شخصيات سعد القرش العالقة بين الواقع والأسطورة في “بادشاه”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أشرف الصباغ

في مجموعته القصصية الأخيرة “بادشاه”، يُحَوِّل الكاتب المصري سعد القرش الأفكار، برشاقة، إلى معادلات سردية تتأرجح بدورها بين الواقع والأسطورة. يستدعي التاريخ، لا ليحاكمه، وإنما ليسرده في مونولوج داخلي، كما في قصة “مناجاة”، أو ليعرضه من خلال “السجن” أو “الجنة” أو “حيرة العقل”، كما في قصة “الداخل”. هاتان القصتان تمثلان رحلة طويلة داخل النفس، وداخل العقل الحائر المشحون بالكثير من التفاصيل والأبطال والأحداث. فتتحول “المناجاة” إلى أحداث كأنها تجري “هنا والآن” من فرط واقعيتها- التاريخية- الأسطورية. وتعقبها، حسب ترتيب القصص في المجموعة، قصة “الداخل” التي تمثل استمرارًا للرحلة، لكن الأفكار فيها تبدو كما لو كانت تسير إلى أعلى، تتجه نحو فضاء لا نهائي، ربما يحمل صفات “الجنة”، وفي نهاية المطاف ينتهي الأمر بأن لا أحد هناك، حيث من المفترض أن يكون هذا “الأحد” تحديدا هناك. وعندما تحدث المفاجأة ينفتح العقل على الجحيم الذي لا يختلف كثيرا عن جحيم الواقع، وما يعيشه الإنسان المعاصر.

هذه الرحلة التي تتكون من مقطعين: “مناجاة” و”الداخل”، تمتلك نَفَسًا شاعريًا، وفضاءً ذهنيًا يفرض نفسه على السرد والحدث، على حدٍ سواء. هنا، يبدو الإنسان حبيس جملة من العناصر التي تحكم وجوده وحركته، وحركة عقله من جهة، وتُوَجِّه أفكاره ومشاعره نحو الأسئلة الصعبة من جهة أخرى. ولكن ماذا بشأن هذا الإنسان العالق في هذا الفضاء الخانق من الغضب وقلة الحيلة والضعف والإحساس بالمهانة؟ ماذا بشأن هذا الإنسان الحائر الذي يحشون رأسه بكل الأفكار والأساطير والتواريخ والأحداث الممكنة، ثم يكتشف خلال الطريق، وكلما خرج من حفرة ليسقط في أخرى، أن الأمر ليس كذلك إطلاقًا؟

يبدو أن اللجوء إلى “المناجاة” و”الدخول”، سواء إلى السجن أو الجنة، أو حتى إلى المجهول، نتيجة لشيء ما، وربما نتيجة وسبب في آن معًا. لا أحد يعلم. ولكن المجموعة القصصية تبدأ بقصتين (“بادشاه” و”البحث عن شيطان”) تضعان النقاط على الحروف ولو بشكل مؤقت، إلى أن نتمكن من “عقلنة الأمر”.

يصمم سعد القرش نموذجًا واقعيًا للأسطورة. فبدلًا من أسطرة الواقع كما يجري عادة في الأدب، قرر أن يحول الأسطورة إلى تفاصيل واقعية، عبر حكاية بسيطة للغاية تحمل تفاصيلَ تتراوح ما بين الأسطورة الكبرى والأسطورة الصغرى: بين أسطورة الخلق وأسطورة نوح. وما بين الأسطورتين، يحكي السارد عن أحداث واقعية تمامًا، تجري بأشكال ودرجات مختلفة للكثيرين في كل جيل. وإذا نظرنا في الحكاية نفسها، سنجدها حكايتنا نحن، وحكاية الأجيال والبطون السابقة، والمقدمات التي أدت لكل النتائج الحالية، و”كأن لدى رب السفينة علمًا مسبقًا بالكارثة (ص 9)”.

