شرطي هو الفرح.. كيف كان مصير «يوسف» مثل «صلاح» في «مستر كاراتيه»؟

شرطي هو الفرح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو شوقي

بُص، هذه رواية بلا حكاية واحدة واضحة ببداية وصراع ونهاية، ولكنها حكايات شتى، يليق بكل منها أن تُحكى وحدها بلا ضُرة.

أما الإطار العام فيتعلق بذلك الصراع الأبدي بين القرية والمدينة، ذلك الصراع الذي لا يشتعل إلا في نفوس هؤلاء الذين هاجروا من الأولى إلى الثانية، بحثا عن رزق أو حلم أو أفق أوسع، فإذا بهم أمام غربتين، واحدة مادية معروفة للجميع، وأخرى معنوية لا يعرفها إلا هم، لو أردنا أن نجتهد لنضع لها وصفا سنقول إنها غربة داخل الغربة.

ستقابل هذا الصراع القديم الجديد في رواية “شَرطِي هو الفرَح” للكاتب والصحفي أشرف الصباغ، والصادرة حديثا عن دار “الآداب” ببيروت.

في القرية

كاذب من يوهمك أن العاصمة هي الشر في أبشع صوره، والقرية هي المدينة الفاضلة، كلّ يؤخذ عليه، والمآخذ كثيرة على القرية كما هي متنوعة في المدينة.

“يوسف” بطل الرواية عاش طفولته بالكامل في إحدى قرى الدلتا، يستطيع أن يكون عيننا على الريف بما له وما عليه. نعم المجتمع القروي متماسك، متداخل، يستحق فعلا أن يسمى مجتمع، “يوسف” مثلا يعيش في دار تضم أجيالا من البشر، خذ عندك؛ جدة كبرى وأبناؤها الثلاثة؛ عمة كبرى وعمة صغرى وجد، ثم زوجة الجد التي هي الجدة الصغرى، ثم عم أكبر، عم أصغر، عمة صغرى، أب، أم، زوجة عم، بخلاف الأشقاء الثلاثة وأبناء العمومة السبعة.

لكن في هذا المجتمع الغني آفات لا تحصى، الجدة الكبرى تموت بسبب علقة ساخنة على يد الجد، الذي هو ابنها! الجدة الصغرى تعيد ختان ابنتها البالغة بعد فشل زيجتها الثانية على التوالي، البنت تموت إثر النزيف الناتج عن الختان بالقوة، إمام جامع يجهز “الصوفة” لامرأة لا تنجب من زوجها، إمام الجامع يطلب من زوجته أن يأتيها من الخلف! الجد يقذف الجدة الصغرى بـ “البُلغة” أمام أبنائها وأحفادها، حيوانات مثل القطط تُضرب وتعذب بدم بارد، انتشار خرافات تقول إن هذه الترعة ملعونة ومن يقترب منها أو ينزل فيها سيصبح منحوسا، ادعاءات بأن من تعاني العقم ستشفى منه لو اغتسلت في بئر ما، الجد تزوج 6 مرات على الجدة ومرتين بعد وفاتها، كل المشاكل يتولى علاجها الدجالون ومن يدعون تسخير الجن، الأب يسطو على ميراث أخته.

كلها مشاهد رأتها عينا يوسف، الذي يتحدث عن الجد فيقول “لم يكن يفرق بين الماشية والدواب وبين أهل الدار.. الكل عليه واجبات، والكل له أيضا حقوق، عدا النساء”، حتى أولياء الله الصالحين الذين يبالغ أهل القرية في التبرك بهم يجب أن يكونوا من الرجال، وكأن الله لا يصطفى إلاهم، “شيوخ قريتنا يقولون إن النساء لا يصلحون لهذه الوظيفة، ولا لهذا الشرف الرفيع. هن لا يصلحن إلا للمعاشرة والرقى والأحجبة والبكاء في المآتم والأفراح، للعمل جنبا إلى جنب مع البهائم وبقية كائنات الله البكماء”.

