علي الدكروري
استيقظنا على صوت صراخ امرأة.. أصابنا الفزع فخرجنا بسرعة أمام المنزل، فرأينا امرأة نحيفة سمراء، تبدو في الخمسينات من عمرها، تجري نحونا وهي تصرخ، بينما يطاردها رجل قصير قد رفع جلبابه بإحدى يديه، وبالأخرى يحمل عصًا كبيرة..
دخلت المنزل، وعندها توقف الرجل الذي كان يطاردها.
خرج إليه أبي، وعندما رآه ألقى ببصره على الأرض، فربّت أبي على ظهره، ثم دخل معه البيت.
تناول الجميع الإفطار، ولم يتحدث أحد في شيء.. إلا حين قال لها أبي: “قبّلي رأس زوجك”، ففعلت، وبعد قليل صحبها من يدها وانصرفا.
أصبح الأمر بعد ذلك مألوفًا لنا، فقد صار يتكرر مرة على الأقل كل أسبوع.
ما كان يشغلني أن بين بلدهم وبلدنا مسافة كبيرة، فكيف يركضان وهما في مثل هذا السن؟
ولماذا تأتي عندنا نحن بالذات؟
علمت فيما بعد أنها تقرب لنا من بعيد.
المرة الأخيرة التي طاردها فيها كانت وهما يجهزان للحج، ويومها قال لهما أبي: “لعل الحج يصلح حالكما”.
ولعل إصلاح حالهما قد حدث بموت زوجها عقب الرجوع من الحج، فصارت تتردد علينا كثيرًا، وكانت أمي تعطف عليها،
وكثيرًا ما أرسلتني لها بالأرز والسمن واللحم، فكانت تتأمل ما أحمله وتلقيه جانبًا، ثم تقول لي بغضب: “أين السجائر؟”
كانت الحاجة ونيسة هي المرأة الوحيدة في المنطقة التي ضربت شهرتها الآفاق، لأنها تدخن السجائر بشراهة، ولا تخجل من ذلك.
وكانت تتشاجر مع أولادها، ويتهمونها بسرقة الدخان، فتثور عليهم وتقول: “أليس لي رأس مثلكم؟”
كان كل ما يسعدها أن أشتري لها علبة سجائر فقط، ولا تهتم بالزيارة التي أحملها لها، وحين قلت لأمي: “نُحضِر لها ما تريده فقط”، قالت: “حرام يا بُنيّ”.
أصبحت بعد قليل تزورنا وتجلس معنا بالأيام، وكانت تحب أفلام فاتن حمامة، وتبكي قبل أن يبدأ الفيلم وتقول: “يا رب لا يؤذيها أحد، ولا يستغلها أحد”.
وتظل تبكي طوال الفيلم.. كانت تقول إن فاتن طيبة وكسيرة الجناح، وليس لها حظ مع أحد، وحين تزوجت محمود ياسين في فيلم أفواه وأرانب، قالت: “يا رب يحافظ عليها ويحميها من الممثلين الأشرار”.
أما حين كانت ميرفت أمين تنزل السلالم، قالت الحاجة ونيسة: “هذه أجمل بنت في مصر”، فسقطت ميرفت أمين من على السلم، فنظرت لنا الحاجة بحزن وقالت: “والله لم أحسدها يا أولادي”.
وظلت بعد ذلك كلما رأتها في فيلم تقول: “منذ سقطت، وهي غير قادرة على الكلام جيدًا، ولا على الحركة”. وغالبًا نكتم الضحكات حتى لا تغضب منا.
كنا في موسم الحصاد، والفلاحون يستخدمون مِسَلّة كبيرة لخياطة أجولة الأرز، وكانت المسلّة آلة ضرورية في موسم الأرز، فقال لها أبي: “خذي المسلة وضعيها في مكان آمن حتى لا تضيع”.
حملتها الحاجة، وظلت تطوف في البيت لتبحث عن مكان آمن.
أخيرًا وجدت الحل حين رأت ثقبين في مقبس الكهرباء، وضعت المسلّة في أحد الثقبين، فأمسكت بها الكهرباء،
وظلت ترتعد، وأختي تراقبها ولا تدري ماذا تفعل، ولحسن الحظ ألقت بها صدمة الكهرباء على الأرض، فجرحت وغابت عن الدنيا..
صرخت أختي، فجرينا من كل صوب، فوجدناها في حالة إغماء، وحين أفاقت.. اطمأنّ عليها أخي، وناولها سيجارة، فانفجرنا بالضحك.
اعتدنا على وجودها بيننا بعد فترة، وصِرنا نحبها، لكننا كنا نتوسل إليها ألا تدعو لأحد، لأنها كانت تخطئ..
وكانت تفاجئها الميم بعد قول “يا رب”، فتكررها فتنفي الدعاء.
تتلعثم فتقول: “يا رب م م م م م يكرمك”، فيصير الدعاء: “يا رب ما يكرمك”.
وكان ابنها يمزح معها فيقول لها: “هل أنت راضية عنا؟”، فتقول: “نعم”، فيقول لها: “إذًا، لماذا لا تدعين علينا؟”
زارت بيت ابنها الجديد، وتجولت فيه وهي تزغرد، فقال لها: “هو ضيّق قليلًا يا أمي”،
فقالت: “ليس ضيقًا، إنه جميل. اللهم ضيّقها عليكم أكثر وأكثر!”
الشجرة التي زرعتها أمام بيتنا كبرت، وصار الأطفال يأكلون منها، وأسموها “شجرة ونيسة”، وكان توتها مختلفًا وجميلًا، ويحكي الجميع عن حلاوته.
كانت تصلي بعد أن ينام الجميع، رغم أنها ظلت تحاول حفظ الفاتحة ولم تفلح، وحين سألتها: “ماذا تقرئين في الصلاة؟”، قالت: “أقول يا رب.. أليس هذا يكفي؟”
قبل أن تموت طلبت سيجارة، وأخذت نفسًا عميقًا، ولم تفاجئها الميم هذه المرة عندما قالت: “يا رب اغفر لي”، وتشهدت، ثم ماتت.