إن كلمة “بادشاه” هنا لا علاقة لها بـ “بادي شاه” (التي تعني “السيد الملك” في الفارسية)، ولا حتى بالإمبراطور أو الشاهنشاه، أو المهراجا. إنها تعني الواحد والكل وتحمل كل قدراته، ما يمنح القصة دلالات أكثر عمقًا واتساعًا. وحتى في حالة أنسنة المعنى وتحويله إلى شخص، فإن الدلالات تصبح أكثر واقعية، لأنها ببساطة تشير بوضوح إلى واقع مؤلم وبائس.

في هذه القصة، ينمو السرد ويتطور في هدوء، وبكلمات وجمل محسوبة، حاملًا معه أحداث شحيحة للغاية، لأن الناس لا يفعلون شيئًا تقريبًا سوى الدعاء والتسابيح والابتهالات، شكرًا وعرفانًا بجميل ولي النعم على كرمه ورعايته. هنا لا مكان للعقل ولا التفكير ولا التدبر. هنا يوجد فقط القلب والوجدان والمشاعر، والتفكر والنفخ في المعجزات والكرامات واجترارها، وتضخيمها والعيش عليها كهدف أساسي للوجود. ولا شيء آخر.

وفي قصة “البحث عن شيطان”، يتواصل السرد، كأنه امتداد لنفس موضوع قصة “بادشاه”. وإذا شئنا الدقة، فإن ما يمكن أن نراه من نتائج وتجليات قصة “بادشاه”، يمثل شكلًا من أشكال المتغيرات للمعادلة الجديدة في “البحث عن شيطان”. إننا هنا بصدد ليس فقط تفسير ما يجري لنا، وحولنا. بل ترتيب الأحداث والخطوات التي تتوالى وتتعاقب في نظام مذهل، لنحصل في نهاية الأمر على معادلة موزونة تماما، وعلى نتائج لا نراها فقط بأعيننا، بل نعيشها ونجربها على عقولنا وأجسادنا وأرواحنا.

إن مبروك وسنية في قصة “بادشاه”، يعقبهما رمضان وسكينة في قصة “البحث عن شيطان”، وكأن لا شيء تغير منذ البدايات الأولى. هناك فقط صور لبشر، تتكرر بشكل مدهش أحيانا، وخانق وثقيل في أحيان أخرى، وربما مثير للضيق والانزعاج من تكرار الأمر وكأن لا عقل في كل تلك الرؤوس، أو ربما يفضل أصحاب الرؤوس الخالية من العقل هؤلاء نمط حياة مريح، ومُربِح. إنها حكايتنا التي ولدتها الأسطورة، حكايتنا الآنية وحياتنا “هنا والآن” وإن كانت قد جرت أحداثها في أزمنة سابقة في الحياة، وخلال السرد أيضا.

تبدو المجموعة منقسمة إلى ثلاثة أجزاء. يشغل الجزء الأول منها نصفها تقريبا، من حيث عدد الصفحات التي تضم القصص الأربع المشار إليها أعلاه. ثم يأتي الجزء الثاني المكون من قصتي “الفرارجي” و”ذاكرة المرايا”، لندخل إلى منطقة وعي جديدة، حيث يتم في القصة الأولى، التي تدور أحداثها في الريف، إعادة ترتيب العالم، وإبراز مواضع البؤس والألم في منظومة العلاقات الاجتماعية، واللجوء إلى الحيلة والغموض من أجل الاستمرار. هذه القصة تجسد معنى قسوة الإنسان وهشاشته، ومحاولاته اليائسة بهدف الحفاظ على وجوده البائس المُعَرَّض للتلاشي في أي لحظة. ولذلك، يصر الأب “الفرارجي” على توطين “نظرية البيضة” بكل دلالاتها وإسقاطاتها ومعانيها، بما في ذلك اللغوية، ليس فقط في رأس ابنه “عبده”، بل وأيضا في حياته، لتصبح معجمه وقاموسه في التعامل مع هذه الحياة والتحايل عليها وعلى ألاعيبها. إن ضغوط هذا الواقع، وإن كانت الأحداث تدور في فترة تاريخية سابقة، في بقعة جغرافية نائية، تجعل الإنسان يتوارث الخبرات، ويوَرِّثها، مهما كانت سلبياتها وإيجابياتها. الخيارات هنا شحيحة للغاية، ويبدو الإنسان في هذا الواقع مسلوب الإرادة والرغبة، ومجرد تماما ليس فقط من الاختيار، بل ومن إنسانيته أصلا. وبالتالي، فلا مفر من التحايل، وتوريثه، والوصول إلى فكرة “القوة” ومفرداتها ومكوناتها: كيفية الحصول عليها وحمايتها، واستخدامها، سواء بمفردها (أموال علاقات) أو بالتحالف مع السلطة.