بوفاة الجدة الكبرى، ضعُف الجد لإحساسه بالذنب، مع ضعفه نجح الأبناء في تقسيم الميراث، أكلوا حق أختهم، قرر الأب الذي يكره الفلاحة وحياة الفلاحين تحقيق حلمه بالسفر إلى القاهرة مع ميراثه وأسرته.

في المدينة

يوسف الآن في المدرسة الثانوية، سيسكن مع أسرته شقة صغيرة في الدور الأرضي في بيت بمنطقة شعبية. من فرط ضيق الشقة حولوا المنور إلى غرفة له، انتهى زمن البراح الريفي.

سيكون مطلوبا منه أن يستيقظ فجرا كل يوم للذهاب إلى الورشة كي يساعد في المصاريف، وفي مواسم المدارس سيلتحق بالورشة بعد العودة من المدرسة، ليعيش المراهق الصغير وسط المكابس وألواح الكاوتش ومكن “الدرفيل” الذي يبتلع أصابع وأيادي العمال.

مدة العمل 15 ساعة يوميا، وصاحب الورشة رأسمالي صغير، يضحك على العمال بوجبة لحم كل جمعة لا تكلفه الكثير، بينما يتقاضون منه ملاليم أسبوعيا بعدما يُطلب من كل فرد طوال الأسبوع القيام بما يفترض أن يؤديه 5 عمال أو أكثر.

ولأن قوانين العمل تمنع عمل تلاميذ المدارس في تلك الأعمال الخطرة، أقنع صاحب العمل، الأب، بأن يتخلى عن التأمين على ابنه حتى لا يضطر للاعتراف أمام موظفي التأمين بأن ابنه تلميذ، تواطأ الجميع -مع الفقر- كي يدفعوا بالمراهق نحو التهلكة.

بعد عدة أشهر، رأى الحاج “صاحب الورشة” أن يوسف أتقن المهنة ويمكن أن يقف على الماكينة الكبيرة، وهذا سيقفز براتبه الأسبوعي قفزة محترمة، قالت الأم: “ألا يوجد خطر على حياته؟”، سكت الأب، فوقعت الواقعة.

قالوا له في البداية: “انتبه وكن متيقظا ليديك، هذه الماكينة مخادعة مثل الحية”. وذات مرة، هجمت المكنة الدرفيل على يده فهشمت أظافره، وكادت تبتلع أصابعه، فهلع الجميع، إلا صاحب الورشة، الذي جاء على الصوت، وشاهد الدم ينزف من يد الصبي، فما كان منه إلا أن قال: “اربط يدك وحاول تكمل شغل”.. ياه، إنها مدينة بلا قلب!

اتضح أن الوضع لا يسمح بالعمل، فاصطحبوا يوسف للمستشفى، وطلبوا منه ألا يخبر الأطباء بأنه تلميذ، وأن يقول أنه هو الذي جرح نفسه بالخطأ، وذلك مقابل العلاج على نفقة الحاج مع مبلغ محترم سيدفعه الرأسمالي الصغير.. إنه مشهد يذكرك بفيلم “مستر كاراتيه”، حين دهس نجل أحد الأغنياء قدم السايس “صلاح” بسيارة أبيه، فعالجه الرأسمالي -غير الصغير- على حسابه، وأراد أن يعطيه شيك بألف جنيه كتعويض عن القدم التي أصبحت شبه عاجزة! بالمناسبة كان “صلاح” أيضا قادما من إحدى القرى إلى العاصمة، ليذوق فيها طعم القهر وانعدام الأمان.

عندما نبتت أظافره من جديد بعد 3 أسابيع، عاد يوسف إلى الورشة مرة أخرى.

الضحية الثانية كان زميله “سعيد”، أمهر عمال الورشة، والذي ابتلعت الماكينة زراعه بالكامل، ليتحول بعدها إلى عامل عادي، يؤلمه ذلك، فيموت كمدا. يدرك جميع العمال المأساة، فيقررون الإضراب بحثا عن حقوقهم، عمل شاق خطير، وملاليم لا تسد جوعهم، لماذا الانتظار؟ لكن أحد العمال الموافقين على الإضراب يخونهم ويشي بهم عند صاحب الورشة، فيفشل الإضراب، ويدرك يوسف أنها مدينة القهر والخيانة والموت.

