة، أحدهم أعطاني ديوان “حياة مُبيَّتة” للشاعر المثقف علاء خالد الذي احتل منزلة خاصة بشعره في نفسي، حتى قبل أن أتعرف عليه شخصيا فيما بعد، ثم تعرفتُ في مرحلة تالية على كتابات الشاعر عماد أبو صالح الذي الذي صنع مسارًا خاصًا به وحده في الكتابة ومَثّل حالة فريدة لفتت إليه الأنظار وأثارتْ إعجابنا خاصة أنه كان يطبع كتبه على نفقته الشخصية ويوزعها بنفسه دون اللجوء إلى أية مؤسسة.
و ربما المصادفات السعيدة جعلتني أتعرف على ديوان “تحت شجرة العائلة” لصديقي الشاعر أحمد يماني” الذي مازلتُ أحتفظ به في مكتبتي، تلك المصادفات نفسها قادتني قبلها أيضًا إلى قراءة ديوان “ناس وأحجار ” للشاعر ياسر عبد اللطيف حين كنت أزور جاليري مشربية الذي كنت من زائريه شبه الدائمين. ثم تعرفتُ في فترة لاحقة على كتابات الشاعرة فاطمة قنديل التي أسرني ديوانها الفاتن “صمت قطنة مبتلة” وأيضًا شعراء آخرين أحببت شعرهم مثل كريم عبد السلام وعصام أبو زيد وياسر الزيات وهدى حسين.
أعتقد أن كل الأسماء التي ذكرتها وآخرين معهم من نفس التيار الشعري صاروا أصحاب مشاريع شعرية خاصة بهم باعتبارهم أفرادًا وليسوا جماعات في المقام الأول، وهم موجودون بقوة بكتاباتهم المتنوعة التي لم تقف عند حدود فن الشعر وحده، ومازال حضورهم لافتًا ومؤثرًا في الحياة الثقافية ويتم الاحتفاء بإبداعاتهم.