وهنا تأتي قصة “ذاكرة المرايا” في عدة أساليب سردية على لسان سائق عسكري بسيط اختلطت عليه الأزمنة، سواء بحكم المرض أو السن أو ضعف العقل، وربما عمق الرؤية، ليطرح علينا جملة من الحوادث التي تمثل جزء مهمًا من التاريخ خلال خمسة عشر عاما، بداية من أحداث حرب أكتوبر 73 حتى حرب الخليج وغزو العراق وتحرك القوات المصرية إلى خارج حدود البلاد. وفي مركز الحدث الخلاف الذي وقع بين الرئيس السادات وسعد الدين الشاذلي. من خلال مونولوجات وتداعيات ورؤى السائق البسيط، نصبح على علم بما يدور في نفس القائد العسكري المنتصر الذي تمت إقالته وإبعاده عن دوره ووظيفته وهو في أوج قوته واعتزازه بنفسه وبانتصاره، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الإقالة. إننا هنا نرى الواقع بعيون، وباختلاجات قلب ونفس عسكري بسيط يسرد- ليس بدون انحياز لقائده- لحظات القوة والانتصار، ولحظات الإبعاد والهزيمة النفسية.

جاء الجزء الثالث من المجموعة تحت عنوان “خمسة أطياف”، ليضم خمس رؤى أو حكايات، كُتِبَت خلال الفترة من ديسمبر 1978 إلى مارس 1992. هذه القصص الخمس تختلف بأشكال ودرجات متفاوتة عن القصص الست الأولى في المجموعة، من حيث العالم السردي، والشخصيات، وحالات الغموض المحيطة بالأحداث. لكنها في كل الأحوال، قصص تستعرض جانبًا مؤلما وغير سري من حياة البسطاء في أماكن بسيطة وفقيرة ومهملة، وربما نائية عن المركز والمدينة. أماكن بائسة بقدر بؤس ناسها والشخصيات التي نشأت وعاشت وأنجبت فيها. ويبدو أنها ستظل مقر إقامة أبناء وأحفاد هؤلاء الفقراء والمهمشين والبائسين لفترات طويلة في المستقبل.

مجموعة “بادشاه” للكاتب سعد القرش، تضم ثلاث قصص في غاية الأهمية من حيث البناء والعالم السردي وتنوع الشخصيات، وهي “بادشاه” (أبريل 2024)، و”البحث عن شيطان” (أكتوبر 2024)، و”الفرارجي” (يناير 2024). وأهمية هذه القصص الثلاث لا تنتقص من أهمية وعوالم وشخصيات القصص الأخرى. لكن وجب التنويه ولفت الانتباه إلى هذه القصص الثلاث لما تتميز به من مرونة سردية ورؤية مشهدية، ولما تنطوي عليه من بنية سردية محكمة وثرية تحشد بداخلها العديد من الدلالات والرؤى الإنسانية والدرامية.

مقالات من نفس القسم