بينهما

القول الفصل يكون لقصص الحب دائما، تَقبُّل المدينة من قروي يحتاج امرأة، أو قل يحتاج حنان امرأة.

كبر يوسف ودخل في قصة حب متأرجحة مع من قالت له ذات يوم: “شرطي هو الفرح”، لم تقصد بـ”الفرح” العرس، ولكن تقصد الفرح بمعناه الثابت في اللغة، “إذا أردت أن تحب، فتعال؛ وإذا أردت ان تفعهم، فاذهب ثانية إلى المدرسة؛ وإذا أردت حنان الأم، فدعني وشأني. اذهب إلى حضن أمك، أو ابحث لنفسك عن مربية.. أنا امرأة للحب”.

للأسف هذا ما قالته، وللأسف كان يوسف كأغلب القرويين يريد أن يفهم! ويبحث عن حنان كحنان الأمهات.. يريد أن يفهم أسرار هذا التناقض بين بيئتين لم يرض عن كلاهما، ويبحث عن حنان الأمهات الذي لا يعرف غيره لتعويض غياب الأمان.

تقول له ذات مرة: “أنت على سبيل المثال، عندما يكون أمامك اللحم والأرز، تمد يدك لتأكل اللحم بالخبز، وهذا غريب. ولكنه مفهوم، ويرجع لتربيتك القروية”!

يريد أن يخبرها بأن “قطعة الخبز يمكن أن يستخدمها الإنسان ليس فقط مع اللحم، وإنما مع الأرز والمعكرونة والملوخية والبامية. وفي أسوأ الأحوال مع الماء، في حال لم يكن هناك غير الخبز والماء. فاللحم لدى الكثيرين في القرى، يعد ترفا ورفاهية لا يتحققا إلا مرة أو اثنين في الشهر. فعن أي خبز وأي أرز وأي لحم يدور الحديث؟”.. أراد أن يخبرها بكل ذلك، لكنه تراجع حتى تصفه بأنه “مجنون وغير طبيعي ومعقد نفسيا؛ وأنها لم تكن تقصد أبدا، بجملتها العابرة، أن توجه أي إهانة له أو لغيره!”، كثرة هي الأشياء التي يتراجع القروي عن قولها لحبيبته بنت المدينة، كثيرة هي الأشياء وكثيرة هي العوائق!

أدرك أن قصته محكوم عليها بالفشل، بدأ يفكر في العودة إلى قريته، “ثمة مدينة تنتزع منك شيئا ما، قد تمنحك حلما قديما بتحقيق أحلامك الصغيرة البائسة. ولكنه سيبقى محض حلم وأنت لا تستطيع أن تحصل على أنصاف الأشياء وأشباهها، إنها تنتزع ذلك الشيء الذي ولد معك وكبر هناك بعيدا عن ضوضائها وبناياتها الضخمة التي تشعرك بضآلتك وعدم جدوى وجودك”.

إنها رواية جذابة مثل عنوانها، والذي لا يعبر كثيرا عن محتواها، فجملة “شرطي هو الفرح” جاءت على لسان شخصية ظهرت في صفحات قليلة وهي حبيبة البطل، علاوة على أن الرواية بها ما هو أعمق وأغنى ولم يعبر عنه العنوان من قريب أو بعيد.

لا يؤخذ على الكاتب سوى حيرته بين استخدام الفصحى والعامية في إدارة الحوار بين الشخصيات، ولا يؤخذ عليه أنه لم يقدم حلا لأزمة الأصالة والمعاصرة، فيبدو أنها مشكلة بلا حل، وإن كنا نقول، إذا كان البطل معنِي بشكل كبير بتغيير واقع القرية والمدينة فليسأل نفسه، هل يمكن تغيير واقع المدينة من القرية، أم أن الممكن هو تغيير واقع القرية من المدينة؟ الحقيقة إن تغيير واقع الاثنين سيكون من المدينة، وهنا سنعود إلى السؤال الأهم، هل يمكن لفاقد الأمان أن يشارك في تغيير شيء؟

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم